أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. في اجتماع اللجنة المركزية الذي سبق ببضعة أيام انقلاب هواري بومدين ضد أحمد بن بلة، دارت المناقشات حول قضايا تنظيم القطاع الزراعي، ولم يتناول المجتمعون الذين يُفترض أنهم كانوا يمثلون أعلى جهاز في الحزب الحاكم الأزمة الحادة القائمة في قمة الدولة، بين الرئيس ووزير الدفاع. لقد كانت هذه الأزمة معروفة، في الشارع، وكانت موضوع مراهنات السفارات المعتمدة في العاصمة ومحور مناقشات الوسط الإعلامي والسياسي. والجزائر العاصمة هي مدينة الشائعات بامتياز. والشائعات التي تنطلق منها لها في أغلب الظن، نصيب من الصحة. وفي بداية صيف ذلك العام، كان جميع الصحفيين والسياسيين والدبلوماسيين، وكذلك جميع أعضاء اللجنة المركزية للحزب يعرفون أن القطيعة بين أحمد بن بلة، الأمين العام لحزب جبهة التحرير ورئيس الدولة وبين العقيد هواري بومدين وزير الدفاع وعضو المكتب السياسي، أصبحت نهائية، ولابد أن تكون خاتمتها أن يترك واحد منصبه. وما زلنا نذكر أننا نشاهد أعضاء اللجنة المركزية يناقشون جدول أعمال اعتيادياً وكأن الوضعية عادية تماما. وبعد ذلك الإجتماع خرجت شائعات قوية تؤكد أن الرجلين قد تفاهما. وحين شاهد سكان العاصمة مدرعات الجيش تحتل المواقع الإستراتيجية في صبيحة يوم السبت 19 يونيو قالوا إن الأمر يتعلق بفيلم «معركة الجزائر» الذي كان يعده مخرج إيطالي، بالتعاون مع ياسين سعدي مسؤول وحدة الفدائيين التي خاضت المعركة الشهيرة ضد رجال مظلات الجنرال فاسو. بل إن جريدة الشعب الرسمية التابعة لوزارة الإعلام صدرت في ذلك اليوم تحمل العنوان التالي : «اليوم يفتتح الرئيس المعهد النقابي في البلدية»، ثم صدرت يوم الاثنين (21 يونيو) بعنوان «سقوط الطاغية». اللحظة الثانية تمتد من نهاية شهر ديسمبر 1978، حتى بداية شهر فبراير 1979، أي تلك الفترة الزمنية الحرجة الفاصلة بين وفاة هواري بومدين واختيار الشاذلي بن جديد خليفة له. طوال تلك الفترة، كان الإنطباع السائد هو أن المعركة تدور بين شخصين : محمد الصالح اليحياوي، مسؤول الحزب وعبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية. وقبل أن ينعقد المؤتمر الإستثنائي لحزب جبهة التحرير الوطني، كانت العناصر المؤثرة في الجيش، قد اختارت من خلال مجلس قيادة الثورة، أن يصبح الشاذلي بن جديد رئيسا للجمهورية وأمينا عاما للحزب. لقد اختار الضباط النافذون في القطاعات العسكرية، وخاصة العاملين منهم في جهاز «الأمن العسكري» هذا الرجل باعتباره واحدا من أقدمهم وأعلاهم رتبة، واختاروه أيضا لكونه واحدا من الضباط القلائل الذين رفضوا الخضوع لبومدين. تم اختيار الرئيس-الخليفة إذن، حتى قبل أن ينعقد مؤتمر الحزب، بل إن صورة طبعت في بوسترات هائلة في مطبعة المفوضية السياسية للجيش الوطني الشعبي، حتى من قبل أن يلتم شمل المؤتمر، لقد طُبعت الصور بالآلاف للعقيد الشاذلي بن جديد بصفته المرشح الوحيد لحزب جبهة التحرير الوطني، حتى من قبل أن يُحدد تاريخ المؤتمر. ومع ذلك، فقد استمر «خبراء» الشؤون الجزائرية، واستمر الرأي العام بتحليل الوضع الجزائري من خلال الصراع الظاهري بين بوتفليقة واليحياوي. اللحظة الثالثة هي الإجتماع الأخير الذي عقده مسؤولو الحزب في الولايات بنادي الصنوبر (يوم 18 سبتمبر) وألقى فيه الشاذلي بن جديد خطابه التاريخي الذي أشرنا إليه في الرسالة السابقة. والعنصر المشترك بين هذه اللحظة الثالثة واللحظتين الأخريين السابقتين، هو تلك الفجوة العميقة بين النشاط الرسمي العلني والمعلن وبين الواقع التاريخي الملموس. فبعد أيام فقط من ذلك الإجتماع انفجرت الإنتفاضة الدموية، التي استعرضت الصحف اليومية وقائعها الدامية بانتظام. ولا شك أنه سوف يمضي بعض الوقت قبل أن نعرف بالضبط وزن وحجم وطبيعة الصراعات الدائرة في القمة، في صياغة ومسار ما يمكن أن نسميه منذ الآن «أكتوبر الأسود». في انتظار انكشاف بعض الجوانب الغامضة، هناك عدة أحداث سابقة ومواكبة لهذه الإنتفاضة، لم تعرها تقارير الصحف اليومية ما تستحقه من اهتمام، كما أن هناك وجوها وأدوارا نريد أن نتوقف عند مواقعها لإلقاء بعض الضوء اليسير على هذا الزلزال الذي نعتقد أنه سيغير وجه الجزائر، وربما ساهم لاحقا في تغيير وجه المغرب العربي. ثلاث كلمات يمكن أن نختصر فيها متاعب الحياة اليومية التي ذكرت كل التقارير الصحفية أن الجزائر تعاني منها. والكلمات هي : الماء والموز والبطاطس. ومن الظواهر المثيرة للإنتباه أن الجيش الجزائري، بإطلاقه للرصاص الحقيقي على المتظاهرين، وبقتله للمئات من الشبان والأطفال، أطلق الألسنة أيضا، وجعلها تتحدث بعد أن كانت خرساء، وقتل كثيرا من المحرمات والممنوعات. والناس في الجزائر العاصمة ووهران يتندرون مثلا، هذه الأيام على وفرة المواد الإستهلاكية، التي كانت مفقودة في الأسواق، وأغرقتها فجأة أثناء حظر التجول. وليس سرا أن الجزائر، عاشت سنة في الجفاف، أثرت في الإنتاج وفي المحصول الزراعي، وأسفرت عن ندرة لبعض المواد الأساسية. وقد أدى الجفاف إلى تفاقم مشكلة المياه في المدن الجزائرية الكبرى ولاسيما في العاصمة. إن هذه المدينة تشكو منذ سنوات من خلل في تزويدها بالمياه الضرورية. وهذا الخلل ناتج عن أن التجهيزات الأساسية لم تتغير منذ الإستقلال. لقد ازداد الضغط والطلب، من دون أن تتوسع المصادر والقنوات. ما تزال المدينة تعيش على الهياكل القديمة التي أعدت لثلاثة أرباع مليون مع أن سكانها اليوم ثلاثة ملايين. وقد قامت انتفاضة في حي القصبة التاريخي، أي المدينة القديمة المعروفة ببسالتها أيام النضال التحريري ضد الإستعمار الفرنسي. قامت انتفاضة حقيقية في ربيع عام 1985، بسبب انقطاع المياه نتيجة للإصلاحات التي بدأتها السلطات من أجل تغيير الشبكة العتيقة وجرت حرب عصابات حضرية بين الأهالي وقوات الشرطة والدرك، أطلق عليها بعض الظرفاء «معركة الجزائرالجديدة» تذكيرا بالقتال الملحمي الذي دار بين سنتي 1956 و1957 بين تنظيم الجبهة في العاصمة وبين وحدات المظليين الفرنسيين بقيادة الجنرال فاسو. لقد حصلت أعمال نهب وتخريب تعبيرا عن تذمر السكان من افتقاد المياه، وقال لنا صديق جزائري من حي القصبة إن الشبان الذين اصطدموا مع أجهزة الأمن، تعلموا فنون الكر والفر، ومبادئ حرب العصابات داخل دروب القصبة، من خلال مشاهدتهم لفيلم «معركة الجزائر» الذي بثته التلفزة الجزائرية أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة خلال السنوات الماضية. وأثناء تمرد حي القصبة، في ربيع 1985، وجد سكان المدينة أنفسهم وجها لوجه مع رجال الشرطة، وهتفوا ضدهم عدة مرات صارخين : «قتلة» وحين كانت تمر أمامهم سيارة تنقل رجال الدرك أو العسكريين كانوا يهتفون : «إنهم معنا». والجديد في الحاضر اليوم، قياسا إلى الماضي هو أن الشبان الجزائريين، وخاصة شبان الجزائر العاصمة أصبحوا يضعون كل ما يرمز إلى السلطة من شرطة ودرك وجيش في سلة واحدة. إن اتساع المواجهة، يقابله اتساع الرفض. لقد كانت مظاهرات ربيع 1985 محصورة بحي القصبة، وكان سببها الماء. أما مظاهرات خريف 1988 فقد شملت أحياء العاصمة كلها، بل انتشرت في جميع المدن الجزائرية، وكانت دوافعها وأهدافها مختلفة. وسكان القصبة حين تمردوا عام 1985 لم تكن لديهم أية مطالب سياسية، وإنما كانوا يترجمون إحساسا عميقا بالنقمة على حياتهم اليومية. لقد كان الناس، طوال السنوات الأربع الماضية يضطرون للنهوض في الساعة الثالثة صباحا لفتح الحنفيات من أجل الإستحمام، وغسل الثياب وملء الأواني بالمياه الصالحة للشرب. ولم تكن مشكلة المياه محصورة في العاصمة والمدن الكبرى، وإنما كانت تشمل أغلب مناطق البلاد. فمثلا شهدت مدينة الونزة، وهي مركز منجمي صناعي في شرق البلاد، بين عنابة وتبسة، شبه انتفاضة صغيرة في الصيف الماضي بسبب ندرة المياه. لقد انفجرت انتفاضة «الونزة» عندما شاهد السكان سيارة صهريجية محملة بالماء العذب تتجه إلى مركز مسؤول الولاية. هذه المرة أيضا كان الأطفال مصدر الحركة.