إن تكريم الأستاذ محمد سبيلا هو تكريس لقيمة الاعتراف والعرفان تجاه الأشخاص الذين نقدرهم والذين يتركون جلائل الأعمال لمجتمعاتهم وأوطانهم. والحديث عن الأستاذ محمد سبيلا وإنجازاته لا يكفي في هذا المقام، لذلك سأكتفي بالتذكير بحدثين رمزيين لإبراز المناقب الفاضلة للأستاذ سبيلا. الحدث الأول، وهو أنني كنت طالبا لدى الأستاذ بكلية فاس سنة 1982 فيما أظن . وكان الأستاذ يشتغل معنا حول فلسفة اللغة بمعدل حصة في كل أسبوع. كنَّا قلة من الطلبة في السنة الثالثة تخصص فلسفة عامة. وكان الأستاذ يفضل اعتماد طريقة التدريس بالنص. يمد الطلبة بالنص ويقرأه بعضهم، ثم يشرع هو في استنطاق أو استفسار مفاهيم النص وعباراته؛ ومن ثمة تنقدح شرارة الجدل والحوار الجماعي داخل الفصل. كان الأستاذ كعادته، في جلسته الهادئة في مكتبه، يدير الحوار ويتلقى تدخلات الطلبة وتأويلاتهم بنوع من الحذر والتحفظ؛ وكان يشفع ملاحظاته وتدخلاته بنوع من التريث والاحتمال. لا يفرض رأيه على أحد ويترك بخبرة البيداغوجي المحنك، يترك الاستنتاجات والاتفاقات تأتي من تلقاء ذاتها. أذكر أنه في إحدى الحصص من 5 إلى 6 مساءا تشعب الحوار حول نص من محاورة قراطيلوس لأفلاطون، وانتهت الحصة، وأخذ الليل يرخي سدوله، وأخذت أضواء القاعات والمدرجات تنطفئ الواحدة تلو الأخرى، وفرغت الكلية من الطلبة والضوضاء، إلاّ نحن، فقد فضل الأستاذ ألاّ نغادر الفصل، لأننا تورطنا في الجدال ولم نغنم بعد بشيء ما. وفجأة لاحظ الأستاذ سبيلا أن طالبة ذائبة الحركة في آخر القاعة تريد أن تغادر القاعة ولا تستطيع؛ فخاطبها الأستاذ بانفعال: مَا لَكْ مَنْ الصَّبَاح وانت غادْيَ جَايَ فُوقْ هَذَاكَ الكُرْسِي. يَا لله خُرْجِي يْلاَبْغِيتِي. أَنَا رَانِي دَايَرْ مْعَ مَرْتِي فَسَّتَّا وَاسْمَحْتْ فِيهَا. قد يبدو هذا الحادث جزئيا وعابرا، لكنه ليس كذلك. لو كان كذلك لما تذكرته اليوم بعد ثلاث عقود من الزمن. فذلك الحادث هو أشبه ما يكون بما يسميه فرانسيس بيكون ب «التجربة الحاسمة» في قواعده المنهجية. الحادث مؤشر على أخلاق جليلة وثابتة في مسار وحياة الأستاذ سبيلا المهنية والثقافية؛ وهي أخلاق المسؤولية والواجب وسلطة الضمير كأركان لأي مجتمع منتج قوي وفاعل فالضمير الخلقي ليس مسألة بسيطة كما يقول ماكسيم غوركي. الحدث الثاني الذي أذكره، هو ما حكاه لي أخي المرحوم عبد السلام؛ قد كان طالبا في السبعينات من القرن الماضي لدى الأستاذ سبيلا في كلية فاس؛ حيث أنجز تحت إشرافه دبلوم الدراسات العليا ثم دكتوراه الدولة لاحقا في الرباط. كان الأستاذ يدرس طلبته الفلسفة العلمية ل «هانس رايشنباخ» . هذا الإسم الأخير أثار لدى مجموعة من الطلبة، وكان الأخ من بينهم، أثار لديهم نوعا من التعليقات المازحة؛ فما كان من الأستاذ إلاّ أن أرغى وأزبد لأن نظام وطقوس القسم قد انتهكا؛ فخاطبهم قائلا: ولله لأعذبنكم عذاب النملة. ثم انتهى الموسم الدراسي وحلّ موعد الامتحان الشفوي، وجاء دور أخي عبد السلام فقال له الأستاذ سبيلا : ماذا تعرف عن المادية الجدلية . تكلم عن المادية الجدلية . بالنسبة للأخ كانت لديه مكتبة صغيرة وكانت هوايته هي بالضبط جمع مؤلفات وكتيبات المادية الجدلية والتاريخية. وكان لا يتردد في نسخ كراسات بأكملها ذات الصلة بالموضوع وذلك في دفاتر يكتب فيها بألوان مغايرة بعض المفاهيم والعبارات التي تبدو له هامة . وكجواب عن سؤال الأستاذ يروي الأخ أنه استظهر كل مقروءاته ومخزونه المعرفي في الموضوع . ولما انتهى ، هنأه الأستاذ سبيلا وسأله عن مهنة الأب ومكان الإقامة ؛ وحصل الأخ على علامة مشرفة . تهنئة الأستاذ لطالبه لها أكثر من رمزية . هي دليل تواضع وأخلاق عالية . هذه التهنئة هي المقابل الموضوعي لعبارته السابقة «والله لأعذبنكم عذاب النملة» . ومعنى هذا أنه لا شيء يعلو لدى الأستاذ سبيلا على الجدية والإخلاص في العمل والكفاءة المعرفية. فهذه الأشياء هي لدى الأستاذ معيار التقويم للأشخاص والمسلكيات . الأستاذ سبيلا مترجم بارع ومبدع ؛ أسلوبه في الترجمة رائق شائق لا لَيَّ فيه ولا عَيَّ ، يخلق لدى القارئ متعة القراءة والتعاطف مع موضوعها. وفي نظري فإنه لا أحد يضاهي قدرة ومهارة ذ. سبيلا في الترجمة على امتداد الوطن العربي . ذ. سبيلا من أعلام فكر الحداثة والتحديث. خبر أسسها ومداراتها ومسالكها الوعرة ومفاعيلها الجذرية . خاض معاركها منذ سنين ولا يزال. تحليلاته في هذا المجال نقدية عميقة وجريئة، تنضح بمرارة وهزء مبطنين تارة ، صريحين تارة أخرى، وذلك من خيبات الزمان الآسن. تحليلاته لا مهادنة فيها ولا تزلف ولا تزييف فيها للوقائع والحقائق؛ وذلك شرط الفكر الحداثي بحق. جال الأستاذ وصال في العلوم الإنسانية، وأعمل مبضعها في تشريح المجتمع التقليداني، وتشريح الطبيعة البشرية والكشف عن مساحيقها وتناقضاتها ونزواتها العميقة والمتحكمة. ومن الجدير بالذكر، وفي ذات السياق، فإن الأستاذ سبيلا هو من أدخل فكر ألتوسير وغيره لكلية فاس ؛ وكون حلقة طلابية فكرية كان يسميها حلقة ألتوسير، وكانت مكلفة بإنجاز بحوث في فلسفة ألتوسير وما أدراك ما ألتوسير. ذ. سبيلا له أيادي بيضاء في تكوين وتأطير جيل من الطلبة والأساتذة في مختلف الأسلاك التعليمية. لذلك فهو أحد أعمدة الجامعة المغربية في تطورها التاريخي ؛ وهو أيضا أحد أعمدة الثقافة المغربية والعربية . لا يمكن أن أمر دون التنويه بأن وقائع عديدة دليل على أن ذ. سبيلا نموذج إنساني لا يطيق الإدعاء والإنتهاز الفج والضحالة والإسفاف؛ ولا يتوانى في مواجهة كل هذا بما يملك وما يستطيع. عادة ما لا أرى ذ. سبيلا إلاَّ لِماماً وفي أوقات متباعدة. وآخر مرة التقيت فيها سبيلا كانت منذ 3 أشهر تقريبا؛ وكان ذلك في مكتبة الألفية الثالثة . كان الأستاذ يهم بالخروج من المكتبة ، فذهبت لمصافحته وسألته مازحا: ألا زلت تقتني الكتب يا أستاذ . فأجابني مازحا أيضا: إِيْوَا أَشْغَادِيرْ. إِنَّهَا الْبَلْيا. ثم أضاف: إنها المقاومة. ولا أراني إلاَّ متفقا مع الأستاذ على أن القراءة والكتابة لا عمر لها، وهي السبيل لمقاومة الشر والقبح والموت المادي والرمزي. فالأستاذ يعرف قبل غيره أن الأثر لا يموت . الأستاذ سبيلا، الكلام لا يوفّيه حقه. الأستاذ سبيلا من أساتذة و رجالات المغرب الاستثنائيين. أطال الله في عمره وحفظه ذخرا لطلبته ومجتمعه ووطنه. --------------------------------- (1): الكلمة التي ألقيت بمناسبة تكريم الأستاذ محمد سبيلا في وكالة المغرب العربي للأنباء . وقد أشرف على تنظيم هذه المبادرة الطيبة جمعية الفكر التشكيلي بدعم من وكالة المغرب العربي للأنباء، وذلك يوم الخميس 21 يوليوز 2016.