تعتبر مجموعة لطيفة باقا (منذ تلك الحياة)، الثانية في مشوارها بين أضمومة (ما الذي نفعله) التي فازت بجائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب، ومجموعة (غرفة فيرجينيا وولف) التي لاقت التفاتة نقدية مهمة، وحسن تلقي سريع مكن لها مكانة مريحة، وسط المجاميع القصصية البارزة في الأوساط الثقافية اليوم. طوال الوقت كانت لقصص لطيفة باقا وأناقتها الفنية، مساحة دفء كامل داخل قلبي، إلا أن مجموعة منذ تلك الحياة احتفظت بمكانة خاصة لدي- كما لكثرين - داخل منجزها، هذا الذي يصير له أن يحدث انتباها لما خطته في تأني كامل، داخل فضاء القصة القصيرة: موصولة الذكر بالحداثة من حيت النشأة والتطور وسهولة التموقع في وصف فن إبداعي، فاعل في تكوين الخيال العمومي، والأكثر قدرة على عكس صورة تفتت الوجود الإنساني ،وكشف تعقيداته في اختزالية صادمة فاتنيتها. إن العلاقة التي تربطني بقصص لطيفة باقا، هذه الباذخ عاملها، يرتسم عن الإدراك والاستجابة لوقع اللإثارة اللحظي الذي تحدته، ما يجعل الانطباع حالتي، والتدبير القرائي هو ما أحاول بسط سيطرتي عليه، نصغ هذه الورقة. فلهذه القصص معياريتها التي تميزها عن الخارج الواقعي، في ماديته وصياغته، بفاتنية بالغة الكرم مبسوطة على فضائها النصي، وتركيباته، التي تتجاوز بكثير الخط الأفقي في البناء، بامتهان التنوع والكثافة فاعل المتعة، والإيهام القوي بالصفة الشخصية للكاتبة بالمقصوص، هذه التي يتسم مفتول الحكي لديها بشدة الارتباط بالواقع المغربي، ما يبعث عن فضحه. شخوص عن الهامش أغلبها، تتصارع والتضاد الحاصل مع واقعها، داخل ما تحبل به ذاكرة القاصة ومعيشها، قد لا أبحت لهذا الهامش عن ألفاض بمعجمها تدل عليه، لأنه بنية وشعور ضمني، له تجلياته على رُقعة واسعة من مربع السرد، الحافل بخصوبة موضوعاتية وأسلوبية، في صبغة المحلية الطافحة عن الإنساني والكوني ..حبكة باقا داخل مجموعة مند تلك الحياة، حبكة أفعال، فالشخصية تَتقلب داخل أوضاعها، في بنية لاصطناعية بالأساس، لأن ما يحرك النهاية لا ينطلق من لبنة الأحداث، حيت القصة هنا تصير مرآة بعض لغتها واصف والبعض موصوف، وهي لغة لا يفوتني أنها شاعرة، تسهم في نسج الحبكة ومنحها حيوية متلألئة، واتساعا يعيرنا منظارا داخل العمق، بأدوات سينمائية ماكرة. تدور الكتابة على نفسها كتقنية مرآوية، بأسلوبية تعبيرية، تنثر معها جملا قصيرة، مخافة أن تفقد قوة هدفها، ما يجعلها تحدت وقع شدة ناجع وفعال، فضمير المتكلم كالشخصية المحورية في أغلب قصص المجموعة، يعي وضعيته بيد أنه لا يملك لها تغييرا ..بلا قرار ..مند تلك الحياة. هناك عنصر شفوي وازن على امتداد سند الحكي، وهو عنصر شفاف، وضوحه وقوة هذا الوضوح، تعري عن جوانب طالما غيبتها سيادة (الطابو)، عن الجو الحميم للمرأة المغربية، وهو طابو لا تُذَوبه هذه القاصة، كبهارات تنثرها داخل طنجرة الحكي بشكل مجاني،(يحظرني هنا أن لطيفة باقا إحدى الأديبات الفاعلات في الدفاع على حقوق المرأة سواء بكتاباتها المقالية أو النضال إلى جانب عدد من الهيئات والمنظمات إلا أن حضورها القوي داخل الساحة الثقافية غطى كثيرا عن نشاطها الحقوقي) تعرض عالم شخصياتها، وتحكيه بكفاءة البديهة، التي تحكم مساحة مسرودها الذي لا يتحقق الحوار داخله إلا ذهنيا في الغالب، بتركيبة لغوية مقيدة باختيارها البؤري، الذي تلزمه دراسة خاصة لبنيتها ومعماريتها اللاخاضعة لمعيار، وإن تشاركت وقصيدة النثر في جنوحها إلى التكثيف الفانتاستيكي. لا أستلطف كثيرا، ولا أجده من اختصاصي، تهشيم بنية الحكاية ومعماريتها، بآليات هي عندي عنف تدميري، للبحث عن الترميزي داخلها، فمجال اللذائذية وعنصر الذاتية الذي يحكم سيادته على هذه القصص, التي تصوغ وضع المرأة في مجتمع يضعها بين كماشتيه: الفضح هنا بالجر إلى اختراق الطابو وتشريد حجيته بمواجهة السؤال الضمني والمضمر وتشريح الوهم. حيت تهيم وتقنيات الترجيع الذي يشكل معادلا كاملا لواقع عاشته لن يتكرر، تحظر استعادته من الذاكرة بلبنات شعرية كمقابل موضوعي للحكي ليس من وإنما عن الداخل، في بنائها الموشوم بالاختلاف والمفارقة والانزياح المولد للفنية. لم تستدعي الورقة هذه إظهار مسارات للتأويل، بإيعاز مقتطفات من المجموعة تستدعيها سنن التواصل الأدبي، فالقيم الجمالية والفنية الناظمة لأي منطوق تأويلي، تبقى هنا حالة شديدة البياض، تدل على نفسها، وهي تصير إلى شكلها العمومي، حالة متفردة..يبقى الكثير من العمل أمام قراءات عديدة تجد هنا منحى تحديب آلياتها وتَحيين أدواتها ..قراءة تشد إزار إدعائها بالوصول لحقيقة العمل الإبداعي بحواريته الحارقة ..أعمال لابأس بها لقصاصين وروائيين مغاربة لازالت تنتظر نفض اللامبالات النقدية إزائها، وتثمينها، بافتكاك النظرة إليها عن التعميمية والمعيارية، في ظل الإحساس لدى عدد من المبدعين بالتهميش والإهمال وأن القصة المغربية لا تلقى الالتفات إلا في إطار المناسباتية