لماذا تفسد الأديان التاريخية بسهولة كبيرة بتحوّلها إلى عناصر عنف مخيفة؟ أليس لأنها تدّعي لنفسها إدارة علاقة الناس بالمنتهى (l'Ultime)؟ لكن هذه الهشاشة بالذات هي ما يقدم للعمل اللاعنفي معاييره الحقيقية ليقيًم وأفضل أوراقه الرابحة ليتحرك. فعلى الرغم من الحضور المألوف، وأحياناً، حد الاستحواذ، لكلمة "دين" في العديد من المسائل التي تشغل حالياً الرأي العام، فإنه ليس من السهل الاتفاق على معنى دقيق للشأن الديني. وتدور حوارات كثيرة قصيرة أو لانهائية وعقيمة في النهاية نظراً لغياب توافق مسبق كاف حول ما يُقصد بكلمة "دين". إن التساؤل من جديد حول صعوبات النضال اللاعنفي ضدّ عنف الأديان ومقتضياته ووسائل نجاحه، يستدعي إذن ومنذ البداية، توضيحاً حول الشأن الديني، وحول الطريقة التي نحلله ونفهمه فيها، وحول الأسباب التي بسببها كانت الأديان المؤَّسسة وتظل عاملاَ رئيسياً في أعمال العنف التي تمزق مجتمعاتنا. وعلى قاعدة هذه التحليلات فقط، على ذكائها، وعلى مواءمتها، ستظهر المؤهلات الفريدة للمواقف اللاعنفية لمواجهة أعمال العنف التي تنبع من قلب الأديان التاريخية. الهشاشة النوعية للعلاقة بالمطلق: ثمة قول مأثور من العصور الوسطى يوجهنا نحو أمرجوهري فحواه : "فساد الشيء الأفضل سيوًلد الأسوأ". وليس ثمة شيء، أكثر تهديداً ولا أكثر ميلاً للفساد، من ادعاء "ضبط" العلاقة مع المنتهى. ويخبرنا حد الإشباع العرض الذي يقدمه لنا تاريخ أعمال العنف التي مورست باسم المنتهى، عن الهشاشة القصوى لهذه العلاقة مع المنتهى. إن التعامل مع المنتهى يشبه للتعامل مع النتروغليسرين : فأقل انحراف، وأقل خطأ يؤدي إلى انفجار... العنف. في القطاعات الأخرى من الوجود، التي تحتمل جميعها درجة من التسامح ومقداراً من النسبية، يمكن أن تُغفر الانحرافات والأخطاء تبعاً لنتائجها، بهذه الدرجة أو تلك. أما مع "المطلق"، مع المنتهى، فإن التسامح مستبعد. المنتهى يستدعي عدم التسامح. واللاتسامح يولد العنف. إن الدين إذن بسبب طبيعته العميقة- إدارة العلاقة مع المنتهى- هو القطاع الوجودي الأشد هشاشة، الأشد قابلية للانحلال، ولخطر الإفساد: إن فساده يقود نحو الأسوأ. فهل هي مصادفة أن يتطابق أغلب الأحيان تاريخ الأديان- منذ الأضاحي البشرية وحتى الحروب الدينية، وفظائع محاكم التفتيش والانتحاريين الإرهابيين- مع تاريخ أشكال العنف الأشد ضراوة؟ وكما أنه توجب علينا أن نميز التعبيرين المميزين للشأن الديني، بعده الأفقي المتمثل في بحثه عن الهوية، وبعده العامودي المُعبر عنه في بحثه عن المعنى- فإننا نستطيع أيضاً تعرف الاتجاهين الرئيسيين للانحرافات الدينية. 1) انحراف البحث عن الهوية، حينما يرتدي مسوح المنتهى، فإنه يفتح الباب لكل أمراض الهوية الجمعية. عنصريات- لا ساميات- تمجيد الأعراق، مسيحيات جنونية، قوميات عدوانية، إمبرياليات متفاقمة، طائفيات متطرفة الخ... وباختصار كل الإيديولوجيات والمواقف المؤسسة على نفي الاختلاف. لنقل، متابعة لفكرتنا، أنه هنا بالضبط. في الصراع ضد رفض الاختلاف يقدم اللاعنف أفضل وسائله ليقيّم حقيقة دين ما، و يعرض العمل اللاعنفي أفضل أسلحته للنضال بنجاح ضد أشكال العنف الديني. 2) انحراف البحث عن المعنى، من جهتة، ليس أقل توليداً للمرض من سابقه، بل ربما كان أشد خطورة أيضاً، بالنظر إلى أنه يؤثًر في الفكر والفعل بمُعامل يقين شخصي. وهنا دون ريب تُظهر العلاقة بالمنتهى قابلية انجراحها القصوى. فالسم الناقع للبعد العامودي المفتوح بالبحث عن المعنى سيصيب الأشكال المتعددة للإيقان المرضي. العصبيات العقائدية، ضيق التفكير التفاخري، الرؤيوية الجهادية، اللاعقلانية الهذيانية، وكل أشكال ادعاء احتكار الوصول إلى الحقيقة. يشكًل تحول الدين إلى مؤسسة للحقيقة مفارقةً مربكةً وتحدياً رهيباً. فهل يمكن لمؤسسة تقدم، باسم المنتهى (1) الادعاء بتعريف الحقيقة الدينية وبأنها تمتلك احتكارها، تجنب الوقوع في العنف؟ الصور التي يقدمها لنا التاريخ تتحدث عن نفسها: اضطهاد الزنادقة بجميع أشكاله، تفتيش وصل حد الإعدامات الجماعية، معسكرات اعتقال، الإعدام حرقاً، الفتاوى، الأحكام الإلهية، تدمير الكتب بالحرق الخ... أي نوع من أنواع العنف لم يستتر بالتمسك بالمنتهى؟ هنا في هذه النقطة المركزية ربما يُفترض بالمبدأ اللاعنفي عرض عناوينه وأن تُبتدع وتُطبق مختلف أشكال العمل اللاعنفي من أجل مهاجمة العنف حتى في منابعه الأصلية. الدين كما يراه علم الأخلاق: كان من المفروض أن تؤدي انجراحية العلاقة الدينية التي يسعى الكائن البشري لعقد أواصرها مع المنتهى إلى تثقيف الأديان القائمة ودفعها إلى التزود بوسائل، وأجهزة الإنذار والترياق، واللقاحات . ليس ثمة شيء من هذا. إذ نتيجة لادعائه تحديد العلاقة بالمنتهى فإن الدين القائم لا يشجع، انطلاقاً من ديناميته الخاصة، توسيع المسافة المطلوبة لطرد شياطينه الخاصة. فالرجل الديني الذي يبهره بسهوله الإغراء والهياج اللذان يفرزهما بحثه عن المنتهى، لا يميل إلى ملاحظة انحرافات بحثه الذاتي، والى تبين أذيات تصرفاته، والى الشك بنفسه، باختصار. إذ أن مجاورة المنتهى تقود إلى التعصب أكثر مما تقود إلى النقد الذاتي. ولكي يظل الدين إنسانياً وكي لا يتعفن في الشرّ، لا يستطيع مطلقاً الاعتماد على ذاته. ينبغي أن يتم تقويمه ومساءلته وتحصينه ضد نفسه من قبل سلطة تكون، من جهات عديدة، خارجية عنه. سلطة نقدية، بالمعنى الأشد أصالة للكلمة. إن الدين لا يمكن أن يكون محصناً ضد انحرافه، وضد عودة شياطينه، إلا بقبوله لسلطة نقدية. الدين والنقد يحتاجان احدهما للآخر بكل تأكيد: دون الدين يكون النقد عقيماً، عاجزاً، لكن دون النقد يصبح الدين مهداً للرعب. النواة الصلبة لهذه السلطة النقدية هي علم الأخلاق. وهذا هو الخيار الثاني في اشكاليتنا. السلوك الأخلاقي يلعب الدور غير القابل للتصرف لحجر كشف حقيقة دين ما: إنه، لذلك، التحقيق المعصوم. ولم يفت غالبية الديانات الكبرى أن تستشعر الحاجة لذلك، لكن دون أن تستخلص من ذلك كافة النتائج. يتوطد الأخلاقي معياراً للمنتهى. إن وعي الذات الذي يولده استبطان تطلب أخلاقي حقيقي سيتضمن بعد الآن، كما علمنا بقوة جان نابير (2) "معيارية الإلهي".