لماذا تفسد الأديان التاريخية بسهولة كبيرة بتحوّلها إلى عناصر عنف مخيفة؟ أليس لأنها تدّعي لنفسها إدارة علاقة الناس بالمنتهى (l'Ultime)؟ لكن هذه الهشاشة بالذات هي ما يقدم للعمل اللاعنفي معاييره الحقيقية ليقيًم وأفضل أوراقه الرابحة ليتحرك. فعلى الرغم من الحضور المألوف، وأحياناً، حد الاستحواذ، لكلمة "دين" في العديد من المسائل التي تشغل حالياً الرأي العام، فإنه ليس من السهل الاتفاق على معنى دقيق للشأن الديني. وتدور حوارات كثيرة قصيرة أو لانهائية وعقيمة في النهاية نظراً لغياب توافق مسبق كاف حول ما يُقصد بكلمة "دين". إن التساؤل من جديد حول صعوبات النضال اللاعنفي ضدّ عنف الأديان ومقتضياته ووسائل نجاحه، يستدعي إذن ومنذ البداية، توضيحاً حول الشأن الديني، وحول الطريقة التي نحلله ونفهمه فيها، وحول الأسباب التي بسببها كانت الأديان المؤَّسسة وتظل عاملاَ رئيسياً في أعمال العنف التي تمزق مجتمعاتنا. وعلى قاعدة هذه التحليلات فقط، على ذكائها، وعلى مواءمتها، ستظهر المؤهلات الفريدة للمواقف اللاعنفية لمواجهة أعمال العنف التي تنبع من قلب الأديان التاريخية. اختيار مقاربة الشأن الديني، العلاقة بالمنتهى: لنبدأ بكشف الطريقة التي تظهر الأديان فيها فعلياً في عيون المراقبين. بداية، تبدو الأديان، المستندة إلى بُنى قائمة على موروثات ما، وإلى نصوص مؤسَّسة لها مفسّروها المعتمدون، أنظمة اعتقادية، شعائر وطقوس تسمح للبشر بالدخول جماعياً في علاقة مع ما تقدمه على أنه "المنتهى". وأياً يكن الاسم الذي يطلقه- الأصل، العلة الأولى، المبدأ الأولي، الغاية النهائية، المقدس، القادر على كل شيء، المطلق، غير المشروط، علة ذاته، القيمة الأسمى، الحقيقة النهائية، الخ... – فإن الدين يُعرف نفسه بأنه المعني بكل ما يتعلق بعلاقة الإنسان بالمنتهى. تشتمل الأديان وتقترح، تحت تنوّع واسع من الأشكال المختلفة لدرجة يستبعد معها وصفها وضبطها جميعاً في نموذج واحد واضح، ثلاثة أنواع من المضامين. في البداية أشياء يجب معرفتها وتُقدم على أنها تمثيلات للمنتهى : قصص أساسية، أساطير، رموز، اعتقادات، صيغ سحرية، شعارات، كلام منزّل، قوانين عقائدية، عقائد، الخ... ثم شعائر يجب أن تُمارس وسلوكيات ثقافية مناسبة ظاهرياً للاتصال بالمنتهى بقصد توقّي غضبه والفوز بنعمائه : طقوس، أعياد، احتفالات، قوانين مفروضة، قداديس، شعائر عبادة، تبريكات، تعويذات، تطهرات، حجيج، أوقات طقسية، أمكنة وأبنية مقدسة الخ... وأخيراً معايير أخلاقية مقررة كمحظورات أو واجبات تحدّد قواعد السلوك المذمومة أو القسرية التي تأمر بها سلطة مطلقة تُقدَم أغلب الأحيان على أنها مستمدّة مباشرة من المنتهى. وما يميز بوضوح شديد هذه الأنواع الثلاثة من المضامين هو أنها تقونن، باستخدام السلطة التي يمنحها الادعاءُ بحصرية وشرعية تمثيل المنتهى، الطريقة التي على البشر سلوكها ليؤمنوا، ويحتفلوا ويتصرفوا للاتصال به في الحقيقة. وسيكون من المناسب، لكي نجلو عن قرب الشأن الديني كما يُبرز اليوم في الأديان الرئيسية المؤسَّسة، أن نميز بين تعبيرين مختلفين جداً للدين. أن نميز لا أن نفصل. لأنّ هذين التعبيرين مختلفان أغلب الأحيان وفق نسب متغيرة. لنميز إذن في الشأن الديني بين التماس الهوية والحاجة للمعنى. 1) فالإنسان حيوان ديني بداية لأنه يشعر بحاجة أولية، أساسية، للارتباط بأمثاله، لأن يكتشف ذاته مندرجاً في سلالة، للانضمام إلى أولئك الذين يشبههم. كل جماعة إنسانية تقدّس ما يمنع تشظيها، لذلك فهي بحاجة حيوية للرموز. الرمز شيء منتج: إنه (بالإغريقية sum-bolon) ما يعيد لظم القطع، إن المقدس، عبر رموزه، ليس موجودا هنا ليكون ديكوراً، إنه هنا لكي يوّحد. وقد رأى كثير من علماء اجتماع الدين في هذه الحاجة للانضمام أصلَ الأديان. ويهبُ علم الاشتقاق لمساعدتهم : منذ شيشرون، تُربط بطيبة خاطر- وهذا التفسير الأول- كلمة Religio بالفعل اللاتيني Religare الذي يعني- ارتبط، انضم. في هذا المصدر الأول للشأن الديني، أي الحاجة لرؤية الذات مرتبطة بأشباهها، يمكن أن تُفهم جيداً صحوات الهوية التي تغذّي العديد من أعمال العنف التي تمزق المجتمعات المعاصرة، سواء المجتمعات الغربية المتطورة أم تلك الأشد تخلفاً والأشد تقليدية، في الشرق الأوسط،وفي أفريقيا أو في آسيا. إن فورة الوسائل التي وفرها تطور الصناعة، والنموّ الفوضوي للاتصالات، وأشكال الجور الحاصلة في تقاسم الثروات وعلى الأخص بين الشمال والجنوب، والعولمة المتسارعة جداً وفقدان المرجعيات المعتادة، وزوال الممارسات والرموز التقليدية المولدة للهوية : حزمة كاملة من التأثيرات المختلفة تستثير صحوات هوية تشمل كل كوكبنا وتُترجم أحياناً بأعمال عنف ذات دوافع دينية أو وهو الأسوأ، بنجاح تسخير الديني من قبل السياسي. 2) إن الكائن البشري هو أيضاً، وربما على الأخص، حيوان ديني لأنه لا يستطيع تجنب مواجهة المسائل الكبرى التي تشكل جزءاً من الوضع البشري: مسألة الأصل، مسألة الألم، مسألة الشر الواقع، والأشد خطورة ربما، مسألة الشر المرتكب، مسألة موت المحبوب، مسألة موته الشخصي، ومسائل أخرى أيضاً. يسائل الكائنُ البشري اللغزَ الذي يمثله في نظره وجوده الخاص: عندئذٍ يشعر بتصاعد الحاجة للمعنى داخله. إنه يستغرق في تأمل ذاته، بقصد أن يستطيع قبول ما يمكن أن ندعوه مقدّس الوجود، المنتهى، بصورته التي يتقدم بها،. الشأن الديني يجب أن يكون مفهوماً في حركة الانكفاء إلى الذات هذه. هنا أيضاً يأتي علم الاشتقاق ليدعم هذه القراءة. تُربط أيضاً- وهذا هو التفسير الثاني- كلمة Religo بالفعل اللاتيني Relegere الذي يعني. استغرق، رجع إلى ذاته، فكر، استعرض في ذاكرته. ولا يجب التوقف عند مقاربة اجتماعية ومؤسساتية للدين، على الرغم من شرعيتها وضروريتها : بل ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار بعداً أكثر حميمية، يمكن وصفه "بالروحي". ففي مواجهة مأساوية وهشاشة المغامرة الأرضية التي تستثير الشعور باللامعقول، فإن الأديان تتقدم بوصفها طروحات للمعنى. فهي تدّعي تقديم تفسير للتجارب الغامضة، وخاصة الأكثر سلبية، وبالتالي، بداية للمعنى، وهي تتقدم في الوقت ذاته بوصفها طرقا مطروقة لرحلة محددة الاتجاه. وبدل أن يشعر المرء بأنه محكوم باللامعقول، واللامعنى، وبدل أن يكتشف ذاته متجمداً في مكانه، عالقاً في نفق مسدود، فإن الوجود الديني يُدرك، بصورة عرضية على الأقل، على أنه ذو معنى ومحدد الاتجاه.، وتحت هذا الشكل المزدوج من التماس الهوية والتماس المعنى، المشتركين غالباً والذي من الأنسب التمييز بينهما، يتحدد الدين إذن بوصفه المهتم بكل ما يتعلق بعلاقة الإنسان بالمنتهى. ومع السلطة التي يمنحها له الادعاء بأنه الممثل الوحيد الحقيقي والشرعي للمنتهى، يقونن الدين الطريقة التي ينبغي على البشر وفقها أن يؤمنوا ويحتفلوا ويتصرفوا لكي "يخضعوا" للمنتهى، لكي يتصرفوا حياله كما يأمر. إن كل مسألة أعمال العنف التي يمارسها الإنسان المتدين أو باسم أوامر يفرضها الدين تتفرع إذن عن مفاهيم يتبنَاها ويقترحها كل دين عن المنتهى. وهي التي ينبغي تقصيها وفهمها وتحليلها إذا ما أراد المرء توضيح وسائل النجاح التي يمتلكها العمل اللاعنفي في مواجهته للعنف الديني.