لقد صارت موضوعة الجسد تستقطب اليوم اهتماما بالغا في الفكر الفلسفي والعلمي، ليس لأنها كانت موضوعة خارج التقليد الفلسفي والديني، وإنما بالنظر إليها من زوايا علمية متعددة، كالسوسيولوجيا، والأنثربولوجيا، والتحليل النفسي، والسيميولوجيا والأدب... ونحن هنا، لا نود الانخراط في تاريخ الجسد، ولكننا نرغب في الإشارة إلى أهم القضايا التي أثيرت حوله. ونعني ثلاث محطات رئيسة وهي: الفكر الفلسفي، والفكر الديني، وأخيرا الفكر العلمي. والوقوف عند هذه المحطات يشكل بالنسبة لنا خريطة طريق لملامسة واختراق الإشكالية البحثية التي اقترحنا النظر إليها. وهي محطات تشكل استئناسا أوليا لموضوعنا. هكذا يكون الخوف مركبا، وسيتم بمقتضاه إقصاء الجسد من النقاش العمومي، والنتيجة هي العوائق التي تحاصر البحث السوسيولوجي، وبعبارة أخرى الكيفية التي تتم بها دراسة الجنس في العالم العربي. تعترض الباحث في هذا المجال صعوبة صياغة تقنيات البحث لإنتاج خطاب علمي حول موضوعه، كالاستمارة، وتكميم الظاهرة، والإحصاء وغيرها، لكن هذه الأسئلة الإبستمولوجية الذي يفترضها الباحث تشكل بالنسبة لنا تمثلا نقديا لموضوعه، ومنهجه، لذا سيتم التحايل على تلك الأسئلة من خلال النظر إلى الهوامش التي يتكلم فيها الجنس. لقد بينا بعضها، وسنحاول بيان الآخر كمؤسسة الزواج، والمعمار، والأصولية الإسلامية. صحيح أن مؤسسة الزواج ليست هامشا على مستوى المفهوم، إلا أن ما تنتجه من تصورات جازمة في بعض الأحيان يمكن اعتبارها كذلك، فإذا كانت تلك المؤسسة مبنية على شرعية دينية وسياسية، فإن الهوامش التي تنتجها وتعيش داخلها هي التي تضعها سؤالا سوسيولوجيا. سؤال يفتح العلاقة بين المرأة والجنس باعتبارها من المسكوت عنه. إنها علاقة لا مكانة لها في الزواج، وما يرتبط به من قيم الاستهلاك المغربي (العرس، الصداق، البكارة، القرابة، الجمال، الخصوبة..)، وإنما مكانتها في السلطة الذكورية التي تهندس كل ذلك، والنتيجة هي ‹‹تمجيد المرأة كأم وتحقيرها كأنثى›› . بهذا الشكل تتبلور لدينا فكرة الهامش كمسكن للسؤال المزعج للمؤسسة. إن المسألة تتغيّي الحفر في لا شعورها المدفون في الجسد الأنثوي. هذا الذي يخيف السلطة الذكورية، الشيء الذي وجب مراقبته عبر الفصل بينه وبين آخره في البيت والفضاء العمومي. فالمرأة موضوع للمعاكسة والاصطياد في هذا المجال العمومي، ما دام هذا الأخير ملكية ذكورية، ولأنه كذلك فهي سلعة (أي المرأة) مطروحة في الطرقات قابلة للتملك بطواعية أو عنوة، أو قهرا، أو اغتصابا. فالمتأمل في المجال العمومي ينظر إلى ذلك بوضوح. قد تقدم لنا هذه العلاقة (بين المرأة والمجال العمومي) إضاءات رمزية وسيكولوجية. إلا أن مقام الحديث عنها غير وارد هنا، فالذي يهمنا هوالفصل الذهني الذي رسخته الثقافة العربية الإسلامية في الكائن العربي، وهذا ما يشير إليه عبد الصمد الديالمي بذكاء حين الحديث عن الجنسانية والعمران. نود هنا إعادة تصوير البيت المغربي التقليدي حيث الحجب هو الرافعة الرئيسة لهندسته. النوافذ الضيقة في الأعلى، والمطبخ، وبيت النعاس في مكان محجوب. فالصوت الذكوري إعلان عن حجب النساء، وترك وسط البيت ليكون المرور ممكنا. هذا التصوير الهندسي التقليدي للبيت المغربي يحيل على الجسد، يقول الديالمي: ‹‹فالرأس والفم والصدر مناطق تنتظم انطلاقا من المذكر( الرأس/أداة المراقبة والانتقاء) نحو المؤنث (الصدر منطقة ركون واستراحة)، من الخارج نحو الداخل مرورا بالفم كحد فاصل بين الداخل والخارج، وبين المؤنث والمذكر.›› . قد يكون هذا التوصيف اجتراحاً للجسد الأنثوي عبر كشف الآلية القضيبية التي تحركه. إلا أننا بالمقابل قد نقول إن المرأة إنْ كانت مالكة للخفي والرمزي فإن الرجل يظل مقترنا بالقانون والعرف. إنها لعبة الظاهر والغابر التي ترسّخت معالمها في المجال العمومي، كمجال استنبت أشكالا جديدة من التدين، أي الأصولية الظلامية التي يعتبرها الباحث اضطرابا نفسيا، والعلاج الذي تفترضه لاضطرابها هو السكن في الظلام، انطلاقا من حجب مضاعف لموطن خوفه واضطرابه. يرى الديالمي، أيضا، أن ثمة ارتباط بين الأصولية المتشددة والحرمان الجنسي، و يستدل على ذلك بأطروحة "رايخ" الذي يربط إكلينيكيا بين الزهد في الحياة والاضطرابات الجنسية. من هذا المنطلق يعتبر الجنس عتبة رئيسة لفهم العلاقات الاجتماعية في المجال العمومي والعمران، ولأنه يروم ذلك فإن علاقته بالسياسة تفتح أفقا تحليليا وتأويليا، ليس فيما أوْرده كُتاب السيرة، والأخبار، والتواريخ، والنوادر، وإنما في الإحالة على الترابط الغريب بين القمع السياسي في الوطن العربي والتفريغ الجنسي. وهي علاقة تتجدد في واقعنا الظاهر دون الالتفات إليها. سيشكل إذن القمع السياسي ‹‹أحد العوامل المحتملة للعجز الجنسي بالنظر إلى التلازم بين المواطنة والحرية من جهة، وبين التبلور الجنسي من جهة ثانية. لكن من المحتمل أيضا أن عامل القمع السياسي يلعب دورا كبيرا في الاتجاه المعاكس، بمعنى أن الرجل العربي يعوض عن القمع السياسي الذي يعاني منه بفضل نشاط جنسي تفريغي كثيف ›› . قد نشير هنا إلى نمو ظاهرة البغاء، انطلاقا من تزايد البطالة في المغرب، مثلما نشير إلى تعهير قرى ومدنٍ هامشية كنوع من عقاب جماعي تمارسه السلطة السياسية. إلا أن الإشارة الدالة والرابطة بين القمع السياسي والعجز السياسي مبنية على نقيضها، بمعنى إذا كانت الديمقراطية موجودة، فإن الحرية الجنسية ملازمة لها. هذا ما نجده في الغرب الأوربي مثلا، وهي مسألة تنشُد الحوار والمشاركة الجنسيتين، إلا أننا في الوطن العربي (المغربي على الخصوص) يكون العجز الجنسي للرجل مرادفا للموت، وكأن (انتصاب القضيب) هو ما يعطي للرجل الحياة والوجود. إنها دلالة، يؤسس عليها المقدس الديني بنيانه. فنبي الإسلام مثلا يوصي أتباعه بالنكاح حتى يفتخر بهم يوم القيامة. إن القمع الجنسي يولد آلياته الدفاعية، كالزواج العرفي والزواج المسيار، وهما طريقتان يدافع من خلالها المسلم على شرعية فعله الجنسي، وهو موقف مضاد للحرية الجنسية والدعارة، والمتأمل في هذا، يستخلص الانفصام الذي عاشه المسلم بالأمس و يعيشه اليوم. انطلاقا من هذا ينخرط الديالمي في الخطاب المتمرد على التقليدانية العربية الإسلامية، وهذا لن يتأتى إلا بتفكيك هذا التقليد، وبعنف وشجاعة و خاصة أنه تقليد يتأسس على: ‹‹النظرية الجنسية السّنية، علم الباه الإسلامي، التراث الشفوي، الشرع والقانون›› . إنها إستراتيجية نقدية لا يستطيع باحث بمفرده تفكيكها، نظرا لتعدد البوابات المفتوحة على الواقع والثقافة المغربيين. إن كل بوابة موسومة بمجال وموضوع علميين، ولأن المرجعيات متعددة، فإن الحوار بين الباحثين ضرورة لتفعيل تلك الإستراتيجية وجعلها ذات مصداقية ومعنى. صحيح أن المرنيسي عبرت عما أعطته لها كتابات الجابري والخطيبي. وهو تعبير دال على انخراطها في الأسئلة الكبرى التي دشنها هؤلاء وغيرهم، لكن عبد الصمد الديالمي حسب الكتابات التي قرأناها لا يصرح بذلك صراحة، وإن كان هو الآخر يستمد أسئلته، ويجترح موضوعاته من المنجز الحداثي المغربي والغربي. فهذا الحوار سيستمر لا محالة حول هذا المنسي في ثقافتنا العربية الإسلامية، والجسد هو العنوان الأساسي له. لذلك سيقترح علينا الباحث رؤية أخرى للإسلام، وهي الرؤية التي نجدها في كتابات الجابري، الخطيبي، أركون، العروي... فاتحا لنا بذلك طريقا أخرى للبحث والدراسة.