لقد صارت موضوعة الجسد تستقطب اليوم اهتماما بالغا في الفكر الفلسفي والعلمي، ليس لأنها كانت موضوعة خارج التقليد الفلسفي والديني، وإنما بالنظر إليها من زوايا علمية متعددة، كالسوسيولوجيا، والأنثربولوجيا، والتحليل النفسي، والسيميولوجيا والأدب... ونحن هنا، لا نود الانخراط في تاريخ الجسد، ولكننا نرغب في الإشارة إلى أهم القضايا التي أثيرت حوله. ونعني ثلاث محطات رئيسة وهي: الفكر الفلسفي، والفكر الديني، وأخيرا الفكر العلمي. والوقوف عند هذه المحطات يشكل بالنسبة لنا خريطة طريق لملامسة واختراق الإشكالية البحثية التي اقترحنا النظر إليها. وهي محطات تشكل استئناسا أوليا لموضوعنا. إذا كانت هاتان المسألتان بوصلة لقراءة منجزها السوسيولوجي، فإننا لا نقدمها باعتبارها أفكارا مسبقة بل خلاصة لما قرأناه لها. سنحاول التفصيل في ذلك انطلاقا من مقاربتها للجسد المغربي سوسيولوجيا، والربط الذي تقيمه بين الجسد و تاريخه الاجتماعي والقانوني والثقافي... إن البحث في المكانة الدونية للجسد الأنثوي في المغرب، لا يستقيم إلا في البحث عن طبقاته، وتضاعيفه الموجودة في التراث العربي الإسلامي. فالمرنيسي في هذا البحث المزدوج ترى في التراث سؤالا سوسيولوجيا، بمعنى أن الذين يعتبرون حجب المرأة مثلا قراءة محافظة للنص الديني لا ترتكز في قراءتها سوى على ترسيخ سلطة ذكورية معطاة، ولأنها كذلك فالنساء في سيرة نبي الإسلام جسر في بيان لا معقولية الحجاب. نستدل على ذلك بعائشة زوجة النبي، فقد حفظ التاريخ لهذه المرأة بعض الأمور السياسية، سواء في حياة النبي أو فيما بعد موته. حادثة الجمل دليل على تلك القيادة السياسية والعسكرية التي قامت بها. هذه الحادثة، وغيرها من الحوادث المذكورة في كتب السيرة والأخبار تدل على الرفعة والسلطة التي كانت تمتاز بها النساء، كسكينة بنت الحسين بن علي، وأسماء، وأروى اليمنيتين وشجرة الدر، وبنزير بوتو وغيرهن. ونساء مزقن حجاب الهامش لاقتحامهن مجال التدبير السياسي والعسكري، وبالجملة فعودة الاتجاه النسائي إلى هذه الأسماء/النماذج في التراث العربي الإسلامي لا يعبر عن حالات شاذة في التاريخ، وإنما إعلان عن سلطة المرأة المخيفة التي يهابها الرجل. لا يمكن إذن تمزيق وخرق الحجاب إلا بإقامة حرب ضد الفقهاء والمحافظين. وكأن هؤلاء الحراس للهيمنة الذكورية والتي تتجلى في الزواج والطلاق، وما بينهما، أي في اعتبار المحافظين جسدَ المرأة مرتعا للذة الرجل، وهذا نوع جلي من إقصاء جنسانية المرأة. من هذه الفرضية المبحوث فيها ميدانيا انطلقت المرنيسي فيما وراء جنسانية المغرب، ومن الخلاصات التي توصلت إليها: أن تبادل اللذة بين الجسد الأنثوي والذكوري محفوظة في النص الديني ( النبي أنموذجا ). إضافة إلى اعتبارها أن الذين دافعوا عن حرية المرأة هم الرجال كقاسم أمين، وعلال الفاسي وغيرهما. الشيء الذي يجعل الباحثة تدافع بقوة عن النسائية وتحرر المرأة من كماشة المحافظين، وهذا لن يتأتى لها إلا بسجال عنيف ومثمر معهم، مع أبي هريرة وابن قيم الجوزية وعمر بن الخطاب، ومحمود عباس العقاد... والنصوص الشرعية ومدونة الأحوال الشخصية إبان استقلال المغرب. إنه سجال مبني في مساحة، يكون فيها التنوير والعقلانية والتحرر في طرف، بينما يشكل حراس الهيمنة الذكورية الطرف الآخر. إن جرأة المرنيسي في تمزيقها لحجاب الحشمة وإعلانها الجنس موضوعا لخطابها هو ما يعطي لهذه الباحثة تفردها الاستثنائي، خصوصا إذا ربطنا ذلك بالزمن المغربي بعد الاستقلال. إنها جرأة هندستها صاحبتها بعقلانية وشجاعة نادرتين، فإذا كانت هذه الأمور مهيمناً عليها من لدن الفقهاء، فإنها قامت بتحريرها منهم وجعلها موضوعا للدراسة العلمية في الجامعة، وفي الفضاء العمومي، وفي الإعلام.. لكن ما الذي تقدمه؟ أو بالأحرى ما الذي يقدمه منجزها العلمي؟ خارج مبرر النسائية والإيديولوجية والتراث فإنها اخترقت المحظور واعتبرته أم المشاكل في المجتمع المغربي، نعني بذلك الجنس. فهذا الأخير لا يتحدد في العلاقة الجندرية فحسب ولا في المظهر الذي يحدده، و لا حتى في الوضع البيولوجي، وإنما في المؤسسة والمعمار، واللغة، والنكتة، والمثال..الخ. بهذا المعنى تقوم بتفكيك آليات الهيمنة والخضوع، مثلما تبحث عما يربط السياسي بالجنسي في المدينة والدولة وما بينهما. ‹‹إننا نعرف بأن الجنسي والسياسي يرتبطان إلى حد يستحيل معه تمييز أحدهما عن الآخر، وخاصة بالنسبة للثقافات التي تجسد فيها العلاقة بين المرأة والرجل علاقة السلطة، وترمز إليها مجتمعات حددت هوية الرجل ورجولته بقدرته على إخفاء المؤنث والتحكم فيه، و لا تستشعر البتة الحاجة إلى التخلي عن ذلك›› . يظهر لنا من هذا النص مستويان، يتحدد المستوى الأول في وضع الأصبع على المشكل الذي يعيشه العالم العربي والمتمثل في السلطة بتعددها، وأول تجلياتها ينكشف في العلاقة بين الذكوري والأنثوي، أما المستوى الثاني فيتستر في البياض. هذا الذي تعلنه وتخفيه الباحثة. فهي باعتبارها باحثة نسائية تجد في هذه السلطة منطقا للخلل، لهذا تحاول تقويمه، بإعلان التمرد على هذه السلطة الذكورية أو البحث في التراث العربي الإسلامي عما يؤسس بلاغة احتجاجها. لذا ستفرد الفصل الأخير من كتابها "النبي والنساء" لسكينة بنت الحسين بن علي، حتى وإن كانت هاته الشخصية قد تأسطرت في المخيال الشيعي وتوارثوا عنها أخباراً يصعب تصديق بعضها في مجتمع صحراوي. إن فاطمة المرنيسي بهذا المعنى تتقنع بقناعة بعض المتمردات المغضوب عليهن في التاريخ السياسي الذكوري، وكأنهن الخلاص الدال على جرأتها وتمردها على المجتمع البطريركي. هكذا تريد تعرية الكليشهات التي تسيج الجسد الأنثوي، فهي تصارع المحافظين المشرِّعين لحجب المرأة. والصراع هنا لا يكون مفعوله قويا إلا باحتلال المرجع الذي ينطلقون منه، ففي بعض الأحيان تكون سخريتها اللاذعة طريقة للتعبير عن موقف. تعتبر أن أبا هريرة مريض، يحتاج إلى وضعه في مختبر علم النفس المرضي، وترى أن ابن قيم الجوزية رجعي...الخ. هذا الموقف الساخر بيان على حدتها من جهة، وعلى المنطق النسائي الذي يؤطر أسئلتها من جهة أخرى. لا غرابة إذن أن تكون المرنيسي باحثة ومناضلة نسائية. طريقان يربط الواحد منهما الآخر، إلى حدود تواشجهما، فهي وإن كانت تعتبر كما سنفصل في الباب الثاني جسد الأنثى مصدر الفزع الذكوري. ولأن هذا الأخير هو سلطة قضيبية فإنه يقوم بمحو خوفه عبر حجب آخره. والنتيجة أن الحجاب لا يدل على رمزية دينية، وإنما على الرعب الذي يعيشه الرجل قبالة جسد المرأة. لقد وجدت في أحد مفكري النهضة العربية منطلقا لتحرير المرأة من الستائر التي تغلفها. تقول المرنيسي: ‹‹لقد حاول مناصر المرأة قاسم أمين أن يتبين المنطق المتحكم في عزل المرأة وفرض الحجاب عليها، كأساس للتفرقة بين الجنسين، وقد توصل إلى أن المرأة أقدر من الرجل على التحكم في ميولها الجنسية، وبالتالي فإن الفصل بين الجنسين وسيلة لحماية الرجل وليس المرأة›› . من هنا يكون الجنس الموضوع الرئيس في منجزها العلمي. فهي لا تنظر إليه، وإنما تبحث فيه ميدانيا. فمن بين أهم الدراسات التي أنجزتها ميدانيا حول الطلاق بين 1980و1984، انطلاقا من عينة محددة في مدينتي الرباط والدارالبيضاء، وبعد استجواب الأزواج المطلقين اوالذين ينتظرون طلاقهم في المحاكم الشرعية استنتجت أن الجنس هوالسبب الحقيقي في الطلاق حتى وإن لم يكن معبرا عنه بوضوح. فالجنس هو المشكل الكامن وراء انهيار الأسرة، لكن لماذا لا يُعبر عنه بوضوح؟ هنا يتسع الحجاب بين المرأة والرجل كتعبير عن الهوة التي تفصل بينهما.