أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. كان المرحوم بومدين، قد أمضى سنتين على رأس مجلس قيادة الثورة، يحاول إقناع الرأي العام في الداخل والخارج، بأن الثورة الجزائرية في أيامه ما تزال وفية لتوجهاتها الأصلية، وكان أغلب المثقفين والمناضلين يستمعون إليه دون أن يقتنعوا تماما بما يقدمه من حجج، وكان الشعب منصرفا إلى هموم الحياة اليومية، يكاد يكفر بالسياسة وبالعمل السياسي. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن شعبية هواري بومدين، قد بدأت فعلا مع أيام الحرب الستة، حين ألقى خطابه التاريخي الشهير بعد الهزيمة، وقال فيه ما مؤداه : «إن العروبة ليست في دمشق والقاهرة وعمان وبغداد فقط، ولكنها أيضا في طرابلسوتونسوالجزائروالرباط». وكانت أيام الحرب تلك، هي بداية خروج الرئيس هواري بومدين من عزلته الداخلية و الدولية. لقد خرجت الجماهير الجزائرية لأول مرة تهتف باسمه، وصعدت بالآلاف إلى مقر رئاسة الجمهورية ووزارة الدفاع الوطني تردد : «يحيا بو مدين». وفي اليوم المشهود الذي ألقى فيه عبد الناصر خطاب الاستقالة التاريخي، تدفقت الجماهير في الشوارع تهتف له. كان الناس يهيمون في طرقات الجزائر مثل الأيتام، يستمعون إلى الخطاب الناصري في أجهزة الترانزيستور، ويهتفون لكل فقرة منه، فيصيحون مرة : «ناصر في السلطة»، «ناصر إلى الجبهة»، «ناصر تقدم أو مت»، «ناصر معنا». بعد أيام من تلك المظاهرات العفوية، التي أحرق فيها المركز الثقافي الأمريكي، وكاد فيها المركز السوفياتي أن يواجه نفس المصير، وارتفعت فيها سمعة الصين الشعبية إلى ذروتها، كتب المحلل النفساني المعروف الدكتور خالد بن ميلود، مقالا بجريدة النصر اليومية الصادرة آنذاك باللغة الفرنسية في مدينة قسنطينة، أنقل فكرته المركزية من الذاكرة : «كانت الجزائر، قبل ردود فعل شعبها العفوية، على أحداث الشرق الأوسط تشبه قلبا مزروعا في بيئة اصطناعية، وفجأة وجدت نفسها تنزرع داخل جسدها الطبيعي وتنبض بإيقاعه الخاص وبانسجام كامل معه». ما هي أوجه الشبه بين هذه التجربة الوجودية والوجدانية التي جعلت الجزائر، تنبض داخل جسدها الطبيعي، وبين الوضعية الراهنة التي أسفرت عن تطبيع العلاقات مع المغرب وأدت إلى عقد مؤتمر القمة العربية الطارئ، مؤتمر الانتفاضة الفلسطينية، في العاصمة الجزائرية؟ أوجه الشبه هنا تحمل ملامح واحدة ولكنها مختلفة. هي ملامح واحدة لأن الأمر في الحالتين، يتعلق بفلسطين. وهي مختلفة، بسبب تباين الظروف التاريخية. في الظروف التاريخية الحالية استجابة لنفس النداء الآتي من المشرق العربي، وتحديدا من الضفة الغربية وقطاع غزة. أما في الظرفية التاريخية الماضية، فقد كان المدرك السياسي للقيادة الجزائرية وللشعب الجزائري، هو التضامن مع مصر وسوريا والأردن. عاشت الجزائر التجربة الأولى، أي حرب الأيام الستة، وهي ما تزال حديثة العهد بالاستقلال، باحثة عن هوية شعبها وهوية نظامها، وعاشت التجربة الثانية، وهي فترة الانتفاضة بعد مرور ربع قرن على استقلالها، وهي فترة كافية لبلوغها سن الرشد السياسي، ولذلك رأيناها تتجاوز ردود الفعل العفوية إلى الفعل الإيجابي. في كلام مختلف، فإن الجزائر التي بدأت «تنبض» مع حرب الأيام الستة، داخل جسمها الطبيعي، تمكنت بعد عشرين سنة من قيادة هذا الجسم العربي المنهك بالنزاعات والحروب الحدودية والأهلية للالتفاف حول المسألة الفلسطينية. ولسائل أن يسأل : وما صلة ذلك كله بالعلاقات المغربية الجزائرية؟ وبمرحلة العد التنازلي في هذه العلاقات؟ والجواب في اختصار شديد، هو أن المشكلة الجوهرية القائمة بين البلدين، هي الخلاف الناشب بينهما منذ منتصف السبعينات بشأن مصير الأقاليم الجنوبية المغربية. مصدر الخلاف حساب خاطئ ورط فيه المرحوم الهواري بومدين بلاده نتيجة لتقديرات محلية واعتبارات دولية، اتسمت عربيا بغياب مصر عن ساحة الفعل وبظهور أكثر من قطب طامع أو طامح، لا فرق، في خلافاتها وبوجود مخاوف من أن قلب التوازنات في الساحة المغاربية عبر استرجاع المغرب لامتداداته الطبيعية الصحراوية قد يهدد أمن الثورة الجزائرية. وفي اختصار أشد، كانت الحقبة الممتدة من أيام المسيرة الخضراء وخروج إسبانيا من الصحراء المغربية، حتى رسو باخرة مراكش الملكية في ميناء الجزائر، في الأسبوع الأول من هذا الشهر (يونيو 1988)، ثم انعقاد مؤتمر القمة العربي، وبعده مؤتمر القمة المغاربي، مرورا بالطفرة النفطية وزيارة السادات المشؤومة للقدس واتفاقات كمب ديفيد، وسقوط الشاه ومجيء الخميني إلى السلطة، وقيام الحرب الأفغانية ونشوب الحرب العراقية الإيرانية، وصعود ميخائيل غورباتشيف إلى قمة السلطة في قصر الكرملين، وزيارة شيمون بيريز إلى المغرب، والمعاهدة الثلاثية بين الجزائروتونسوموريتانيا، ثم معاهدة الاتحاد العربي الإفريقي بين المغرب وليبيا، ثم عزل الرئيس الحبيب بورقيبة ومجيء الثنائي زين العابدين بن علي-الهادي بكوش إلى السلطة في تونس، وبناء حزام أمن فعال من الجدران الرملية والحصباوية حول بلاد يوسف بن تاشفين، مؤسس مدينة مراكش، علامات مضيئة أو مظلمة، حسب الزاوية التي ننظر منها إليها، ولكنها بارزة بالتأكيد بين خط العد التصاعدي، وخط العد التنازلي في العلاقات المغربية الجزائرية. وهذه بعض الأمثلة فقط : استرجاع الدولة المغربية في الظروف التاريخية المعروفة لأقسام من الوطن احتلتها إسبانيا اعتبر، من طرف الرئيس الهواري بومدين، وهو آنذاك في أوج تحوله نحو الراديكالية، وطموحه إلى زعامة العالم الثالث، بمثابة تهديد مباشر لأمن الثورة، وطفرة الثروة النفطية دفعته إلى تصور إمكانية كسب المعركة من خلال تعبئة موارد الجزائر الاقتصادية ورأسمالها المعنوي لتثبيت أطروحة الكيان الصحراوي. زيارة السادات للقدس وتوقيعه لاتفاقات الصلح المنفرد مع إسرائيل ووقوف المغرب الرسمي، موقفا خاصا من هذا المسلك، دفع الجزائر إلى الانخراط في جبهة الصمود والتصدي وجعل المغرب يظهر وكأنه عضو فاعل في الصف الآخر. زيارة شيمون بيريز إلى المغرب عمقت هذا الشعور لدى القيادة الجزائرية. المعاهدة الثلاثية للإخوة والوفاق بين تونسوالجزائروموريتانيا دفعت المغرب هو الآخر إلى الاعتقاد بأن هدف جارته الشرقية هو محاصرته. الاتحاد العربي الإفريقي بين المغرب وليبيا، وكان في نظر جميع المراقبين ضد طبيعة الأشياء، أقنع الجزائريين بأن غاية جارتهم الغربية الجنوبية هو تطويقهم. اقتراب الجدران الأمنية من الحدود بين البلدين، رغم ما رافق كل مرحلة من مراحل تقدمه وتطوره من توضيحات اعتبر نوعا من الاستفزاز. خمسة عوامل، أسهمت، بعد هذا العد التصاعدي السياسي، والعسكري، في إعداد المناخ لمرحلة العد التنازلي، في العلاقات المغربية الجزائرية. عامل دولي، وهو وصول ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة في موسكو، وما رافقه من أجواء الانفراج والوفاق التي بدأت تنعكس باتجاه التخفيف من حدة النزاعات الإقليمية. عامل إقليمي، يتمثل في التغيير الحاصل بتونس، ونتيجته إصرار هذا البلد على القيام بدور فعال ومستقل فوق الساحة المغاربية على نفس المسافة، قربا وبعدا، انحيازا أو حيادا، من القطبين الكبيرين فيها أي الجزائر والمغرب. عامل اقتصادي تجسد في خفض العائدات النفطية مع دخول الجزائر في مرحلة إصلاحات اقتصادية شاملة تستوجب الاقتصاد الشديد في النفقات وتقليص الأعباء المالية على الدولة. عامل طبيعي هو اجتياح ملايين الجراد الذي لا يعترف بالحدود لتخوم البلدين من الجنوب والغرب والشرق، اجتياحا يهدد محاصيلهما الزراعية ويجبرهما، بل يجبر كل واحد منهما، على خوض حرب من نوع جديد فوق ساحة عمليات شاسعة تمتد من شواطئ البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي إلى أعماق الصحارى الإفريقية النائية. عامل استراتيجي يلوح منذ الآن في الأفق قريب المنظور، ألا وهو محو الحواجز الجمركية بين بلدان السوق الأوروبية المشتركة في عام 1992، وضرورة عثور البلدان المغاربية، قبل انتهاء السنوات الفاصلة بينها وبين هذا التاريخ، على شكل من أشكال الوحدة أو التنسيق على الأقل لمخاطبة الفضاء الأوروبي الموحد، تجاريا وثقافيا وسياسيا، بلهجة تتوفر على حد أدنى من المصداقية. بجانب هذه العوامل الأساسية، التي يمكن أن نركن إليها لتبرير مشروعية ومصداقية حكمنا حول ما أسميناه، في صيغة تشاؤمية، مرحلة العد التنازلي في العلاقات المغربية الجزائرية، توجد مؤشرات نستطيع أن نؤولها أو على الأقل أن نقرأها قراءة سريعة من الزاوية إياها أو من المنطلق ذاته. المؤشر الأول : هو النجاح المتصاعد للوساطة السعودية التي أعطت أولى ثمارها في اجتماع القمة الأول بين رئيسي الدولتين المغربي والجزائري في ربيع 1984، ثم ارتفعت إلى مستوى رمزي له دلالاته العميقة، حين حضر العاهل السعودي، فهد بن عبد العزيز شخصيا في القمة الثانية (ربيع العام الماضي). المؤشر الثاني : هو الطريقة التي عالج بها الرئيس الشاذلي بن جديد ذيول حضور زعيم جبهة البوليساريو، في الاجتماع الاخير للمجلس الوطني الفلسطينيبالجزائر. حتى الآن لا تتوفر رواية يمكن أن يطمئن إليها المراقب لتفسير وقوف محمد عبد العزيز المراكشي رئيس الجمهورية العربية الديمقراطية الصحراوية على المنصة الرسمية، بجانب السيد ياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. هل كان ذلك الحضور «استفزازا» للطرف الفلسطيني وللطرف المغربي، وحتى للطرف الجزائري، من قبل عناصر ما تزال نافذة في أحد الأجهزة؟ هل هو نتيجة لصفقة فرضت على الفلسطينيين ثمنا لاجتماعهم في الجزائر؟ هل هو تحد غبي ومجاني من الذين دبروه؟ وهل... ما يعنينا من أمره، وما يمس موضوعنا، هو أن رئيس الدولة الشاذلي بن جديد بادر شخصيا باستقبال السيد أحمد بن سودة المستشار بالقصر الملكي، وكلفه بإبلاغ رسالة شفوية رسمية إلى الملك الحسن الثاني، وأن هذا الأخير، في الخطاب التاريخي الشهير الذي ألقاه بعد ذلك، وألزم فيه كل المغاربة بمقاطعة أي تظاهرة، أو ندوة أو مهرجان أو مؤتمر يحضره الفلسطينيون ويتحدثون فيه عن فلسطين،لم يتكلم عن الجزائر المضيفة التي وقعت تلك الغلطة فوق ترابها بالتأكيد، وربما بتحريض بعض مسؤوليها. وما زلنا نذكر أن خطبة عبد العزيز المراكشي هذه كانت نقطة انطلاق في تدهور العلاقات الجيدة، بين منظمة التحرير الفلسطينية والدولة المغربية، وسببا في مغادرة الأخ أبو مروان ممثل المنظمة في المغرب للرباط، بل مصدر إحراج كبير للمسؤولين المغاربة، رسميين و غير رسميين، لفترة طويلة لم تنته عمليا إلا بعد مضي أسابيع على اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. نورد هذه الملاحظة لا من أجل نبش الماضي، فهو ما يزال حيا في الذاكرة لقرب عهدنا به، وإنما لارتباطه الشديد بالمؤشرات الأخرى التي نرى فيها أكثر من برهان على وجود بذور ما وصفناه بمرحلة العد التنازلي الحالية، في الفترة الزمنية السابقة. إن استقبال الشاذلي بن جديد للسيد أحمد بن سودة، وتجنب العاهل المغربي، في خطابه الرسمي، الذي ترك أثرا عظيما في نفوس المغاربة، تحميل السلطات الجزائرية العليا، لمسؤولية ما حدث، لهُوَ موقف يمكن أن نقرأه الآن كتمهيد لما بعده. إن الطريقة الدرامية التي طرحت بها مسألة حضور البوليساريو، في داخل المغرب، والأسلوب الاستفزازي الذي فرض به أنصارها ظهور زعيمها بالجزائر، لا يقابلهما إلا الحكمة والاعتدال اللذين عالج بهما رئيسا الدولتين تداعيات ومضاعفات الحدث، وهذا هو الجانب المهم والأهم في الحدث، أي الجانب الذي يجعل منه مؤشرا مثيرا ومتميزا للحظة التاريخية التي نعيشها الآن. المؤشر الثالث : يمكن أن نطلق عليه «المحتوى الأمني» لما أسميناه «العامل الطبيعي»، أي التعاون الذي بدأ بين البلدين لمواجهة اجتياح الجراد. وإنه لمن المثير حقا أن يبدأ التنسيق حول هذه النقطة لا بواسطة الخبراء الاعتياديين أمثال وزيري الزراعة ومساعديهم من الخبراء والتقنيين، وإنما عن طريق زيارة تفقدية يقوم بها كل من السيد إدريس البصري وزير الداخلية والإعلام المغربي والسيد الهادي الخضيري وزير الداخلية الجزائري، إلى المناطق المنكوبة بالجراد في تخوم البلدين. ونحن نعرف مكانة الرجلين في جهازي الدولتين، ونعرف وزن كل واحد منهما في صنع القرار وتطبيقه، وندرك أن اختيارهما لمعالجة اجتياح الجراد يحمل أكثر من دلالة سياسية، و يشكل بدوره إرادة واضحة على وجود رغبة قوية في القمة لإعادة بناء الجسور، وتدشين عهد جديد. وإذا كان خطاب محمد عبد العزيز المراكشي، قد لعب دورا ما في تدهور العلاقات بين المغرب الرسمي ومنظمة التحرير الفلسطينية، وكشف في الآونة ذاتها عن وجود إرادة عليا في حصر مضاعفاتها خارج دائرة العلاقات الثنائية الجزائرية المغربية، فإن اجتياح الجراد، شكل «دافعا» بالمعنى الفيزيائي للكلمة، لتحريك هذه العلاقات كخطوة متقدمة على طريق الاقتراب من نقطة البدء في العد التنازلي. المؤشر الرابع : طبيعة الوفد الرسمي الذي زار المغرب ليوجه له الدعوة إلى حضور مؤتمر القمة العربي. لقد كان هذا الوفد مؤلفا من السيدين محمد الشريف مساعدية الرجل الثاني في حزب جبهة التحرير الوطني الجزائري الحاكم، والجنرال العربي بلخير مدير ديوان الرئيس الشاذلي بن جديد. بالطبع زار الوفد المذكور الأقطار المغاربية الأخرى، أي موريتانياوتونس وليبيا، لتبليغ نفس الدعوة إليها، لكنه زار المغرب مرتين، وأسفرت رحلته الأخيرة إليه عن وضع اللبنات الأولى للبيان الذي سيصدر لاحقا في كل من الرباط و الجزائر، معلنا عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين القطرين الشقيقين. المؤشر الخامس : أو المؤشر الرابع مكررا، لكونه ينبع من سابقه، يتمثل في تكوين الوفدين الجزائري والمغربي اللذين قاما بإعداد أجمل هدية قدمت إلى الشعبين عشية عيد الفطر المبارك. إن لتكوين هذين الوفدين وللبيان الذي صدر عنهما، أكثر من زاوية يمكننا أن نطل منها على هذا الحدث الفاصل في مسيرة التقارب الجديدة. الشخصيتان المغربيتان، أي السيد أحمد رضى غديرة، مستشار الملك الحسن الثاني وادريس البصري وزير الداخلية والإعلام، هما كما نعلم من أكثر صناع القرار السياسي نفوذا في الحاشية الملكية، وبالتالي في قمة الدولة المغربية. الأول، هو الذي يدير بالمعنى الكامل للإدارة والقيادة، الملف الدبلوماسي للمشكلة الصحراوية منذ ابتداء النزاع، وقد شارك بهذه الصفة في كل الاتصالات السرية والعلنية، المعروفة وغير المعروفة مع الأطراف المعنية، أي الجزائر والبوليساريو، والثاني، أي وزير الداخلية والإعلام، هو صانع الإدارة الفعالة في الأقاليم الصحراوية المسترجعة. والإثنان، هما المنفذان، وإن بدرجات متفاوتة في حظوظها من النجاح، بسبب اختلاف طبيعة المهمات الموكولة إليهما، لسياسة الدولة المغربية في الداخل والخارج. الوفد الجزائري كان مؤلفا من السادة محمد الشريف مساعدية، الأمين الدائم للأمانة الدائمة للجنة المركزية لجبهة التحرير الجزائري، والهادي الخضيري وزير الداخلية، وأحمد طالب الإبراهيمي وزير الخارجية، والعربي بلخير مدير ديوان رئاسة الجمهورية. وإذا كان القياس لا يستقيم إلا فيما هو قابل للمقارنة والموازنة، فإننا نستطيع أن نعثر على عضوين على الأقل من الوفد الجزائري، هما وزير الخارجية ومسؤول الحزب، قاما بدور مماثل أو شبيه بالدور الذي لعبه السيدان أحمد رضى غديرة وادريس البصري. ولأسباب يطول الخوض فيها هنا، وقد تنأى بنا عن لب الموضوع، ساد الاعتقاد في السنوات الأخيرة، عن خطأ أو صواب، بأن مسؤول الحزب ورئيس الدبلوماسية كانا في عداد الصقور بالنسبة للنزاع المغربي الجزائري. وسواء صح هذا التفسير، أو كان واهيا من أساسه، فإننا نجد في الصورة والانطباع الناجمين عنه، في الساحة المغربية والمغاربية والجزائرية، فرقا جوهريا مع تركيبة الوفد الآخر. إن المغرب، حين يتعلق الأمر بمسألة أقاليمه الجنوبية، خال من هذا التقسيم بين الصقور والحمائم. والناس فيه، أو على الأقل الطبقة السياسية الصانعة للقرار منهم ،مؤلفون من صقور حمائم أو حمائم صقور، أي أنها مكونة من فئات أو عناصر تؤمن بضرورة المزج بين الحزم، حين يتطلبه الموقف والمرونة التي يمليها الواقع المتغير. ولا فرق هنا بين الدولة والمعارضة، ولا بين الشعب والحكومة. الشق الآخر من الوفد الجزائري، أي وزير الداخلية والأمين العام للرئاسة، هما رجلا الرئيس الشاذلي بن جديد، وليسا في كل الحسابات والتقديرات المتداولة والمستندة إلى درجة ملموسة من المعقولية، من المتحمسين للعبة شد الحبال مع المغرب، وتوسيع دائرة الاهتمام بالعلاقات المغربية، لتشمل مدير ديوان الرئيس ووزير داخليته، بعد أن كانت محصورة في وزارة الخارجية طوال السنوات الماضية يعني، من جملة أشياء أخرى، أن الرئاسة أصبحت توظف جزءا من سلطتها الدستورية والسياسية والتنفيذية لدفع عملية التطبيع نحو آفاق بقيت مسدودة إلى فترة قريبة. إن اشتراك الجنرال العربي بلخير مدير ديوان الرئيس الشاذلي بن جديد، وإشراك السيد الهادي الخضيري وزير الداخلية، ورجل ثقة الرئيس في مسيرة التطبيع الجديدة، هو الحرف الأول في أبجدية سياسية موجهة إلى الداخل وإلى الخارج، أبجدية لن تكتمل حروفها ويتضح محتواها إلا بعد انتهاء المؤتمر القادم للحزب. المؤشر السادس : الأسلوب الذي عالج به المسؤولون الجزائريون، وعلى رأسهم الشاذلي بن جديد، حضور سفير ما يسمى بالجمهورية الصحراوية، ضمن الدبلوماسيين المدعوين إلى حفلة العشاء المنظمة على شرف الملوك والرؤساء العرب. والأسئلة المحيطة بهذا الموضوع كثيرة : هل تلك الدعوة التي وجهت إلى «السفير الصحراوي» مجرد خطأ ارتكبته التشريفات الرئاسية أو تشريفات وزارة الخارجية؟ هل هو «استفزاز» مثل سابقة عبد العزيز المراكشي؟ هل هو عملية «جس نبض»؟ أيا ما كان الجواب فالاعتذار كان هذه المرة بحجم الخطيئة، لقد انتقل الرئيس الشاذلي بن جديد، ومعه أركان الدولة والحزب إلى باخرة مراكش الراسية في مرفإ الجزائر العاصمة، وأعلن الطرفان أن القضية انتهت بعد أن قامت أجهزة الأمن بإخراج «الدبلوماسي الصحراوي» من الحفلة على رؤوس الملأ. المؤشر السابع والأخير : اختيار السفيرين الجديدين، أي السيد عبد الحميد المهري ليمثل الجزائر في الرباط، والدكتور عبد اللطيف بربيش ليمثل المغرب بالعاصمة الجزائرية. كلا السفيرين، يتمتعان بالثقة المطلقة لرئيسي الدولتين، ووجودهما في منصبيهما، يعني بكل بساطة أن مسألة العلاقات الثنائية، دخلت مسارات جديدة تحت الإشراف المباشر لقمة السلطة في البلدين. بعبارة أخرى، صارت السياسة والدبلوماسية المتصلة بمجال العلاقات الثنائية من صميم تلك الخصوصية التي أطلق عليها المعلقون الفرنسيون في عهد الجنرال ديغول : «مجال مغلق Domaine réservé».