أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. كانت المفاجأة في الجزائر يوم 20 غشت 1955 أقوى منها في المغرب، وكان حجم الكارثة التي حلت بالوجود الاستعماري أوسع وأعمق، وكانت النتائج السياسية والنفسية أكثر جذرية. لقد انطلقت الانتفاضة الشعبية المسلحة التي تم الإعداد لها في اجتماعات مشتركة بين مندوبين عن جبهة التحرير الوطني وممثلين عن جيش التحرير وحركة المقاومة المغربيين، عقدت بالقاهرة ومدريد وتطوان، انطلقت من مدينة سكيكدة (فليب فيل بالفرنسية آنذاك)، الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، كبداية، على غرار مثيلتها التي حدثت في جبال الأطلس المتوسطة المغربية (خنيفرة، بني ملال، تادلة ووادي زم)، لخطة شاملة على صعيد المغرب العربي كله، هدفها توحيد أقطاره الثلاثة. جاءت الأحداث الجزائرية من ضاحية اليأس، أو من حزام البؤس المحيط بتلك المدينة العصرية التي كان أغلب سكانها من الأوروبيين، وامتدت منها نحو مدن القالة (على الشاطئ)، وقسنطينة وعين عابد والحروش ووادي الزناتي، في السهول المجاورة. كان 20 غشت 1955 يوم سبت ارتفعت فيه درجة الحرارة إلى أربعين في الظل، وكانت السماء ذات زرقة لا تحتمل من الصفاء. ومنذ الساعة السابعة صباحا بدأ مناضلو جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني، وهم بلباس الميدان يجمعون الرجال والنساء والأطفال في أماكن معينة حُددت قبل ذلك بأيام في الأحياء الشعبية العربية المحيطة بالمدينة ليلقوا عليهم خطبا سياسية حماسية يشرحون لهم فيها الهدف من تلك الانتفاضة الشاملة. في تلك الاجتماعات المسلحة ترددت كثيرا كلمتا مصر والمغرب وكلمات أخرى عن الثورة والاستقلال والوحدة المغاربية. وأنا أكتب تفاصيل وقائع ذلك اليوم على ضوء مرويات ومسموعات صادرة عن بعض الذين شاركوا فيها مباشرة، وخاصة الصديقين علي حسين كافي وصالح بوبنيدر (المعروف بصوت العرب)، وهما مناضلان من الرعيل الأول، وصل كل واحد منهما إلى رتبة عقيد في جيش التحرير الوطني الجزائري، واستلما بالتتابع، بعد المرحوم زيغود يوسف، الذي أشرف على انتفاضة 20 غشت 1955 مسؤولية قيادة الولاية الثانية، مسرح أحداث تلك الحقبة التاريخية. كذلك أكتبها بالاستناد إلى وثائق وكتب موجودة لعل أهمها مؤلفات الصحفي الفرنسي إيف كوريير، والمؤرخ الجزائري محمد حربي، وقد نشر الأول كتابا من أربعة أجزاء بعنوان : «حرب الجزائر» والثاني عدة كتب عن الثورة من أهمها «بداية حرب الجزائر» ثم «جبهة التحرير : أساطير وحقائق» هي التي اعتمدتُ عليها هنا وهي التي سوف أستند عليها في الرسالة القادمة عن مؤتمر الصمام (20 غشت 1956). أما الآن فإنني أريد أن أقف عند ماجرى في ذلك اليوم بمدينة سكيكدة. «في وسط المدينة. كان الناس يجهلون كل شيء عن هذه التجمعات، وذلك أمر مفهوم تماما. وفي الساعة الحادية عشرة صباحا بدأت الإدارات والشركات تقذف بالمواطنين والعاملين فيها إلى الشوارع. إنها عطلة الأسبوع وواجهات المقاهي غاصة بالمستهلكين والناس يستعدون للانطلاق إلى الكورنيش المطل على الخليج الجميل للسباحة في أحد الشواطئ القريبة. وهناك ضوضاء ملونة مثل ما هو الحال في جميع مدن البحر الأبيض الصغير. حيث يتنادى الناس بأسمائهم. يتحدثون بأصوات عالية ويغازلون البنات، وغدا يوم الأحد والناس سعداء، ولذلك لم ينتبهوا إلى الطلقة الأولى، ثم فجأة وفي جزء من الثانية دب الرعب في صفوفهم وبدأ الصراخ والصياح والعويل والازدحام الفوضوي، طلقات المدافع الرشاشة كانت تجزر المتسكعين وتدفعهم إلى البحث عن مكان آمن، ولا أحد يعرف ما الذي يحدث بالضبط لكأَنَّ قدم عملاق تحطم مسكنا للنمل، ولم يعد لأي شيء معنى، وقد أصيب الرجال والنساء بالهلع وأخذوا يتراكضون في كل الاتجاهات ويتكدسون في المقاهي كملاجئ لحماية أنفسهم من الموت..». وانطلقت أصوات تقول : «العرب، العرب إنهم العرب» وانطلقت معها الكلمات التهديدية المألوفة : «إذا لم نقم بسحقهم فسوف يذبحوننا في أسرة النوم». (حرب الجزائر لايف كوريير، الجزء الثاني -صفحة 208). نعم، إنهم العرب، وقد انفجر الغضب المكبوت في صدورهم منذ عشرات السنين، جاءوا من ضاحية اليأس إلى رحاب الأمل، يزحفون في صفوف متماسكة يتألف كل واحد منها من ستة أشخاص ينطلق من حناجرهم النشيد القديم لحزب الشعب الجزائري. وكانت الزغاريد تنطلق من صفوفهم أو تحييهم عند مرورهم، معبرة عما في القلوب من فرح وإصرار. إنهم بحر إنساني كاسح، مسلح ببنادق الصيد وبالرشاشات وبالسواطير والمناجل والهراوات والسكاكين، يتقدم، يزحف مدمرا كلَّ ما يعترضه. إنها الغوغاء الغاضبة. «لقد كانوا يسيرون مثل النيام»، كما سمعت ذات مرة من أحد الذين شاركوا في تلك المسيرة الدامية. إنها الموجة العربية الهادرة يؤطرها رجال جيش التحرير وهم يربطون على وجوههم أشرطة حمراء أو صفراء أو زرقاء تميزهم عن الآخرين. وكان دورهم يتحدد في قيادة الجماهير الغاضبة وتوجيهها إلى أهداف معينة ثم تشجيعها والدفاع عنها. وقد ذكر لي العقيد علي حسين كافي أن المرحوم زيغود يوسف ومساعده الأخضر بن طوبال (الذي تولى منصب وزير الداخلية في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ثم اعتزل السياسة بعد الاستقلال) اللذين كانت تقع على عاتقهما آنذاك مسؤولية تنظيم الانتفاضة حددا الهدف منها بأنه «زرع الخوف». ولقد تحقق ذلك الهدف بسرعة، لكن الهجوم المضاد لم يتأخر. لقد جاءت وحدات من سلاح المظليين ورجال الأمن، تمركزت في شارع كليمنصو عند كنيسة القلب الأقدس لمريم المجدلية، وبدأت تطلق النار بصورة عشوائية على العرب القادمين من ضواحي المدينة، فسقط عشرات الجنود والمدنيين. سقطوا ونهضوا مضرجين بدمائهم وأفرغوا ما لديهم من رصاص في كل الاتجاهات، وتمكن خمسة عشر مقاتلا مسلحا من اقتحام بيت في أحد الشوارع أغلقوه عليهم وفتحوا نوافذه وأخذوا يطلقون النار على كل الأوروبيين. طوق رجال المظلات ذلك البيت وحاولوا أن يقتحموه واستمرت المعركة خمس ساعات كاملة بالرمانات والقنابل الدخانية والغازية القاتلة والمسيلة للدموع وبالرشاشات ومدافع الهاون. وكانت انفجارات القنابل تتجاوب مع زخات رصاص الرشاشات، داخل المقاهي وفي الشوارع. أما في مدينة قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري، ومقر جمعية العلماء والمهد الفكري والروحي للحركة الوطنية، فقد بدأ ذلك اليوم الفاصل في تاريخ الجزائر وفي تاريخ المغرب العربي كله بحادث اغتيال فردي كان له وقع كبير في نفوس الجماهير. إنه حادث اغتيال الصيدلي الشهير عباس علاوة إبن أخت الصيدلي الشهير فرحات عباس. لم يكن ذلك القتل اعتباطا. لقد صدر به أمر رسمي من قيادة جبهة التحرير الوطني في قسنطينة، وتحديدا من طرف الأخضر بن طوبال، مساعد زيغود يوسف آنذاك. وعلى رغم الفوارق الكثيرة بين الحالتين، فإن هذه العملية تشبه واحدة مماثلة لها وقعت في اليوم نفسه بمدينة وادي زم المغربية، عنيت بذلك اغتيال القائد بن بوعزة. وإجمالا فإن تصفية العناصر المتعاونة مع السلطات الفرنسية أو المتواطئة معها أو التي تفكر وتعمل من أجل إنشاء قوة ثالثة خارج إطار حركة المقاومة المسلحة، كانت في ذلك اليوم (20 غشت 1955) من السمات البارزة المشتركة لأحداث الأطلس المتوسط المغربي وأحداث الشمال القسنطيني الجزائري.