لقد صارت موضوعة الجسد تستقطب اليوم اهتماما بالغا في الفكر الفلسفي والعلمي، ليس لأنها كانت موضوعة خارج التقليد الفلسفي والديني، وإنما بالنظر إليها من زوايا علمية متعددة، كالسوسيولوجيا، والأنثربولوجيا، والتحليل النفسي، والسيميولوجيا والأدب... ونحن هنا، لا نود الانخراط في تاريخ الجسد، ولكننا نرغب في الإشارة إلى أهم القضايا التي أثيرت حوله. ونعني ثلاث محطات رئيسة وهي: الفكر الفلسفي، والفكر الديني، وأخيرا الفكر العلمي. والوقوف عند هذه المحطات يشكل بالنسبة لنا خريطة طريق لملامسة واختراق الإشكالية البحثية التي اقترحنا النظر إليها. وهي محطات تشكل استئناسا أوليا لموضوعنا. ج – النكاح: لا يشكل النكاح بعدا جنسيا تمثله علاقة الوصل بين الرجل والمرأة، وإنما يتعداه في بعده الأنطولوجي، فجميع الموجودات تبتديء من هذا الفعل لأنه تركيب بين موجودين متقابلين ومتعارضين في الجنس والصفة. يعتبر النكاح بهذا المعنى فكرا توليفيا وتركيبيا يكون فيه الوصل منتجا لموجود آخر، لقد أفاض الشيخ الأكبر في ذلك داخل اللغة ذاتها، وسماه تناكح الحروف، فالحروف تتداخل فيما بينها لتعطينا كلمة، وهذه الأخيرة تبحث عن المعنى. هو فعل توالدي إذن يكون فيه فعل الوصل القاعدة الرئيسة ‹‹...المتكلم أب والسامع أم والتكلم نكاح والموجود من ذلك في فهم السامع ابن، فكل أب علوي فإنه مؤثر وكل أم سفلية فإنها مؤثر فيها، وكل نسبة بينهما معينة نكاح وتوجه، وكل نتيجة ابن، ومن هنا يفهم قول المتكلم لمن يريد قيامه: قم، فيقوم المراد بالقيام عن أثر لفظه قم، فإن لم يقم السامع وهو أم، بلا شك، فهو عقيم و إذا كان عقيما فليس بأم في تلك الحالة...›› . بهذا المعنى يفكك كلام الله المنبني على كلمة "كن" وهي كلمة تعني التكوين، فهي حاملة للمفعولات المبنية على الفعالية والانفعالية وهذا ما يفيده التواصل بين المتكلم والمخاطب، لأنه مسكون بالتأثير والتأثر بالفعل والانفعال. إن الشيخ الأكبر – بهذا التصوير – يقدم لنا النكاح في بعده العام، يلاعب اللغة العربية لتنكشف له الدلالة السرية للوصل والاتصال. لا يكون الوصل إلا من خلال مقدمتين/موجودتين متقابلتين، لهذا وسمه ب "علم النكاح" كعلم سائر في الكون، وقد ميز بين ثلاث أنكحة... نكاح حسي طبيعي، ونكاح معنوي روحي، ونكاح إلهي. يقول الشيخ الأكبر: ‹‹اعلم أيدك الله أن هذا هو علم التوالد والتناسل وهو من علوم الأكوان وأصله من العلم الإلهي... فإن كل علم أصله من العلم الإلهي›› . يعتبر هذا القول دلالة على شمولية النكاح والتجريد الموسوم به فهو لا يتعلق بأحكام الفقهاء، بل يحيل على كونه محركا للوجود العام الميتافيزيقي، والمادي والروحي واللغوي. إنه الكاشف للأسرار، إذا اعتبرنا النكاح يشترط فاعلا ومنفعلا (الذات والآخر)، فإنه يندفع نحو المعرفة أي معرفة السر الذي يربطهما، يقول في موقع آخر من الفتوحات المكية... لا تتحقق للقطب ولا لغيره من العارفين أكثر مما تتحقق له في النكاح . يمكننا ربط هذا القول بالتقليد الإسلامي، والذي يعتبر النكاح تقوية لعبادة الله ، وقد نحصل على هذا الكلام في الأحاديث النبوية الشريفة إلا أن ابن عربي وإن كان لا يسير في التوجه العام الذي أسسته نظرة الفقيه للجنس، النكاح، فإنه مع ذلك يعتبره إمكانية للمعرفة، وكشفا للأسرار. وبالجملة فإن الاتصال الجنسي للموجودات يقدم لنا تركيبا جديدا حتى أن بعض الدارسين للتصوف الإسلامي يرون في العلاقة الرابطة بين الشيخ والمريد نوعا من الأفضلية التراتبية الموجودة بينهما، فالشيخ هو العلوي بينما المريد يحتل السفلي. بهذه الإشارة الرمزية، يكون الشيخ فاعلا والمريد منفعلا، هذا الأخير يذعن لطلبات شيخه طلبا للعلم والمعرفة اللَّدُنييْن، وكأن الاتصال الجنسي وسيلة في ذلك. إن هذه الخاصية الجنسية موجودة في الأساطير القديمة كملحمة جلجاميش مثلا. هكذا يتوزع النكاح من مقام إلى آخر ومن مرتبة إلى أخرى ما دام هوالفعل الناظم للوجود، وهوالكاشف للأسرار الكونية. لقد اشتغل العرب على الجسد في علاقته بالطبيعة، والتي تحكمها العناصر الأربعة (النار، الهواء، الماء، التراب) ولعل اهتمامهم بذلك راجع إلى أنها تكون الجسد، لكن ما الذي يربط هذا بذاك؟ هل هو فعل طبيعي تكويني؟ أم أنه استثمار للتصور الذي أقامته الفلسفة اليونانية للوجود الطبيعي؟ إذا قمنا بقياس هذا الربط بأسطورة الخلق، وما تلاها من طرد آدم من الجنة، لأنه ينتمي إلى العالم الأرضي، فإننا سنحصل على الكيفية الذي اهتم بها العرب الأقدمون بالجسد في علاقته بالطبيعة. سيكون هذا الانشغال متمركزا في الطب والسحر مثلما سيكون نافدة فكرية... لذا سنقترح رؤيتين لهاته الموضوعة من خلال جلال الدين السيوطي والشيخ الأكبر، يقول الأول موردا حديثا نبويا، ‹‹خلق الله الإنسان من... الماء والطين والنار والريح. أما إذا كثر الماء فيكون حافظا أو عالما أو فقهيا أو كريما. وأما إذا كثر الطين فيكون سفاكا خبيثا مفلسا في الدنيا والآخرة. وأما إذا كثر النار فيكون [...] ظالما، وأما إذا كثر الريح فيكون كذابا›› . يحيلنا هذا النص على ما ترسخ في ثقافتنا الشعبية عبر ربط العناصر الأربعة بالمزاج العام للجسد، وقد نجد هذا التوصيف حاضرا في السحر، والخرافة بل أكثر من ذلك يرمي هذا الحديث لربطه بالثقافات الإنسانية من أساطير وملاحم ومرويات وقصص وأشعار... وهي كلها تنبني على تفسير نفسي للإنسان، كأن غلبة عنصر من العناصر الأربعة يرمز إلى طبيعة صاحبه. لكن مع الشيخ الأكبر سنجد رؤية مغايرة للأول، وهذا بين في المنطلقات التي تؤسس هذا الخطاب على ذلك، يقول ابن عربي ‹‹... جعل التراب يلي الماء والجامع بينهما البرودة فالمحيل أب والمستحيل أم والاستحالة نكاح والذي استحال إليها ابن...›› . ينفلت الشيخ الأكبر من التصور الفقهي والفلسفي لعملية التكوين عبر تفجير المنطلقات التي تنبني عليها. إذا كان السيوطي يبحث عن التطابق الموجود بين العناصر الأربعة والجسد الإنساني، مستدلا - على ذلك – بالحديث النبوي، وهو فعل يندفع نحو بساطته في التلقي العمومي له. فإن ابن عربي ينحو منحى آخر ووسيلته في ذلك قلب اللغة، لأنه قام بإعادة هندسية لتلك العناصر، سواء على مستوى شكلها، والخصائص التي تتميز بها أو من جهة الدلالة اللغوية لهذه العناصر. سيستنتج إذن علاقة العناصر الأربعة في علاقتها بمفهوم النكاح، باعتباره مفهوما فاعلا في الوجود. اللافت للانتباه في هذه الرؤية هو الكيفية التي يبني بها مقدماته النظرية والنتائج التي يستخلصها. إنها مشروطة بثنائية الفاعل والمنفعل. ثنائية تفيد التوالد والتكوين مثلما تشير إلى الهوية. بالمقابل نجد في العنصر الثاني أو الثالث شكلا مزدوجا كما الخنثى مثلا. هكذا اشتغل ابن عربي على ربط الجسد بطبيعته وطبائعه، لا ليقدم تفسيرا لكل عنصر على حدة. كما ذهب إلى ذلك السيوطي والفقهاء المسلمين، بل ليضع هذه العناصر الأربعة في تركيبة تجمع بين المختلف من خلال وصل النكاح. لا عجب إذن أن تكون جدة الخطاب الصوفي في لغته، و في الاحتفاء بالهامشي والمقصي، كأن المعرفة – بالنسبة للمتصوفة - سلوك، أو هو بالأحرى عبور الجسد من مقام إلى آخر، كما لو كانت جذبة. وشطحة المتصوف إعلاء للألم، وتطهير للجسد من العوائق التي تعيقه عن الاتصال المباشر بالله. إنها رغبة تتشتت من مقام إلى آخر ليصير الله رغبة قصوى، فالحكايا الأسطورية التي تداولها العرب حول المتصوفة تفيد ذلك. إفادة تنبني على الخوارق، وهي خرق للسائد، مثلما هي تمييز لهم عما سواهم من الناس، وهذا ما جلب إليهم التنكيل، والتعذيب والقتل. إن الخطاب الصوفي خطاب مؤسس على الجسد، إنه العلامة الفارقة لبلوغ المعنى، والمعنى سر لا يتوصل إليه إلا من عاش تجربة الألم مثلهم كالشعراء الذين حولهم العشق إلى تعذيب الجسد. صحيح أن ابن عربي بترحاله المهول بين الأفكار والأمصار، بين النصوص والتجربة الذاتية، بين الفاعلية والانفعالية، وبين الذكورة والأنوثة، و بين بين... يقول الصوفي هواه ليعلن جمالية اللغة، جمال اللغة والقبس الإلهي الذي يسكنها. ولكن قراءته تفترض منا العيش معه في تجربته بمعنى أن المعنى المبحوث عنه يكون محايثا للامعنى وهذا أمر يشرع على التأمل، والرقص مع الإشارات والرموز. إن قراءتنا للجسد عند الشيخ الأكبر غير كافية هنا، وإن كانت ترمي إلى الدقة والصرامة العلميتين فإننا ظللنا بالقرب من المعنى. لأن هدفنا – منذ البداية – هو الإحاطة البرقية بالجسد في الإسلام.