الكتابُ الذي ننشر ترجمته الكاملة إلى العربية هو- كما أراد له صاحباه (حبيب المالكي ونرجس الرغاي)- ثمرةَ لقاء. لقاء ما بين رجل سياسة وبيْن إعلامية: الأوّل يريد أنْ يقدّم شهادة، والثانية تريد أنْ تفهم. ليس من عادة رجال السياسة أنْ يقدّموا شهاداتهم. قليلون جدا هُم الذين يَقبلون الانصراف إلى تمْرين تقديم الشهادة. ورَغم ذلك، فإنّ تاريخ المغرب المعاصر بإمكانه أن يشكّل تمرينا جيدا للشهادة. فمنذ مستهل التسعينيات، طوى المغرب صفحات مصالحة لم تكن دائما هادئة. إنها مادة رائعة أمام المُنقّبين الذين يرغبون في الذهاب أبعد من الطابع الآنيّ للمعلومةّّّ! كما أنّ هذا الكتاب هو كذلك ثمرة رغبة ملحّة في الفهم، فهم هذا الحُلم المقطوع التمثّل في التناوب التوافقي الذي دشّنه الوزير الأول السابق المنتمي إلى اليسار، عبد الرحمان اليوسفي. وهو أيضا رغبة في فهم ذلك الإحساس بالطَّعْم غير المكتمل للتناوب الديمقراطي. o قبْل عبد الرحمان اليوسفي، وقبْل 1998، سَبَقَ وجود عرْض أوّل للتناوب، لكنّه رُفضَ. ارْو لنا قليلا هذه الصفحة من التاريخ المعاصر. n لم يكنْ لهذا العرض الأول للتناوب أنْ يفضيَ إلى شيء: فالشُّروط لمْ تكن قد نضجتْ بعد من الناحية السياسية، لأنّ نظامنا البرلمانيّ، على وجه الخُصُوص، كان نظاما بغرفة واحدة. كان نظاما هجينا ندّد به الجميع، وندّدت به الكتلة بالخصوص. وفضْلا عن هذا، كنا مازلنا في البدايات الأولى لتحسين وضعية حقوق الإنسان. وكانت القضايا المطروحة على جدول الأعمال، قضية عودة المنفيين، وإصدار العفو الشامل عن المعتقلين السياسيين. لكن القرار النهائي لم يكن قد اتُّخذ بعد. ولم تكن قواعد اللعبة، على وجه الخصوص، واضحة بما فيه الكفاية. إنّ هناك اختلافاً كبيرا بين التفاوض مع حزب واحد سيتكلف غدا بالإشراف على الحكومة، وبين التفاوض مع الكتلة التي هي إطار ائتلافي يضُمّ «حزب الاستقلال» و»الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» و»حزب التقدم والاشتراكية» و»منظمة العمل الديمقراطية الشعبي». لذلك أعتقد بأنّ المنهجية المعتمدة يومها لم يكنْ لتعطي النتائج المأْمولَة والمنتظرة. ينبغي القول بأنّ هذا الفشل للعرْض الأول للتناوب هو الذي مهّد الطريق لنجاح المحاولة الثانية. o لكنْ حين رفض امْحمد بوسته عرضَ التناوب، ماذا قلتم أنتم؟ هل اعتبرْتُم بأنكم بصدد تفويت موعد مع التاريخ، أو أنه ليس من الصعب، في النهاية، أن يقال «لا» للحسن الثاني؟ n أظن أنه، بالنظر إلى العوامل التي ذكرتها سابقا، لم يكن أمامنا إلا أن نقول «لا». وأود أن أخبرك بأمر يبدو لي في غاية الأهمية. ذلك أنّ فشل هذه المحاولة الأولى لم يمرّ بدون أن يترك أثره على الحسن الثاني. فقد كانت لي المناسبة، بصفتي مسْؤولا عن «المجلس الوطني للشباب والمستقبل» خلال هذه الفترة، أنْ أرى الملك الراحل بقصْره بمدينة بوزنيقة لكي أقدّم له مشروع إنشاء صندوق لدعم المقاولين الشباب. وقد كان شديد الاهتمام بما ينجزه المجلس، وعند نهاية كلّ نشاط، كان يطلب منا أن نعْرضَ أمامه، بصورة شفهيّة، وبملف داعم، القرارات التي يتخذها المجلس. وفي غالب الأحيان يكونُ هذا الاتصالُ مناسبة للحديث دائما عن الشيء نفسه: وهو درجة انخراط الحكومة والقطاع الخاصّ. في ذلك اليوم، وجدته منشغل البال وشاردا. وبعد الانتهاء من تقديم عرضي حول مشروع الصندوق، ثَمَّنَ الحسن الثاني المبادرة، وأعطى موافقته، وفجأة بادَرَني بالسؤال التالي: «أنتَ أستاذٌ، وتمارس التدْريس منذ سنوات. حين تشرح لتلامذتك مرّة أولى ومرتين الشيءَ نفسه، ولا يفهمون، كيف يكون ردّ فعلك؟». وأنا أفاجأ بالسؤال، أجبته تقريبا بدون تفكير، وبطريقة ميكانيكية حقا: «جلالة الملك، إما أنني أَشْرَح بطريقة سيئة، وإما أن تلامذتي في حاجة إلى تأهيل ! «. وقد رد عليّ الحسن الثاني، وأنا أستعد للخروج: «إن تلامذتك بكل تأكيد هم الذين لم ينتبهوا ولم يفهموا». وأضاف: «أتمنى أن يفهم أصدقاؤك ذات يوم». o حين يقول لك الملك: «أتمنى أن يفهم أصدقاؤك ذات يوم»، هل نفهم من وراء هذا أن القطيعة لم تحصل، وأن الاتصال مع المعارضة كان دائما موجودا؟ n رغم المدّ والجزر اللّذيْن يطبعا كلّ حياة سياسية داخلية، أعتقد أن الاتصال لمْ ينقطع أبدا. والدليل هو كثافة الحياة السياسية خلال هذه القترة. كان يلزم ثماني سنوات من أجل طيّ الصفحة التي ناءتْ بكَلْكَلها على مجرى أحداث بالمغرب، وهذه ميزة الحياة السياسية المغربية! o هل كان هناك رجال في الظلّ، شخصيات في الظل لعبت دورا أهمّ من الآخرين بالنسبة لهذه الممهدات المتعلقة بالتناوب ؟ n أظنُّ أن المؤسَّستين الاستشاريتين، «المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان»، و»المجلس الوطني للشباب والمستقبل»، من بين مؤسسات أخرى، والأشخاص المختارين للعمل فيها، قد لعبوا دور التقارب من خلال إعطاء الانطلاق لهذه الدينامية، ومن خلال إزالة الحواجز بين مختلق مكونات المجتمع، لأنّ جميع الحساسيات تواجدتْ بهذه الهيئات تقريبا، ومن خلال خلق مناخ جديد. من الصعب تقديم لائحة بأسماء بعض هؤلاء، لكن يبدو لي أنّ الأهم هو التأكيد على أن الرجل الأساسيّ كان هو عبد الرحمان اليوسفي. فبدون انخراطه في هذه العملية، كان من الصعب الدخول في هذا المسار. إنّ التقاء الإرادة المَلَكية وإرادة اليوسفي هو الذي طبعَ مجرى الأشياء. وهذه الإرادة المشتركة كانتْ تتجلى في إخراج المغرب من الطريق المسدود، وفتح آفاق جديدة. إنّ المغرب هو الذي كان سيكون الخاسر الأكبر. o اليوسفي هو الرجل الأساسي في الوصول إلى التناوب. لكنْ كيف كان اليوسفي يصل إلى اتخاذ مثل هذه القرارات التي هي في النهاية قرارات تاريخية؟ هل كان يتخذها بمفرده؟ هل كان هناك مربع من المستشارين؟ أمْ من الأوفياء المقرّبين منه؟ هل كانت توجد شخصيات أخرى من الاتحاد الاشتراكي تؤثر على اتخاذ القرار؟ n لابد أن أقول بأنّ محمد اليازغي تصرّف تصرّف القائد المنضبط، والمسؤول إلى حدّ بعيد، لكونه سرعان ما فهم الرهانات الجديدة للعبة السياسية. وبما أنه كان جزءا من العملية الأولى، إلى جانب امحمد بوستة، فقد استخلص جميعَ الدروس من التجربة. وهي دروس لاشكّ أنها ساعدته على تقديم الدعم الكبير للمحاولة الثانية. وأنا أعتبر بأنه رافق التجربة الثانية بكل سلاسة. ومن ثم إذن، فهو ليس غريبا عن النهاية التي وصلتْ إليها. أما بالنسبة لنوبير الأموي، فإنّ وضعيته كزعيم نقابي، وعضو في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، كانت تجعله في وضعية غير مريحة. لم يقل «نعم» قط، لكنه لم يعترض أبدا. وباعتباره كاتبا أوّل للحزب، فإنّ اليوسفي اختار ممارسة البيداغوجيا، ولم تكن مغادرته الاختيارية للبلاد من باب الصدفة. لقد كانت بمثابة إشارة موجّهة إلى الجميع مفادها :» لقد رجعتُ إلى البلاد لكي أساهم، لكي أساعد على تحقيق شيء ما. وإذا لم يوصل ذلك إلى شيء، فأنا قادر على مُعاودة حمل حقيبتي». وهذا الأسلوب الخاص باليوسفي، والذي لا يستطيع شخص آخر اعتماده، هو الذي أفْهَمَ مناضلين بأن التاريخ يسير. لقد فهم المناضلون، في الحقيقة، بفضل أسلوب اليوسفي، بأنّ الاتحاد الاشتراكي، بصفته فاعلا تاريخيا كبيرا، يجب أن يلعبَ دوره كفاعل سياسيّ كبير في هذا المنعطف الكبير الذي عَرَفَه المغرب. o في هذا الحديث عن البدايات الأولى للتناوب، كان هناك الحسن الثاني، ولكن كان هناك رجل آخر رئيسي هو إدريس البصري، الوزير الأسبق في الداخلية. وينبغي التذكير بأنّ العرض الأول للتناوب تمّ رفضه، في جزْء منه، بسبب تواجده في الحكومة. وحين قبل اليوسفي بالتناوب، وقبل بأنْ يكون في الحكومة، كان البصري وزيرا للدولة في الداخلية. كيف عاش الاتحاد الاشتراكي حضوره داخل الجهاز التنفيذي، وما هي على الخصوص طبيعة العلاقة التي أقامها قادة الحزب مع إدريس البصري؟ n يقال أنه كان له أصدقاء جيدون داخل الاتحاد الاشتراكي... - ثمّة مستويان اثنان في سؤالك: مستوى العلاقات قبل حكومة التناوب، أما المستوى الثاني فإننا سوف نتحدّث عنه عندما سنتكلم في ما بعد عن تجربة التناوب. فقبْل حلول التناوب، كانت العلاقات بين الكاتب الأول وإدريس البصري محْكومة بتطوّر الحياة السياسية الداخلية. عبد الرحمان اليوسفي رجل جد متهيّب. إنّ تجربته في صفوف المقاومة جعلته في غاية التحفظ والحذر، كما جعلته قليل الكلام، لكنه مقنع في الكلام القليل الذي يصدر عنه. وقد كان إدريس البصري يعْرف سيكولوجية اليوسفي معرفة جيدة. وكانت علاقتهما تسودها المجاملة، والاحترام المتبادل، لكنْ بدون حميمية أبدا. ثم إنَّ اليوسفي، بطبيعته، يخلق المسافة حتى إزاء المقرّبين منه. إنها مسافة يمكن أن تقرّب كما يمكن أن تبعد. إلا أنها مسافة تُحافظ. لقد كان إدريس البصري المنفّذ الوفيّ لتلك السياسة الجديدة التي طبعتْ عقد التسعينيات، سياسة انفتاح جد متحكَّم فيها. ولهذا السبب كان حاضرا في جميع الجبهات، من حقوق الإنسان إلى الحوار الاجتماعي. لا ينبغي أن ننسى اتفاق فاتح غشت 1996، وهو ميثاق شرف بين مختلف النقابات إثْرَ الإضراب العام الذي دعتْ إليه كلّ من الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب في غياب الاتحاد المغربي للشغل. وكان وراءه إدريس البصري. كما كانَ على جبهة الإعلام، وجبهة العلاقات مع الأحزاب السياسية، ناهيك عن الملفات الأمْنية التي كان مكلّفا بها. o هل تعني أنه بعد عقود من الزّمن في وزارة الداخلية، وبعد أن كان مهندس الانتخابات، أو بالأحرى الانتخابات الرديئة، كان البصري يعرف أحزاب المعارضة جيدا؟ n كانت وضعية إدريس البصري الخاصة تسمح له ببعض هوامش التنفيذ، وبإبراز أسلوبه الخاص به كذلك. وبصفته وزيرا للداخلية، فقد كانتْ له علاقات مع كل الطبقة السياسية، وعلاقات تفضيلية بحسب الظرفية، لكنه لم يكن يأخذ أيّة مبادرة إذا لم تكن مندرجة في مسار محدّد سلفا، أو منخرطة في مشروع معيّن. إدريس البصري هو الرجل الذي كان بإمكانه التوفيق بين جميع المستويات، أيْ يؤالف بينها من أجل تحقيق هدف محدّد. o هل كان يعرف الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية؟ هل كان يعتقد بأن الاتحاد الاشتراكي كان قادرا على أنْ يتغيّر كذلك إذا تغيّرت السلطة؟ n أظن أن هذا القرار يعود إلى الملك أكثر مما يعود إلى مسؤول. لقد كان الحسن الثاني مقتنعا بأن نهاية القرن ينبغي أن تضع أسس مغرب جديد من خلال إشراك المعارضة، والاتحاد الاشتراكي على وجه الخصوص. كان الحسن الثاني يهتم بكيفية قوية بالمستوى الجيو سياسي بهذا النظام العالمي الجديد الذي بدأت تلوح معالمه في الأفق. ووراء كل هذا علاقاتنا مع جيراننا، وقضية الوحدة الترابية التي خلقت وضعية جديدة في المغرب. كل هذه العناصر مجتمعة جعلت المواصلة تفرض انخراط المعارضة ممثّلة بصورة أساسية في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. o في ضوْء ما قلتَ الآن، هل كان إدريس البصري في نظر الاتحاد الاشتراكي عدوّا سياسيا أمْ مجرّد منفّذ؟ n من الصّعب اعتبارُ أعضاء الحكومة، ومستشاري الملك أعداءً. فالسياسة تقتضي زوايا نظر أخرى. بما أننا نعرف نظامنا السياسي، فهم منفذون، غير أن طريقة التنفيذ لا ينبغي الاستهانة بها. فكل واحد كان له أسلوبه الخاص، وهنا بالضبط كانت الهوامش تلعب دورها الكامل في هذا الاتجاه. o كان اليوسفي الرجل الأساسي في مجيئ التناوب، لكن في الآن ذاته، من هم الأشخاص الآخرون الذين لعبوا دور التقارب، سواء من جانب السلطة أم جانب الاتحاد الاشتراكي، ونحن على بعد خطوات من التناوب؟ n إنّ ذكر الأسماء من شأنه أن يؤدي إلى شخْصَنة تحوّل سياسي كبير. وهذا ليس في نيّتي، لذا أقول بأنّ الرَّجليْن الأساسييْن هما: الحسن الثاني وعبد الرحمان اليوسفي. o في تلك اللحظة، ما هي الوضعية التي كان يوجد عليها الاتحاد الاشتراكي؟ هل كان الحزب يعيش حالة غليان؟ أم كان يستعدّ لمستقبل جديد، وأفق جديد؟ وما هو موقع المناضلين من كل هذا؟ n كانت لديهم ثقة في اليوسفي للأسباب التي ذكرتُها سابقا. وعلاوة على ذلك، ففي المكتب السياسي لمْ يكن هناك، بكيفية صريحة، موقف مضاد. وأخيرا فإن البيداغوجيا السياسية التي اتبعها اليوسفي من خلال مفاهيم جديدة، ومن خلال خطابه، أدّتْ إلى إقناع المناضلين. داخلَ الاتحاد الاشتراكي، حين يكون القادةُ الأساسيّون متفقين، فإنّ المناضلين يضعون ثقتهم. o في هذه اللحظة، هل لاحظتَ الفرحة أم القلق في صفوف المناضلين الاتحاديين؟ أذكّركَ بأننا في 1996-1997؟ n إنه نوع من القلق الإيجابي الذي أصاب أطرنا ومناضلينا. وأؤكد على أن العلاقة مع قادتنا هي علاقة مبنية أساسا على الثقة. وهي التي تمثل أساس أيّ فعل سياسي. ومع ذلك، فهذا لا يمنع بطبيعة الحال من تجْميع الشروط وتدقيق طبيعة الالتزامات. غير أن الثقة أساسية. وعندما تنعدم الثقة، فإنّ الموقف حتى وإن كان صحيحا، يصعب الدفاع عنه. o تحدّثنا كثيرا عن اليوسفي، اليوسفي الرّجل الأساسي في التناوب، اليوسفي وصمته، اليوسفي وحقيبته. ما هي الصورة التي تحتفظ بها عن اليوسفي؟ n سوف ألخّص اليوسفي كما يلي: هو المهندسُ التاريخي للانتقال منَ المعارضة إلى المشاركة. لقد استطاع إنجاح ثورة هادئة، غير أن موْجات صدْمتها داخل الحزب لم تنته بعد. فقد كان هذا المسار الطويل يتطلب بيداغوجيا سياسية كبيرة. وقد عمل خطاب اليوسفي، أيْ خطاب الحزب في النهاية، أوالخطاب الجديد لليوسفي، أي الخطاب الجديد للحزب، على تحديد أفق جديد، وبخاصة منذُ إصلاح الدستور سنة 1996. يتعلق الأمر بتناوب صريح وواضح، لكنّه التناوب الذي كان هو المَخْرَجَ الوحيد لإنقاذ البلاد. لذلك إذن ما فتئ اليوسفي يشدّد على أهمية الآفاق المستقبلية بالنسبة لنا وبالنسبة للشعب المغربي، في ما يتعلق بمشاركتنا المستقبلية في تسيير شؤون البلاد. وكان يقول :»إنّ من شأن المعارضة الدائمة أنْ تغدو صَدَفة جوفاء». غير أنه كان في الوقت نفسه يشدّد على عدد معين من الشرُوط. من بينها إجراء انتخابات حرّة وشفافة (لهذا السبب قلت لك من قبل بأنّ انتخابات 1997 اعتُبرتْ مقبولة)، ومن بينها وجود جهاز تنفيذي يعبّر عن الإرادة الشعبية، ويتمتع بثقة الملك، ومن بينها أخيرا توفير برنامج قادر على مواجهة التحدّيات في مختلف الميادين، وخصوصا في الميادين المرتبطة بالحياة اليومية للمغاربة. فمنذ مستهل، وطيلة التسعينيات، كانَ له هدف واحد: هو إعادة الثقة وليس المواجهة. وهذه ميزة في غاية الأهمّية تنطوي عليها شخصية عبد الرحمان اليوسفي: إعادة الثقة عبْر الحوار والتوافق. وطيلة هذه الفترة، كان مقتنعا بأنه بدون حوار ولا توافق لا يمكننا أنْ نتقدم. وقد نجح اليوسفي في إقناع مناضلينا وحلفائنا، وَوَضَعَ فيه الحسن الثاني ثقته. كان يتوفّر على حسّ سياسي، حسّ التاريخ كما تقول. أعتبر أنّ اليوسفي، وعلى الرغم من منفاه الطويل، كان قد فهم بأنه لا ينبغي أنْ يكون على رأس حزب من أجْل تتويج مسار حزبيّ ما، وإنما ليساهمَ في كتابة صفحة جديدة في تاريخ المغرب. o هل فهم اليوسفي كذلك آلية اشتغال المخزن، على الرغم من تواجده بعيدا في منفاه؟ n كان الحسن الثاني قد أفهمه بأنه لم يسبق أنْ أهان المستقبل، وأظنّ أنها طريقة للإجابة عن سؤالك. لقد أصرّ الملك كثيرا وهو يقول له :» حتّى وأنتَ تعيش في الخارج فقد كنتُ دائما أقدّرك». o هل تعتبر بأنّ التاريخ قد أنصف اليوسفي؟ n إن التاريخ أنصفه في قراره الشجاع والصعب القاضي بالمشاركة ب»نعم». وسوف نتحدث عن ذلك في ما عشناه. إن تطور مجرى الأمور، طيلة هذه الفترة، قد عزّز طريقتي وأسلوبي في ممارسة السياسة. كما عزّز رؤيتي للأمور، وتحليلاتي، وانخراطي باسم الحزب داخل «المجلس الوطني للشباب والمستقبل». بمناسبة أحد اللقاءات ببعض الإخوان سنة 1982 بمدينة فاس، كنت قد دافعت عن فكرة أثارت نقاشا مفيدا وحادا، غير أنه مزعج إلى حد ما. كنت أتحدث عن سياسة الممكن. وبعد سلسلة من الأسئلة، قمت بتلخيص جوابي على الشكل التالي: سياسة الممكن ليست هي الخضوع لدكتاتورية الواقع التي نرفضها باعتبارنا حزبا في المعارضة، كما أنها ليست هي الهروب إلى الأمام. فالهروب إلى الأمام يشجع الحلول السهلة. قلت إن سياسة الممكن ينبغي ويمكن أن تؤدي إلى وقوع تحولات. حينها بادرني البعض متسائلا: «ماذا تقصد بالممكن؟»، فأجبته بأن كلمة «ممكن» هي مرادف الخزّان الذي يخفي احتياطيا كبيرا من الإصلاحات التي ينبغي تحقيقها. وأنا أعتبر بأنّ التناوب يندرج في منطق سياسية المُمْكن.