تحت شعار «القصة القصيرة بين الأجيال والحساسيات»، نظم نادي الهامش القصصي بزاكورة، ملتقى أحمد بوزفور الوطني الخامس عشر للقصة القصيرة في الفترة ما بين 28 و30 أبريل 2016 ، الذي احتفى في دورته هاته بالكاتبة والقاصة والباحثة المغربية، لطيفة لبصير. هنا شهادات في حق المحتفى بها، حول منجزها الأدبي وانحيازها الإنساني في الكتابة ، وانتصارها للحياة . شيء ما كان يختلج في ممرات تلك المرحلة من بداية التسعينيات، شيء أشبه بصرير الأبواب وهي تُفْتَحُ على الممكن.. وكنا نعمل بحماس المبتدئين الغرار على بناء أحلامنا على الضرورة وحدها، ولو على نحو ناقص. كنا نعيش بوضوح تام لنكتب. «ينبغي أن أكتب»، هذا واحد من أفضال ريلكه علينا.. ينبغي أن نكتب يا لطيفة ونصنع سلما جديدا للكتابة التي نعشقها ونَأْمَنُ فيها ونترمم، وأن نفلح في إعادة تشكيل هذا العالم الذي «يسود» و»يتحجب» ويعود بنا إلى «هذا زمان القرود فاخضع».. كنا، في تلك الآونة، نراقب من زاوية قريبة هذا الذي يحدث. ولم يكن الانكماش الذي نحسه عرضيا، بل رأيناه في دموع أساتذتنا غير القابلة للتمحيص، وفي رائحة الألم الذي يتصاعد من مرجعياتهم التي انقلبت رأسا على عقب. مات جان كوهن، ومات ياكبسون، وماتت جوليا كريسيفا ورولان بارث وجيرار جينيت وباختين وفلادمير بروب وباختين، وحل محلهم عبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجني والجاحظ وابن المقفع وابن جني. وصار كل شيء مفاجئا ومدهشا، وتحولت «كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر، فليس لعين لم يفض ماؤها عذر» إلى مرثية لنا جميعا، ولتاريخنا الذي مرغته قوات المارينز في التراب.. في هذه الأجواء المصطخبة، تعرفت على لطيفة لبصير، الطالبة والأديبة والأستاذة. وليس من باب الإفراط في امتداحها أن أقول إنها ساهمت إلى حد كبير في احتضان اختلاجاتنا الأولى.. بل حولت ارتعاشاتنا على الورق، في وقت من الأوقات، إلى نصوص شديدة الإثارة. لم يكن لنا موضع ثابت لنستقر عليه، كنا في حلقة الكتابة الإبداعية والنقدية، طلبةً منشغلين بما يدلنا على ما يجعلنا نكتسب أبعادا أخرى.. خارج المنجز الشعري والقصصي والنقدي الذي كان أساتذتنا يغمسون تفاصيله في كراساتنا. ولم نكن واثقين من أننا سنعثر على مكاننا الخاص (الذي ننشده) لولا ما يمكن أن نطلق عليه «عناق الأخطبوط» الذي أبان عنه أساتذتنا، وفي طليعتهم المحتفى بها لطيفة لبصير. كنا نحن آنذاك (عبد الله كنزيط، محمد الكعبوبي، محمد المعطاوي، عتيق الزيادي، خديجة قوسال، فاطمة مغضاوي، أمينة بركي، أحمد المعطاوي، ابراهيم الزرقاني، محمد زربان.. إلخ) طلبة نتحرك في ممشى قصير، نفتح علبا لنغلق أخرى، ونخلق علاقات مع نصوص على نحو يقظ، ولا شيء كان يبدو لنا مسيجا بالقضبان الحديدية.. وإذا كان أساتذتنا الآخرون، الذين تعاقبوا على تدبير سير الحلقة (مولاي علي القرشي، قاسم مرغاطة، مصطفى الجباري، عبد المجيد جحفة، عبد الفتاح لكرد)، قد أمنوا لنا الطريق دون أدنى تلطف مبالغ فيه، فإننا وجدنا في لطيفة «مقطعا غنائيا بالغ الصفاء»: أولا، لأنها كانت مثلنا تقترف نصوصا جميلة تشبهنا على نحو يعطي فكرة عن قراءاتها، ويكشف عن مرجعياتها. وثانيا، لأنها قلصت المسافات حتى بتنا على مقربة من المحل الذي تتبضع منه أثاث كتاباتها التي كنا نقرؤها بنهم واستلذاذ. وثالثا، لأنها، وهي تعقب على نصوصنا تلجلج بأسماء كتاب، من الشرق والغرب، كنا نجهل وجودهم: ميلان كونديرا، هرمان هسيه، كازانتاكيس، ناتالي ساروت، ألان روب غريي، أراغون، شيللي، سيلين، هاني الراهب، شريف حتاتة، غائب طعمة فيرمان، بهاء طاهر، يوسف القعيد، سعيد الكفراوي.. إلخ، أي كل هؤلاء الذين سيصيرون آباء لنا في ما بعد. وبحكم الصداقة التي نشأت سريعا بيننا، وما زالت مستمرة حتى الآن، لم نعد نمشي إلى نصوص بعضنا البعض على رؤوس الأصابع. أصبحنا لا نخشى أن يصيبها مكروه وهي تتعرض ل»العين الحمراء» الناقدة والساخطة. أحيانا كنا نكتشف الجيفة في بئر نص، فنجاهد من أجل إخراجها وتنظيف البئر حتى يشف ماؤه، وأحيانا أخرى كنا نكتفي ب»مزق مزق» و»خرق خرق» والبحث عن الطرائد في محميات أخرى. ومع ذلك، فإننا نفرح بأي إنجاز مهما صغر حققناه.. قلم الرصاص هل كان لقلم الرصاص بين يديها تأثير تعزيمي (أو سحري) يجعل الكتابة تنفتح على مصراعيها؟.. أوراق بيضاء، وأحيانا شديدة الميل إلى الرمادي، تخرجها لطيفة من حقيبتها، كلما التقينا في الكلية أو في إحدى المقاهي المجاورة، على سبيل الاقتراب والاحتراب الأدبي. كانت تكتب بغزارة وبشكل رهيب ومرعب.. وأحيانا دون ترابط معقول. الكلمات مكتوبة بقلم الرصاص تبدو مستحيلة، كما لو أن محبرة لا مرئية اندلقت عليها. لماذا قلم الرصاص؟ ولماذا هذا الإصرار على الكتابة حين تمتنع الكلمات ويتراجع المعنى إلى أشد المناطق ظلمة؟ لماذا التشطيب والمحو، وإعادة البناء على الأنقاض وإقامة الحدود؟ كنت أطرح الكثير من الأسئلة وأنا أقرأ ما كتبته لطيفة على تلك الأوراق (التي أجهل مصيرها الآن، وكانت تصلح أن تكون رواية جميلة ورائعة). أقرأ بافتتان وتواطؤ، ولم أكن أقرأ «حكايات» أو «مايسطرون».. بل حياة بكاملها أكاد أكون مشاركا في بعض تفاصيلها، أقرأ لطيفة وهي عارية من كل شيء، من الآخرين، ومن المرايا، ومن التاريخ والجغرافيا. كأنها تمشي على السراط بكل الاعوجاج الذي يليق بقصتها مع الأرض، ومع المعنى، ومع الكتابة.. أعلم أن لطيفة لم تخرج سالمة من تلك التجربة الاستثنائية، وأعلم أنها مازالت تقيم هناك.. وأعلم أنها تركت النمرة تنهش بعضها في ذلك العرين المغلق، وغادرت إلى غير رجعة.. بيد أن لطيفة عادت من لحظة أخرى، ومن مكان غير المتوقع، أي من تلك الطفولة التي ما زال يجدي أن يكون فيها المرء حيا... الطفولة التي نختلس فيها النظر من تحت الغطاء والنعاس يساورنا.. الطفولة العذبة والمحبوكة والمتظاهرة بأنها لا تعلم شيئا. من هذه اللحظة، كتبت لطيفة مجموعتها القصصية الأولى «رغبة فقط»، قصة تلو قصة، وحكاية تلو حكاية.. وبالقلم الرصاص نفسه، وبجرأة صاخبة.. لأنها كانت تدرك أنها تكتب عن متخيل المرأة، وليس عن متخيل الرجل.. عن ذلك العالم المتعب والمخفي والممنوع والماكر أيضا.. وتوالت بعدها المجاميع القصصية (ضفائر) 2006، (أخاف من) 2010، (عناق) 2012، (محكيات نسائية) 2014. الوقوف أمام المرايا؟ لا يمكن أن نقف أمام أي مرآة سوى إذا كنا نجيد الصمت والمراقبة، وندرك أننا نتسع. إننا لا ننعكس، الصورة هي التي تنعكس (أو تكاد بأحجام متفاوتة)، بل نصير أكثر ألفة، ونحرج من وحشتنا. المرايا لا تعكسنا، لأنها ممتلئة بالناس، كما يقول إدواردو غليانو، وهو ما أدركته القاصة لطيفة لبصير. ف»الحياة كانت وحيدة، بلا اسم أو ذاكرة، وكان لها يدان، ولكن لا وجود لمن تلمسه. وكان لها فم، ولكن لم يكن هناك من تكلمه. كانت الحياة واحدة، ولأنها واحدة كانت لا أحد. عندئذ أطلقت الرغبة قوسها. فشطر سهم الرغبة الحياة إلى نصفين، وصارت الحياة اثنين». واحدة اسمها لطيفة، والأخرى هي ما أسماه بورخيس «مرآة الحبر» ، أي أننا بإزاء ما أسماه كارلوس ليسكانو «الكاتب والآخر» أو ذلك الاندفاع نحو الأصل لإنتاج الفعل المؤسس (الخلق والتشطير). وبمعنى من المعاني، فإن أي «وقوف أمام المرايا» ينطوي على ولادة الآخر بصور متعددة، وعلى عملية انفصال موجعة تسمح برؤية الذات من زاوية أخرى، وأيضا بإدماج أصوات أخرى. وهذا ما اشتغلت عليه لطيفة لبصير بإدراك تام في مختلف أعمالها القصصية. فحين تستعير لطيفة صوت رجل في سرودها القصصية.. فهذه الاستعارة لا تتم خارج «الاستعمال». وأذكر أننا تحدثنا معا عن هذا الأمر كثيرا، وكان يقلقها ذلك المجاز الجنسي الذي حمله كتاب «سطوة النهار وسحر الليل» للأستاذ عبد المجيد جحفة، أي أن تكتب النساء بالقضيب، وأن تتحول أصواتهن إلى انعكاس عميق للنمط الأعلى للسلطة (أي الخضوع لها حقيقة ومجازا). ولعل هذا ما جعلها تهتم بالمحكي النسائي، بل دفعها هذا الأمر إلى تخصيص رسالة دكتوراه لموضوع «السيرة الذاتية النسائية» (الجنس الملتبس. سيرتهن الذاتية)، مما يجعلنا نقول إنها تعاملت مع الكتابة كفعل تحريري. ومن ثمة، فهي غالبا ما تضعنا أمام انشطارات وتشابكات يمتزج فيها الواقعي بالخيالي، الحقيقي بالوهمي، الذكوري بالأنثوي، الواحد بالمتعدد، وأمام مآزق وحالات إنسانية يطغى عليها التمزق. بيد أنه تمزق غير عنيف، يتم التعبير عنه، كما تقول هي نفسها، بلغة مهذبة عبر»مجازات واستعارات تضمر العديد من المراتب الأسلوبية مثل التلطيف والتدوير والقلب الجمالي إلى غير ذلك». إن لطيفة وهي تكتب تدرك أن العالم ينكمش في كل لحظة، كما ينكمش السر حين يذاع. اضمحلت الأسرار، تلاشت أو تكاد. ولذلك فإن كل كتابة هي ولادة جديدة، وكل يوم ينبغي أن يقطف، وأن يعتصر حتى تصير له رائحة. ألا نصنع الكلام من أجل شهوتنا، كما تقول؟ وهل بإمكاننا أن ندفئ أيادينا دون احتراق؟