منذ زمن تنتظرني قصص لطيفة لبصير. كانت على مكتبي رزمة من الأوراق، وحزمة من الكتب التي شدتني على عدم معانقة منجزها السردي. والآن قد ارتحت قليلا من التزاماتي الخاصة. بحثت عنها لمؤانسة ممكنة في يوميات المغرب المكهرب. حين قرأتها بتأمل كبير أيقظت في أسئلة القراءات العابرة في موقع كيكا وبعض المنابر الثقافية المغربية. هذا العابر المنفلت من دار النقد الأكاديمي. والسابح في أرخبيلات مفتوحة على البوح و التأويل. صحيح أنني مازلت ملتزما بفرضية تحضر حين قرائتي الكتابات النسوية المغربية والعربية. تقول الفرضية إن غالبية الكاتبات يكتبن بقلم ذكوري. إنها تفترض البحث الإجرامي لنصوص سردية مكتوبة بتاء التأنيث، لكن في خضم هذه الفرضية يظهر لي أن كاتبتنا تمسح أوراقها بلغة الجسد الأنثوي في غوايته، وفتنته، ولعبة الحجب والتعري، والتي تخترق- بمقتضى ذلك- فعل الكتابة مجالا يحفظه الرجل في نشيد سلطته البرانية. لطيفة لبصير إذن ( وبعض الكاتبات العربيات والمغربيات ) تعانق قراءها بكامل أنوثتها، وتخلخل المواضعات التي أسس عليها تاريخ الأدب الكتابة السردية. لنضع تلك الفرضية موضع بحث مستقبلي، أو على عتبة دار النقد الجامعي والأكاديمي عندنا. ربما سيخلصون إلى نتائج تزيل بعض التوتر حين قراءة الكتابة النسوية. لا أدري إن كنت قد توفقت في استشكال موضوعة الكتابة بضمير المؤنث، أو أدخلتها في التباساتها المتعددة.لأبتعد قليلا من هذه الأسئلة، ولأفتح ذراعي لمعانقة هذه النصوص. هل يفيد العناق الألفة أم الغرابة؟ هل عناق الكتابة النسوية وصل أم انفصال؟ عادة ما يفيد العناق و الألفة و المؤانسة. إلا أنه يحمل في جوفه الغرابة. كيف ذلك؟ تطل الكاتبة المغربية من شرفة كتابها الموسوم ب « عناق» إنه العنوان الحامل نصا من نصوص المجموعة القصصية، وهو اختيار، وبالأحرى تفويض هذا النص ليكون حاملا لما تبقى من النصوص. إنه غير معرف، وهو من ثمة يسبح في العينين، ويتجول في ممكنات النظر، لكن بأي معنى يفيد هذا النص المجموعة كلا. المسألة اختيارية، وكل اختيار في أبجديته الأولى حرقة التسمية، ولأن التسمية تعلن الحضور والغياب. حضور المؤلفة وغيابها. حضور هذا الاسم وغياب أسماء أخرى كما المولود تماما. فإن عناق الكاتبة إذن يحيل على حجب الأسماء المجاورة والمشاكسة. مثلما تشير إلى فتح الأذرع والأصابع كي تحفظ الحميمية الملغزة، وهي بذلك توطنه في الاستعارات المتعددة. في المقابل يكون العناق ضم المعنى، ونسيان لسعات استعارية تكهرب الضم، باحثة عن الفصل. يبدو لي في هذا العناق الخاطف إمكانية لستره في المجهول عبر البحث عما تزوبعه الشخوص، والحكايا، والرموز، والعلامات، وما بينهما. هنا تعاد في اللغة، وتحفر أصابعي بحكايا امرأة تكتب المحروس وتفض غشاوة الظاهر، وتزوبع الكلمات والأشياء، وتبين اللاشعور المرمي في الهاوية لتعلنه هوية الكاتبة. إذا حاولنا النظر إلى كل النصوص التي تحتمي بغلافين، فإننا أمام نص واحد ينتقل قارئه بين عنوان وآخر. بمعنى أن ما يجمعها هو موضوعات بعينها. موضوعة المرأة مع آخرها، وحكاياها، وجسدها، وتنوع لحظاتها في الزمن والمكان. إنها الطافحة على طول المجموعة وعرضها، ولكي يتقرب عناق الكاتبة في حضن متلقيها وجب النظر إلى بعض القضايا الرئيسة فيها تاركا لقراء آخرين البحث عن المنسي منها. لا عجب إذن أن تكون موضوعة العناق موضوعة رئيسة في المجموعة، ليس من حيث عتبتها، بقدر ما تشكل امتداداته في نصوص أخرى. مادام فعلا يحيل على العينين، مثلما يفيد الضم المقرون بشعلة حميمة بين المتعانقين. عادة ما يكون بين رجل وامرأة، وهي ثنائية ظل التاريخ الكوني والأساطير، أو على مستوى التماثل والرسومات، والكتابات. هذا العناق يكون محمولا في بلاغته على السلطة وما تحتويه من صراع القوى. يظهر لنا ذلك في النص الأول الموسوم ب « الدعسوقة» وهي القصة التي برعت صاحبتها في الحفر باحثة عن هذا التاريخ الكوني بدهاء ومكر جميلين، ذلك أن الساردة- في هذه القصة- تسير صعودا ونزولا بين الطفلة التي كانت والمرأة مع تلك الطفلة الحافظة على علاماتها الرئيسة. بين الطفلة والأب، بين الزوج و الرجل. في هذه اللعبة النفسية تحاول الساردة بيان المنع في تجلياته المتعددة للكائن الأنثوي، ليكون الرسم الملاذ الوحيد في تحررها وتوازنها. الطفلة الساردة تعشق الحشرات وتبحث عن لغتها في شرفة بيتها. إلا أن أباها سيكشف الأمر ليرمي كل ما جمعته في الخارج، آمرا البستاني بإحراقها. إنه المنع الذي عاشته الطفلة، والذي ستعيشه الأم مع زوجها المثقل بحكايا أمريكية تقول الساردة في ص.ص 11 « لكن زوجي كان دقيقا كساعته الأمريكية التي يتحدث عنها منذ أن زار أمريكا، وليتحفني كل مساء بالحكايات المتكررة نفسها التي جعلته يكتشف ذلك العالم البعيد عن أعيننا، وليكون فاتحته للدخول في طقوس حميمية كل مساء بارد» بين منع الطفلة من رؤية حشراتها، ومنع طفلة من رقصة مايكل جاكسون. تسبح الكاتبة في الممنوع من الكلام والحركة. لا لتسرده، وإنما في مشاكسته وتأزيم بنيانه. صحيح أن المنع يلاحق الجميع، كما لو كان شرطا أنطولوجيا يستظل به الكائن العربي. إلا أن المنع/ القمع المسلط على الكائن الأنثوي يبقى مضاعفا. تقول قصص الكاتبة تظهير تضاعيفه المتعددة، كما لو كان الولوج إلى عالمها التخييلي يبدأ من المنع، ولأن كل منع مرغوب فيه وفق المقاربة التحليل- النفسية، فإن الرسم يخلخله التحرر منه أحيانا أو الانفلات منه في أحايين أخرى. الرسم هو الحلم الذي يستر الألوان والبياض وهو بذلك يحيل على قلب معادلة الساردة بين الزوج والأب كما لو كانا شخصا واحدا. في القصة الأولى دائما وبالضبط في الصفحة 12 و 13 تعلن الساردة قلب المنع بجرأة نادرة. أي حين يكون الحلم نسيجا يحرر الرغبة، ويزلزله للبوح اللاشعوري لعلاقة المرأة بالأب. إنها عقدة إلكترا برمزياتها التحليل- النفسية. لا أريد هنا النبش والحفر في دلالة هذه العلاقة الملتبسة بين المرأة والأب والزوج، ولا حتى قلب المسألة بين الرجل والمرأة والأم. وكأن هذه العلائق تسكن لا شعورنا الجماعي. وهي بالجملة مؤسسة على المرأة، والرجل، والرجل الآخر. لطيفة لبصير إذن تخترق هذا الممنوع وتكتبه حلما. إنها تتعدى ذلك في قصة « عناق» ليس من حيث كون هذا الأخير دالا – في ثقافتنا العربية- على تلك اللسعات التي تشعل الرغبة بين ذكر و أنثى، وإنما في عناق واضح بين امرأة أخرى. هنا تتحول موضوعة الرغبة وتنكشف بجرأة فارقة، كما لو كانت الكاتبة تعلن المنع لتسخر من كليشيهاته المتعددة. إنها تعيد إلى الرغبة حبكتها الضائعة في بطون التاريخ والسلطة. حبكة سردية تنزع نحو توصيف المفارقات، وتأزيم المعنى، وتدجين المواضعات، وتفكيك السلطات الثاوية خلفها. لا يتعلق الأمر بهذا النص، بل يخال لي أنها مدسوسة في النصوص الأخرى، فالمنع لا يعني شيئا إلا بخضوع نقيضه وكأن المقبول ليس النقيض المقابل للمنع وإنما فيما يجعله مقبولا، أو بالأحرى ذلك الذي يعيش وسطه حتى وإن لم يتحقق في الواقع. إنه ينتعش باستيهاماته الحلمية. بهذا المعنى لم يعد بالإمكان النظر إلى المنع في مقابل المباح و المقبول. هذا ما تدل عليه دلالة العناق في هذه القصة، كما تعلن الساردة في الصفحة 34 « كل هذه الأنوثة من أجل امرأة مثلك، هذه الأنوثة في حاجة إلى رجل يعانقها وليس امرأة...أنوثتك تكفي لأكثر من رجل وتهبينها لإمرأة أخرى». هكذا تضع الساردة آخرها أمام وضعه البيولوجي، أو بالأحرى أقدر أنه يمضغ عينيه. العينان اللتان يعانق بهما الأنثى الجميلة. حتى وإن عانقها بحرارة الراغب فهي تظل عديمة الحواس. إن الكاتبة تفترض اللانظام للكاتبة عنه. ما دام النظام محروسا بالسلطة و المعنى، هي إذن تنزع نحو مسخ الشخوص، وتقديمها في حلة كفكاوية رهيبة. قد نحيل هنا على الطفلة التي تخفي السكاكين لإبداع الدمى. ألا يكون هذا السكين شهريا و قضيبيا؟ أليس السكين علامة على القتل؟ وهو لذلك وجب حجبه حتى تعطي كائناتها الصغيرة المعنى. إنها لعبة وجدت فيها الكاتبة أفقا لتحويل هذا بذلك. سواء في قصة « عناق»، أو في قصة» حديدان الحرامي» أو في قصة « الشبيهة». هذه الأخيرة التي يكون فيها التحول صادما بين الداخل و الخارج، وكأن الداخل محمول على الذنوب والتجاعيد والرتابة. بينما نقيضه يكون مفتوحا على الجميل و المشتهى، لكن في القصة الثانية « حديدان الحرامي» يكون التحول بياضا مزدوجا في لباس العيد و الموت، و بينهما الصورة السينمائية شاهد على هذا التحول. إن العناق إذن يحول المنع إلى نقيضه، مثلما يسويه بطريقة أخرى بين الجاحظ و المعري في الصفحة 118 في قصة « حجرة عبد اللطيف»، أو يكون علامة على تلاحق النباتات في قصة « الشقة رقم 24». في هذه الطرق تختفي الكاتبة باشتهاءات أنثوية باذخة تقول في قصة « السيدة ( ج ك) «» كنت أستغرب كيف يرون أن الأنثى لها عمر افتراضي في الصخب، فقد كانت قادمة من أدغال قديمة للاشتهاء، وكنت أعاني صعوبة وأنا ألتهم يديها المجتهدتين وأتغاضى عن انحرافاتهما كي أعشق اللحظة» ص 70. هكذا يتسلل تاريخ الشهوة من الكهوف و المغارات. لا لتوصيف علاقة مثلية، وإنما لجعل الشهوة تتجسد في مكر التاريخ. حاولت في هذه القراءة الخاطفة ضبط الحدود النصية للكاتبة المغربية لطيفة لبصير و استوقفتني الموضوعات المتسلسلة في كتابتها. بمعنى أن موضوعة ما لا تفهم إلا بربطها بموضوعات متجاورة كالعناق والعينين، والمنع، والتحول مثلا. فكل واحدة لا يستقيم النظر إليها. إلا بالنظر إلى جاراتها، وهذا ما يشكل حدة الكاتبة وقيمتها المائزة في الجنس القصصي المغربي هذا من جهة، و من جهة أخرى فقراءة هذه المجموعة القصصية تدفعك إلى معانقتها طوعا. ليس لتلك الموضوعات التي تحدثنا عنها، بل الشفافية لغتها الإشارية والبعيدة عن الزوائد في الوصف والتسجيل. إنها لغة تحول الزمن وتختفي بالرموز وترقص على ما تبقى من خراب، وهي بذلك تنزع نحو بناء رؤية كفكاوية للعالم. بناء شهواني وصدامي يعطي الألفة الغرابة، وبالجملة أخلص إلى كونها كتابة الجسد، وما يحمله هذا الجسد من ممنوعات ومحظورات عودتنا شهرزاد حكيها. شهرزاد لم تمت،ببساطة لأن الطفلة أخفت السكين في الدمى. * لطيفة لبصير، عناق، المركز الثقافي العربي، 2012.