للروائي المغربي يوسف فاضل قدرة كبيرة على المسك بخيوط لعبة السرد وبناء عوالمه الروائية، هو ذو رؤية نافذة تقبض على تفاصيل وجزئيات الأشياء حين بناء تلك العوالم بطريقة ساحرة ، تغوص في أعماق و بواطن الأشياء التي تتناولها. في رواية «فرح» الصادرة مؤخرا عن دار الآداب للنشر والتوزيع البيروتية، اشتغل الروائي يوسف فاضل على تقطيع المشاهد وتفريع الحكاية خلال السرد وتبويب مقاطع النص وإبراز الحضور القوي للشخصيات الروائية إلى حد ملامستها ورؤيتها رؤية العين تنبض بالحياة خلال مسارها الروائي. تقبض الرواية على مجتمع بشري في حزمة واحدة من خلال إبرازه في مرايا متعددة، و في لحظة واحدة. ففي هذه المرايا ينظر القارئ إلى هذا المجتمع البشري يتحرك، يرى «فرح» التي وضعت يدها على توفير والدها المعاق الذي ذهبت إحدى ساقيه في حرب الصحراء ثم تسافر إلى مدينة الدارالبيضاء وهي تحلم بأن تحقق أمنيتها الوحيدة في الحياة وهي الغناء لتصير مشهورة، لكنها تسقط بين يدي محام فيأخذ منها الأموال التي جاءت بها من مدينتها «آزمور» لتحقيق المشروع/الحلم لكنه يختفي ويتركها بعد أن وعدها بأن يكون لها ) منادجر( يجعلها من أشهر المشهورات في الغناء في الوطن و خارجه. «فرح» تلوذ بغرفتها المكتراة من عند امرأة عجوز عمياء، بينما «عثمان» يظل طول النهار يتجول باحثا عنها لاستعادة اللقاء بها بعدما افتقدها في تلك الليلة الأولى بعد الخروج من الحانة حين جاءت فرح تبحث هناك عن صديقتها نعيمة من أيام الطفولة وبنت نفس المدينة التي جاءت منها. «عثمان» هذا ليس إلا ذلك الرجل بعدما تقدمت به السنون وصار متزوجا ونفهم بالتالي بأنه يعمل على استرجاع الأحداث من خلال الذاكرة. فالرواية هي استعادة عثمان لأحداث جرت في زمن ماض وفي أمكنة أخرى كانت و تغيرت معالمها، هو ذلك الرجل الذي يجلس على كرسي الدوم أمام بيت المنزل ويطلق عينيه في المدى الممتد أمامه ينتظر خروج الجنين من بطن الزوجة التي ملأت أرجاء الغرفة بصرخات متتالية بفعل آلام المخاض. ينتظر المولود، ويرقب في نفس الآن ظهور القاضي في سيارته ليحكي له الحكايات، القاضي يحب أن يستمع إلى حكاياته، كما أنه يرقب كذلك ظهور سيارة رجال الدرك، الذين سيأتون بالشاب و المرأة اللذين قضى أهل الدوار الليل و هم يطاردونهما بعدما عرفوا بوجودهما في الأنحاء منزويين في مكان ما، يمارسان الحب. يقبض عليهما رجال الدرك ويأتيان بهما عند القاضي في بيت صاحب كرسي الدوم و سارد حكاية فرح هناك سيقدمانهما أمامه وهو ممدد في إحدى غرف البيت، وعشيقته تسند على ركبتيه رأسها وهما ينظران إلى أسياخ اللحم المقدد تشوى فوق النار ويستمعان إلى النكت البذيئة التي يرويها صاحب البيت، و لأن القاضي كان في لحظة استمتاع يأكل اللحم و يشرب كثيرا فإنه ارتأى أن يطلب من صاحب البيت أن يصدر حكمه عليهما عوضا عنه. في نفس المرآة يحضر المسجد المشهور الذي عرشه على الماء والذي بني بأموال الناس ومات العديد من العمال وهم يهوون من الأعلى إلى الأسفل لتزهق أرواحهم و الذي قضى والد السارد فيه زمنا ينقش سقيفته ويتفنن في تزويقها وهو يعدد أنواع الخشب ورائحته ويستعيد زمانه الذي كان فيه نقاشا فنانا يشتغل عند أسياد القوم في بيوتهم الفاخرة . هو المسجد الذي بسبه سيتم ترحيل المئات من الأسر و الذهاب بهم إلى شقق تنبت حديثا تصفها الرواية بكثير من السخرية المرة لما شابها من تشوهات و من تلاعبات في البناء، لا يقتصر السارد على ذكر والده النقاش وحده بل إنه يأتي أيضا بأفراد الأسرة واحدا واحدا، فيبرز الأخ «سليمان» الذي هاجر إلى الخليج بعدما وقف على حقيقة والده في إحدى الليالي حين ذهبا إلى مدينة أطلسية للإتيان بالأخشاب من هناك. تحضر كذلك الأخت «خديجة» المهووسة و المريضة بالجنس، و التي بعد طلاقها من زواج متعثر لم يدم زمنا طويلا ستعود إلى بيت الأسرة و هناك ستجد من»يشفيها» حين سيتكفل الصهر زوج أختها بتخليصها من حالتها التي تلم بها بأخذها إلى غرفة نومه و الاختلاء بها، الصهر الملتحي هو من سيصير مؤذن مسجد الحي الجديد الذي تم تنقيل السكان المجاورين للمسجد إليه، فيعمل على جمع التبرعات من المحسنين ليشتري الحصائر والزرابي وكل اللوازم الخاصة بالمسجد، والذي ستتغير أحواله الاجتماعية إلى الأفضل مع مرور الأيام. المجتمع البشري، الذي يأتي به الروائي في حزمة واحدة عبر مرايا متعددة تمنح للقارئ «فرجة» ممتعة على مجتمع النفاق، و السرقات، والغصب، والخيانة، والفساد، والأحلام المجهضة، والأفراد المتروكين لمصائرهم دون أن يجدوا من يمدهم العون والمساعدة. أن يموت الناس بالفيضان وتنهش الكلاب قبورهم لإخراجهم منها بعد الدفن صورة تعبر عن هؤلاء الناس الذين يدبون في الأرض مقهورين بالحياة وفي الحياة، لن ينعموا بالراحة حتى وهم تحت التراب. تعددت الحكايات وتفرعت وتعددت معها قدرة السارد على القبض على التفاصيل و الجزئيات التي بها نفهم عمق وبواطن الأشياء ، وحين تنتهي من الرواية، تسأل «ما هذا الذي يحدث؟!» تجد نفسك مدفوعا إلى هذا السؤال وكأنك تكتشف هذه الأشياء لأول مرة، ولا تلبث بعد حين أن تعلم أن حالتك السؤالية لم تحدث إلا بفعل الصنعة والمهارة والذكاء الذي تم به بناء معمار الرواية ونسج أحداثها. وبدون دعاية إيديولوجية يقدم لنا يوسف فاضل هذا «الكوكتيل» البشري والمجتمعي، حيث تتساكن فيه المتناقضات و تتعايش: «يتلاحمون، يتآخون، ينفصلون، يتقاتلون:، كل الأشياء حاضرة بينهم. أينما وطأت قدماك فثمة الفساد، و الضحك على ذقون الناس. يحضر المثل الشعبي بقوة في كثير من مقاطع الرواية، المثل الذي يقول «يبيع القرد، ويضحك على من اشتراه». حتى الأم في هذا السديم البشري المختل والمريض يمكن أن تخون أبنها وتضحك عليه، «كنزة» الأم التي طمأنت ابنها على أنها تفعل المستحيل لتحصل له على الفيزا للسفر إلى إسبانيا، سنكتشف في سياق الرواية أنها هي من دمغت جوازها وسافرت إلى هناك تاركة ابنها وحده وراءها . هذه التناقضات الاجتماعية وهذا «لخواض» الذي يدور أمام أعين الناس وهم مفتوحو العينين لكنهم كالعميان لايرون، تستل من أعماق قارئ الرواية لحظات ضحك أسود، في مواقف معينة إذ أن المفاجأة والمفارقة في سياق الحكي ستجعله يضحك بمرارة على العباد وعلى أحوالهم ويدهش أمام هول ما يحدث وكأنه يفتح عينيه على صدمة زلزال يهز الأرض من تحت قدميه. الغريب في أمر كل هذا الذي يدور في الرواية، أن لا شيء يكتمل ويستجيب للمعايير ويذهب ليصل إلى نهايته، فالحي الجديد الذي تم بناؤه لإيواء السكان المهجرين لإخلاء ضواحي المسجد سيكون مثالا للغش والتحايل حين صرنا نرى الشقوق في الجدران وخشب الأبواب والنوافذ يتشقق ويتكسر ومجاري الصرف الصحي تختنق، كل ذلك يشبه العلاقات المجتمعية المشروخة بين الجميع حتى داخل نفس الأسرة التي يسودها التصدع والشقاق ووقوف الأم فيها بلا إرادة تنظر إلى الفعل المشين الذي يدور أمام عينيها من طرف الصهر بينما هي تلوذ بالصمت أمام ماكينة الخياطة بلا قدرة على الفعل أو المبادرة، كما ذلك الشق أيضا في سقف المسجد الذي بقي عالقا هناك كلطخة سوداء تعلن أن الأشياء لا تتم بإتقان في كل مناحي حياة هؤلاء الذين يظلون يشقون ويتعبون دون نتيجة، ذلك الشق الذي سيبقى شقاء يعذب نفس الصانع النقاش )الأب( الذي بذل كل الجهد لتكون قبة المسجد تحفة وينتظر بكل أمل ألا تنتبه إليه عين الملك يوم يحضر لتدشين المسجد. وليس عدم إتقان الأشياء هو السائد بل يحضر كذلك تمطيط الزمن واستهلاك الكثير منه أثناء الاشتغال عليها فالمسجد الذي أخد وقتا كثيرا من صانع الخشب في تزويق سقيفته وهو رجل في كامل لياقته ، هو من سيمشي لحضور لحظة التدشين )الذي لن يتم بالفعل(، وهو مقعد على كرسي متحرك فاقد للحركة وللقوة، تتناوب أياد كثيرة على دفعه لقطع المسافة بين الحي الجديد ومكان المسجد . هذه صورة مرايا المجتمع البشري المتعددة، فرح تسرق مال الوالد للذهاب إلى الدارالبيضاء، المحامي يسرق حلم فرح ومالها، خسارة فرح لحلمها في الغناء تسرقها من حياة السارد، القاضي في أحضان عشيقته يمضغ اللحم المشوي ويشرب الكأس، يمنح أمر إصدار الحكم لرجل لا علاقة له بالعدالة، المسجد يتم بناؤه بأموال الناس المغصوبة منهم بالقهر دون مراعاة أوضاعهم الاجتماعية، بناء المسجد يتم على أنقاض مسبح زهقت فيه أرواح العديد من رواده للسباحة ومات عمال عديدون أثناء التشييد، شقق الحي الجديد عبارة عن علب ضيقة كما أنها فضيحة عمرانية بكل المقاييس، ومع كل هذه الصور والمشاهد التي تعكسها المرايا، هل نطمح يوما أن يسير الوطن إلى الأمام؟ وألا يبقى جاثما على كرسيه من الدوم يمد بصره إلى المدى الممتد فيمر القطار مسرعا دون أن ينتبه إلى مروره فيراه ، ومع الأيام يصير حتى انتظار مرور القطار شيئا لا يأتي إلى البال ولا يتم التفكير فيه . تبدو شخصية فرح في الرواية أحيانا شخصية هلامية تتلاشى إلى حد الذوبان والغياب، هي الشخصية التي يمكن القبض عليها، وهي الشخصية أيضا التي تنفلت و تذوب كالملح إنها مثل الحياة التي تعيشها وتجري من حواليها، إنها مثل الخطابات والكلام الذي يصم الأذان، وهو في نفس الآن الصمت، الفراغ، الخواء، التلاشي الذي تذهب إليه كل الأشياء من حولنا ونمشي إليه كذلك بعيون مفتوحة. كثير من الكلام ولا شيء ينبت في الواقع ويبقى فيه، كصوت الرحى التي تدور وتطحن، ولا دقيق ينزل من بطنها كي يجد الناس ما يطعمون به جوعهم، كل هذا يحدث بلغة تتأرجح بين الشيء ونقيضه، بين المفردة وعكسها، كأنها لغة تمشي على خيط رفيع في السماء، وكلما تقدمت تثبت قدميها فوقه، احتاجت إلى ذلك الميلان الذي يعطي في النهاية توازن الأشياء، ومع الرواية وفيها تشعر وكأن الأشياء ستسقط في لحظة ما وتتشتت إلى قطع صغيرة تتوزعها الأمكنة، كأن الأشياء في لغتها تقف على جرف في انتظار السقوط المدوي، أو كأنها لرجل حاو ماهر يظهر لك الشيء، وفي لمح البصر يخفيه ، ومع توالي الحركة بخفة تفقد اليقين بوجود الشيء من عدمه، كما أن العين التي قبضت على كل هذه المشاهد في مراياها تبعث الضوء في المشهد حينا، وحينا آخر تبعث فيه العتمة، فيأتي المشهد وقد تم القبض عليه من زاوية كبرى قريبا من عين وأذن القارئ، يكاد يسمع ويرى، يسمع الأصوات من «الآهات والنداءات ونشيج وصخب فرح» ، كما يرى الحركات السريعة والخفيضة، يرى تلاحم الناس و ازدحامهم كما يرى تفرقهم وتشرذمهم يأخذ كل واحد منهم طريقه الخاصة، إنها مشاهد لا يعوزها غير أن تكون مسلطة على شاشة لتصير لقطات سينمائية حية، فيها الحركة و الحوار و الظلال و الأضواء وجميع الحالات النفسية والوجدانية التي يعيشها هذا المجتمع البشري الذي قدمته لنا الرواية. الفقرة/ المقدمة التي تتكرر في أول كل فصل والتي كلما تكررت في الفصل الموالي تمددت ببعض الكلمات و انكتبت بحجم طباعة تختلف عن حجم طباعة الفقرات الموالية في الرواية، زيادة الكلمات في الفقرة هو تعبير عن تغيير حالة السارد مع التقدم في الزمن / في أحداث الرواية، كما أن الزيادة في حجم طباعة حروف نفس الفقرة هو في اعتقادنا إشارة إلى أن السارد هو الشخصية الأساسية في الرواية الذي رافقناه وحيدا، داخل الأسرة، ورافقناه مع فرح داخل الورشة وخارجها، في البحر بجوار المسجد، ورافقناه مع القاضي رفقة عشيقته، ورافقناه مع رجال الدرك، ورافقناه أخيرا وهو يطلق اسم «فرح» على المولود دون أن يكون له علم بجنسه وكأنه يستعيد تلك ال»فرح» التي أحبها يوما وغابت عنه ثم اندثرت لما سحبها ماء البحر في تابوتها ميتة. * * فرح: رواية يوسف فاضل الطبعة الأولى 2016 عن دار الآداب للنشر و التوزيع