تقدم رواية «نوميديا» للروائي المغربي طارق بكاري ثراء موضوعاتيا ذات دلالات فلسفية تاريخية أسطورية دينية، سياسية إجتماعية و ثقافية، إلى حد أن المتلقي يحار على أية موضوعة يمكنه أن يضع اليد ويقبض عليها مستقلة عن الموضوعات الأخرى المطروحة في الرواية و التي تبدو كلها مترابطة عضويا ذات دلالات ورمزية عميقة تغوص في إشكالات حياتية تأخذ أبعادا واسعة و إن جاءت متعلقة بمنطقة جبلية صغيرة معزولة في إحدى المناطق المسماة عادة بالمغرب العميق و المهمش هي منطقة «إغرم» الأمازيغية المعلقة في جبال الأطلس الكبير المغربية، و إن بدت في الرواية بحجمها الصغير فإن الأحداث و العوالم التي صاغها المؤلف تأخذ حجم الوطن بكامله إن لم نقل العالم و الحياة في شموليتها. ورغم هذا الغنى الموضوعاتي و الثراء اللغوي ذي الأنفاس الشعرية، فإننا في هذه القراءة سنحاول القبض على موضوعات نراها ذات أهمية و ذات دلالات عميقة من حيث أنها تشكل أرضية أساسية وخلفية ذات أهمية في بناء ونسج عوالم الرواية، ومن حيث دورها الفعال في منح أحداث الرواية نفسا وعمقا وتقدما في البناء و السير بها إلى الإمام. في البدء كانت الخطيئة: لقد كانت الخطيئة هي السبب في وجود « أوداد /مراد» في الحياة ليعيش مسارا خاصا به سنتبعه من خلال الرواية للتعرف على مساره التراجيدي و العنيف الذي عاشه منذ أن كان « أوداد» الصغير في جبال إغرم بالأطلس الكبير المغربي إلى أن صار مراد حين تسلمه « الحسين» من أسرة «امحند» وتم أخذه إلى المدينة التي فيها عرف قسوة من نوع آخر على يد صفية زوجة الحسين كما تعلم وتابع مساره الدراسي ليحقق لنفسه مكانة رمزية في المجتمع من خلال أستاذيته في إحدى الجامعات المغربية و إذا كانت الخطيئة هي السبب في إتيان اوداد إلى الحياة، فإن خطيئة أخرى أو هو تصرف بمثابة «الخطيئة» هو الذي سيكون سببا في فتح ملف سيرة أوداد / مراد حيث ستشتري « جوليا» الكاتبة الفرنسية التي تشكل رمزية استشراقية في الرواية من حيث نظرتها وكتابتها للشرق، ستشتري ملف « المريض النفسي مراد» من أحد الأطباء النفسيين للإشتغال عليه وكتابة رواية من حكايته و مأساته، وهي الرواية التي نقرؤها بعنوان « نوميديا». خطيئة الوجود في الحياة و العالم هي المحرك الأساسي للأحداث في الرواية وفي بناء عالمها الخيالي، فمنذ الوعي بقضية الهوية و معرفة « أوداد» بأنه ذات موجودة بدون أصول وبدون جذور و بأن سكان القرية ينظرون إليه كمصدر شؤم ومبعث المصائب التي تنزل على القرية و أهلها بحكم أنه «لقيط» ستتلبس «أوداد» أحاسيس تصير مع النضج و التقدم في السن مصدر ألم وحرقة أبديتين لا يفارقان وعيه، وكلما كبر « أوداد / مراد» كبر شقاؤه وزادت محنته مع علاقته مع الذات ومع الناس ومع العالم، إلى أن يختار بوعي أو مدفوعا بخطيئته الوجودية التي حفرت و تحفر في أعماقه وشكلت وعيه ونظرته للناس و للحياة، يختار العودة بعد سنين طويلة وتجربة حياتية مليئة باللذة و بالألم العودة إلى الأرض الأولى للخطيئة إلى «إغرم» حيث سيشتري فندقا في المنطقة ويقضي أيامه الأخيرة فيها، الأيام كذلك التي ستكون حافلة بالأحداث و التي سترسم نهاية مراد. و كأن سرا خفيا وغير معلوم، هو من شد على يد مراد الذي لا يزال يحمل معه في الأحشاء الداخلية صنوه الصغير « أوداد» فاقتاده إلى الأرض الأولى التي وجد عليها ملفعا بقطعة ثوب أبيض وهو لا يزال صبيا و كأنه نزل من السماء أو إنبثق من باطن تلك الأرض التي كان ممددا عليها أو أن يدا خفية زرعته في تلك التربة ليكون نبتة بلا جذر ولكنها تكبر بفعل خفي «رباني سماوي» يزرع في أصولها كل أسباب الحياة حين امتدت يد « امحند « الذي عبر في ذلك اليوم تلك الطريق في القرية، وهي طريق لم تكن طريقه في المعتاد، ليحمل الصبي إلى كوخه لينضاف إلى كومة أطفال آخرين، يتقن معهم سرد الحكايات في الليل عن القرية وعن أهلها وكل ما يحيط بها من أسرار التي لا تقل عن سر وعن النفحة الأسطورية في بعث يد لتنقد طفلا مرميا في الخلاء و إحتضانه حيث ستصهره وتقهره في نفس الآن والدة الرجل الذي أنقذه. ومما يدل أكثر من شيء آخر على المسار التراجيدي والقاسي ل «أوداد / مراد» في الحياة، هو أنه عاش بجسدين إثنين وروحين كذلك، فقد عاش مراد في جسد كان يحمل اثنين « أوداد في صغره ومراد في كبره» ، جسد الرجل الذي لم تنفصل عنه طفولته وعالمه الأول في إغرم وفضاء خطواته الأولى في الحياة، الجسد الذي عاش يحمل داخله جسده الآخر الطفل يتشبث به ويستقر في دواخله فيسيل كالدم في أوردته مع تقدمه في السنين، فذلك الجسد الطفل الكامن في الداخل و الآتي بجذوره المقطوعة من زمن «إغرم» القديم و الماضي هو من يرسم حركات الجسد الحالي ويقود خطواته في الطريق ويؤثر في مساراتها وفي تقدمها في الحياة، وتلك معضلة جسدية ونفسية حين لا يستطيع الشخص التخلص من ماضيه الذي يظل يجثم على حياته الآنية فيقتل بالتالي كل لحظات الفرح بإنبثاقه و إنبجاسه من مسام وثنايا الروح، إنه ثقل الماضي و أحزانه : « خولة ، في طريق البحث عنك، كان أوداد الوعل الصغير الذي نسيته ها هنا يكبر فجأة داخلي، يلتحم بي دون أن يمهلني فرصة ترتيب فوضاي الداخلية، باغتتني براءته وشقاؤه الأزليين....... إذا فسدت طفولة الإنسان، فلن تكون حياته بعد ذلك سوى امتداد أكثر مأساوية لفساد البداية» ص 406. فحتى عند النهاية فقد كان للجسد الصغير الرابض في دواخل جسد مراد الكبير، كلمة الفصل، أو كلمة النهاية حين وجد مراد نفسه يمشي نفس الطريق، ويصعد إلى نفس القمة التي صعدها « أوداد» ذات يوم وهو وعل صغير يتسلق الأجراف إلى الأعلى ويحاذر أن تزل قدمه فيهوي إلى أسفل الجبل « في الطريق إلى القمة، التي لا تفضي إلا إلى هاوية سحيقة، سقطت مرارا ورأيت أوداد يمر أمامي ويسبقني، رأيت تعبه و أوجاعه يتضخمان فيّ الآن، أنا الذي لم أكن سوى امتداد أكثر تراجيدية له، في طريقي إلى الموت، رأيت شريط حياتي يمر أمام ناظري و لا يترك لي ولو فرصة أخذ أنفاسي.» ص 414. وفي الختم كانت الخطيئة: وكأنه لمحو ولغسل الأحزان التي نبتت مع الخطيئة الأولى، ووضع نقطة نهاية للتراجيديا التي أحدثتها في حياة أوداد/ مراد، فقد قرر مراد بعد رحلة شقاء طويلة وعذاب جسدي ونفسي أن يغسل خطيئة البدء بخطيئة أخرى تكون هي النهاية وتزيل عن كاهله العذابات و أحمال الحياة الثقيلة فتمنحه الإستراحة الأبدية فهل نفس الأقدار و الأسرار التي ستأتي إليه ب «نوميديا» كي تكون السبب المباشر في إرتكاب خطيئة وضع النهاية للحياة بالموت وتتشرب أجراف وتربة إغرم دمه ؟ نوميديا الفتاة الامازيغية ذات الجمال الباهر و التي ترمز إلى ما للثقافة الامازيغية من حضور و جمال كما أنه هو اسم الشخصية ذات البعد الأسطوري في الرواية التي تحمل منها العنوان، سيكون حضورها سرا ولغزا بلا مقدمات تمهد له أحداث الرواية، كما سيكون إختفاؤها وعدم الحضور إلى المواعيد في الوقت المتفق عليه مع مراد في المكان المحدد قرب النهر عند المقام المقدس لسيدي عيسى سرا آخر ولغزا يبقى بلا تفسير. هذا الاختفاء الذي سيكون له التأثير الأقسى في نفس مراد وسيعجل بنهاية حياته بشكل تراجيدي لا يختلف عن التراجيديا التي عاشها. نوميديا المليكة الأمازيغية كما يسميها السارد في الرواية، إختفت بمجرد ما توصلت إلى معرفة تفاصيل حياة « أوداد /مراد»، فهي الوحيدة من بين نساء الرواية من استطاعت أن تنال إعترافات مراد بمحض إرادته، و أن يسرد لها كل أسرار مساره الحياتي و الهوياتي، بل وكان يسرد لها كل شيء عنه وهو في حالة فرح لأنها تنصت إليه ولأن خيطا روحيا وعشقيا عميقا يشده إليها عكس «جوليا» مثلا التي رغم أنها كانت تحقنه بحقنات خاصة لتخديره وجعله يفقد السيطرة على نفسه فيهذي بأشياء عن حياته تظفر بها من أجل كتابة روايتها التي تريد، إلا أنه يظل متماسكا ولا يمنحها ما تريد. فهل نوميديا حين عرفت ونالت الأسرار التي نامت بين ضلوع مراد لسنوات عديدة، فإنتهت إلى الإختفاء و الزوال، كانت ترمي بفعل إختفائها إلى أن يصل مراد إلى النهاية فدفعته إلى الهذيان فاقدا توازنه النفسي و العقلي إلى حدود الجنون؟ الجنون الذي سيؤدي إلى النهاية المأساوية، فتسلق قمة الجبل كوعل ليطل على هوته السحيقة؟ مع ملاحظة أنه روى سيرته كاملة لنوميديا وهي فتاة خرساء، وكأنه بذلك كان يضمن عدم إفشاء أسرار حياته و أنها ستبقى قيد كتمان صدر نوميديا. هل الدم الذي سال في أعماق هوة الجرف أسفل الجبل، هو دم خطيئة النهاية الذي يغسل دم الخطيئة التي كانت في البداية؟ هل هناك خطيئة تكفر وتغسل خطيئة سابقة لها؟؟ !. المرايا المتقابلة في الرواية: ينهض معمار رواية «نوميديا» على تقنيات سردية إشتغل عليها الروائي طارق بكاري بذكاء فوظفها توظيفا تقنيا وفنيا منح الرواية تماسكا قويا في أحداثها كما في بناء عوالمها السردية الشيقة وحتى لا يبقى ضمير « أنا السارد» هو الطاغي على سرد أحداث الرواية فقد عمل الروائي على إعتماده تنويع ضمائر السرد فوجدنا تناوب الأصوات الساردة التي تتخللها أحيانا أشعار» نضال» رفيقة السارد في زمن النضال الجامعي و التي خانت في النهاية القضية و المبدأ لتصير على نقيض أحلام التغيير التي آمن بها جيل كامل في تلك المرحلة- الحوار- الحلم- المونولوج الذي يصل أحيانا إلى مستوى الهذيان- المناجاة ثم توظيف مقاطع من رواية «جوليا»، ومن أهم ما يشد الانتباه في الرواية هو حضور الثنائيات المتقابلة أو المتضادة أحيانا وهي ما سميناه في العنوان الفرعي بالمرايا المتقابلة في الرواية ومن أمثلة ذلك: خولة شقت صدرها لتمنح قلبها لمراد/ مراد يشق صدره بمشرط ويمنح قلبه لنوميديا. وصول مراد الذكر إلى بيت الحسين قصد تبنيه/ عجز صفية زوجة الحسين عن إنجاب الذكور. سرد حياة اوداد في صغره/ سرد حياة «مراد» الذي هو امتداد ل «اوداد». موت من كرهوا أوداد / مراد» / موت من أحبهم أوداد / مراد. الرعاف ينزل من أنف مراد في لحظة اللذة أو بعدها/ الرعاف ينزل كذلك من أنفه في لحظة ألألم. جسد يعيش فيه مراد / أوداد/ جسد يعيش فيه أوداد / مراد. اللحظة التي كان فيها مراد يهوي من قمة الجبل بعد الطلقة/ تقابلها اللحظة التي كان يهوي فيها الوعل... سؤالان للختم: لماذا أخفى مراد لسانه الأمازيغي عن أهالي إغرم لما كانوا يسألونه عن معرفته باللغة الأمازيغية خاصة لما سمعه بعضهم يتحدثها بطلاقة لحظة غيبوبته جوار المقام المقدس؟ هل كان بذلك يمارس نوعا من الإختفاء ليواصل عدم معرفة سكان القرية ببداياته في الحياة لتكون أيضا النهاية هي عدم معرفة هذا الشخص الذي يعيش بينهم اليوم فيكون بفعله ذلك قد أتى إلى الدنيا مجهول الأصل و الجذور بين الناس في إغرم و يرحل عنها مجهول الهوية كما جاء إلى الدنيا ك « X ابن X « يرحل الآن عن هذه الدنيا في نفس المنطقة و المكان وهو كذلك « X ابن X» . ما هو أصل الطلقة التي وضعت نهاية حياة مراد خاصة لما عرفنا على لسان «جوليا» أنها هي من إبتدعت فكرة إرسال تهديدات الظلاميين لمراد و كتابتها في الصخور في الطريق التي يسلكها من و إلى النهر و المقام ؟ هي أسرار عديدة و منها إحتمال أن تكون الطلقة القاتلة من يد «نوميديا» التي ربما حين أحبت مراد أرادت أن تخلصه من عذابات الحياة و تضع نهاية لمأساته و تراجيدياه . * نوميديا : رواية طارق بكاري الطبعة الأولى عام 2015 دار الآداب بيروت، وهي رواية فازت بجائزة المغرب في صنف السرديات لسنة 2016 وهي كذلك من ضمن الروايات في اللائحة القصيرة لنيل جائزة البوكر للرواية العربية لموسم 2016.