روايتان في رواية واحدة، هكذا يقدم لنا الكاتب «عبده جيران» روايته الجديدة الصادرة سنة2013 عن منشورات دار الآداب البيروتية. ماذا يعني هذا القول؟ يتوه قارئ هذه الرواية في شخوصها وسرادها، ليس من حيث الأمكنة التي تنبني عليها، ولا حتى الأزمنة التي تخيط تفاصيل شخوصها، بل من حيث النسج الذي يحيك به عالمه. لنتأمل العنوان الذي افترضته لهذه القراءة، وهو عنوان دال على كثير من العلامات التي تضيء النص، فمن حيث النسج تظهر لنا الساردة كحائكة لخيوط متعددة كما حرفة أبيها تماما، وتلك الأسرار التي ترغب في الوصول إليها عبر تعريتها بطريقة أو أخرى. لكن هل الكاتب يكتب رواية، أم أنه ينسج الحكايا في روايتين متقابلتين يشدهما خيط رفيع، في ثنائية مقلقة بين الوجه والقناع؟ «كرة الثلج» كرة تطوي البقايا والثنايا منذ بدايتها إلى حين اكتمال صورتها. إلا أننا إذا ما حاولنا تقسيمها إلى نصفين فإننا سنحصل على حكاية الساردة وحكاية ابنها، وهما حكايتان ترومان المغايرة بين شخصية تتلصص الأحداث من شرفة بيتها أو من جاراتها، وابنها الذي يحكي حكاياه من وراء نظارتين جديدتين. القارئ إذن يتوسطهما، لا ليبحث عن صدقية الأولى وكذب الثانية، وإنما ليضبط هذا بذاك فيما يسمى بما وراء الصدق/الكذب. إلا أن تقسيم كرة الثلج سيؤول إلى زوال الثلج، ليتحول إلى ماء متدفق في مجموعة من الطرق، أي ليتدفق عنوة، أو صدفة في الحفر الممتدة في الطريق. سنحصل إذن على جداول صغيرة تصب في بركة، أو بئر، أو نهر، أو بحر. هنا يضيع القارئ بين هذا الجدول أو ذاك، مادام لكل واحد عوالمه الخاصة. صحيح أن كرة الثلج تشير إلى عالمين؛ عالم الأم وعالم الابن، وكل عالم يفيض عوالم أخرى، كأننا أمام عرائس الروس تماما، أو بالأحرى كأننا أمام فضاءات ألف ليلة وليلة، كلما اعتقدنا انتهاء ليلة إلا وتحملك إلى ليلة أخرى. نحن إذن أمام نسيج منظم، كل خيط يتدلى في مكانه، وهذا لا يتأتى إلا من حرفية النساج. الروائي نساج برع في اللعب بالخيوط ليهندس لنا صورتين في وجه واحد. الأم/الابن علاقة تفيد القلق والأزمة، الذاكرة والنسيان، الحقيقة والقناع، إلا أن الوسط بينهما هو ما يضيف للعلاقة توترها. لا نريد الإحالة هنا إلى عقدة «أوديب» ولا إلى الصراع على إرادة القوة ولكننا نحيل إلى لعبة المرآة التي يرى فيها كل واحد صورة آخره، كأن الساردة تبدأ حكايتها من السطر الأخير من الرواية، وكأن السارد يؤكد ذلك أيضا في السطر الأخير منها. وبينهما يكون الانتظار شرفة يطل منها قراء آخرون، لا ليعيدوا سرد الرواية بقدر ما يندفعون نحو البحث في المرآة ليكشفوا عن الآخر الذي يسكنهم، أو بالأحرى عن الشقوق التي يختبئ فيها الوجه لينكشف في القناع. «كرة الثلج» إذن تدفع التخييل الروائي إلى أكثر من مرجع. وإلى أفقه المنفتح على التأويلات الممكنة، وحتى إن قلت ذلك فما الذي تسرده الرواية؟ هل تسرد الوجه أم شبيهه؟ هل الحقيقة أم القناع؟ بمعنى أن القارئ يتأرجح بين هذا وذاك ليستخلص في الأخير أن السارد « الصادق» غير صادق فيما يقوله. فليس الحديث عن الصدق هنا مناقضا للكذب، وإنما هي إشارة لتقنع السارد بأقنعة متعددة لتصيد الرغبة واللذة معا، إذن إنه يقلب لنا حكاية أمه الساردة التي تخيط حكاياها من داخل بيتها، بحيث تشكل السيارة موقعا لقياس الزمن، بين ما قبل دخولها إلى الزقاق وما بعده. هذا الحدث يحيلني إلى شريط «les dieux sont tombés sur la terre» الذي يحكي حكاية سقوط قنينة الكوكاكولا من الطائرة على عائلة بدائية. هنا تبدأ الحكاية كمغامرة تؤثث العلائق الموجودة بين الإنسان والطبيعة، وبين هذا الإله الذي سقط من السماء وخلق بلبلة وقلقا وسط العائلة، مما دفع كبيرهم لرمي هذا الكائن فيما وراء الأرض. تتسلسل حكاية الشريط لتوضح العلاقة بين الطبيعة والثقافة. إلا أن حكاية السيارة تعطي للزقاق معنى جديدا، وكأنها دخلت إليه دخولا يفضح التحولات الجديدة التي وقعت وتقع في الضاحية الجنوبية من الدارالبيضاء. تتقدم الساردة بذكر السيارة بالشكل الذي تنفلت منها لحكي تفاصيل مجاورة لها. كأن السيارة مبرر أو مقود للسير نحو اتجاهات أخرى، من قبيل الجارة ذات العين الحاسدة (حادة) التي إذا نظرت إلى شخص ما أصابته بسوء. مثلما تروي الساردة المقالب المتعددة التي تقع بين عينيها، أو تحملها إليها إحدى الجارات العارفات بسر الزقاق؛ من قبيل ما وقع لذلك الشيخ الوقور الذي خرج عاريا بينما زوجته نصف عارية، كأن قنينة الكوكاكولا التي خلخلت سكينة تلك العائلة البدائية في الشريط السالف ذكره، هي نفسها التي دمرت كيان عائلة هذا الشخص الوقور، بفعل مادة مخدرة دسها أحد أبناء الزقاق. الزقاق مرتع الحكايا حتى إن لم توجد يتم خلقها، سواء بفعل المقالب أو بفعل اختلاقها. كأن الناس لا يستطيعون العيش إلا بالحكايا. الساردة تتقمص «شهرزاد» رغم أن بينهما مسافة كبيرة في الموقع والمرجع معا. وإذا كان الأمر كذلك فما الذي تضيفه الساردة لسلسلة الحكايا التي تسردها علينا في صورة تستر العجيب والغريب، مثل ذاك التقابل المروع بين سيارة ابنها، وتلك السيارة الخربة المهشمة الحاملة لما هو عجيب، والتي تفوح منها الخوارق، مثلما تنسج الحكايا التي تدوخ ساكنة الضاحية الجنوبية. لنتوقف مرة أخرى عند السيارة لا من حيث ماركتها كمنتج تكنولوجي، وإنما من حيث وظيفتها الاجتماعية والثقافية معا. «ووقتها أدركت أن السيارة لم تعد مجرد وسيلة تنقل البشر، بل صارت مرآة يرى فيها الناس طول أياديهم أو قصرها، أو بالأحرى صارت تصنع أيادي وهمية لمن ليست لهم أياد مديدة حقيقية»ص71 . قد تكون السيارة - هنا ? جسرا لقول التحولات التي وقعت في الضاحية الجنوبية/المغرب السفلي، وقد تكون - كذلك- إعلانا عن احتجاج دفين في لا وعي الساردة، ليس فقط في ذكر أشباب ذلك عبر رتق حكايا الزقاق أو الحي، بل في عدم الرفض العلني لتلك الظواهر التي أصبحت تطفو على السطح، والتواطؤ معها أحيانا. في كثير من المشاهد التي تلتقطها الساردة مسلطة الضوء عليها، والتي يمكن تلخيصها في مجالين اثنين: الداخل/الخارج أو الحي في بدايته الأولى والكيفية التي أصبح عليها فيما بعد. أما فيما يخص الداخل فنعني به الفضاء الذي تتحرك فيه الساردة في علاقتها بزوجها عباس وأبنائها: الخياطي الذي قتل في أحداث الدارالبيضاء 1965 في سن الحادية عشرة وهي إحالة تكفي لتأثيث زمن الرواية، كزمن يفضح أشكال القمع الذي عاشه المغرب. صحيح أنها لم تذكره إلا بشكل برقي وكأن حكايته لا تهمها، مثلما لا يهمها نسج سره في مكان ما من البيت، تزوره بين الفينة والأخرى كما لو كان حيا، وابنتها «أمينة» المتزوجة والتي تسكن بالقرب منها، وابنها «الصادق» الذي تخيط معه حكايتها، والابن الأصغر «رضوان» الذي ما يزال يتابع دراسته، بالإضافة إلى أبيها وباقي عائلته، بينما الخارج يتجلى في الحي وما ينبت داخله من حكايا متعددة. تتوقف السيارة قبالة باب منزلها كما لو كانت هي الفاصل بين الداخل والخارج، أو هي البوصلة التي تسمح لها بالتنقل - بحرية - بينهما. إن هذا الانتقال هو ما عبرت عنه الساردة كاستعارة جميلة لما نود توضيحه. أعني بذلك تلك العملية التي يتم فيها غزل الصوف (السْدَى) أو فيما تعبر عنه في الصفحة 41 :» أنا لا أشاهد الصور، أجاءت في التلفاز أم في غيره إلا لكي أبحث لها عما يشبهها في الزقاق». بين الداخل والخارج هذه الوحدة الساحرة كأنها خيوط تتدلى من الجهتين ليتحول الداخل إلى الخارج والعكس صحيح تماما. هي الخيوط التي تروم النسج والنسيج كما الحكاية. إن الساردة على وعي بما تقوم به، فهي في أكثر المرات تعلن ذلك: «قد بالغت في ثرثرتي.. هذا ما ستقولونه، وأنتم تتابعون ما أحكيه من خْرايْف، والتي تعتبرونها كذلك» ص31. وفي مرة أخرى تقول: «أنا لا أحكي لكم، ولا أتوجه إليكم بالكلام، وربما لست أنا من يتكلم» ص32. إن قراءة هاتين الفقرتين ستدفعان قارئهما إلى حكاية النسوة من حيث هي حكاية الظل والهامش، أي ليس لها صولجان السلطة الظاهرة. ليس من حيث كونها تدخل متلقيا مفترضا، بل في كونها تضع الحكي موضع سؤال أدبي وفلسفي؛ مثل لماذا نحكي كل شيء ولا شيء؟ هل لأن اللسان لا يستقيم إلا حين يتكلم؟ إن المسألة هنا تروم الظل مثلما ترغب السلطة. كأن سلطة السيدة «السعدية» هي ظلها، أو كأن الداخل هو الخارج هل هذه ثرثرة؟ لا نعتقد ذلك، خصوصا وأن النساء يعشن من داخلها. أليست شهرزاد قد حررت نفسها بالحكي لتحصل على تبادل المواقع بينها وبين شهريار؟ هنا نتحصل على سلطتها الكامنة في كيفية جعل الآخر ينصت إليها. هكذا تدفعنا «السعدية» لسماعها وإن كانت تقول لنا أنها لا تتكلم ولا تكلم أحدا بل - فقط - يتكلم الآخر من داخلها. لكن من هو هذا الآخر الذي تشترطه كوجه مقابل لها؟ أليس هو ابنها «الصادق» قبل أن أكون «أنا» وأي متلق آخر؟ هاهنا تنكشف اللعبة التي ما فتئت تخفيها مادامت السيارة هي المقود الذي ساقت به حكايتها. سيارة ابنها «الصادق» وإن كانت توهمنا بأنها تخيط الداخل والخارج معا، وتقول إن كل ذلك عبارة عن «خْرايْف» كما لو كانت تود أن نصدقها. لعبة المرآة والآخر هي الناظم الرئيس لهذا النص الروائي الذي شكل تحولا نوعيا في الكتابة الروائية والحياكة السحرية لشخوصها وتفاصيل المكان في الضاحية الجنوبية للدار البيضاء. إلا أن هذه الأخيرة ثمة ما يقابلها في الجهة الأخرى: (المعريف، أنفا، فرانس فيل، عين الذئاب). هذه الأمكنة ستتكلم من خلال وجهها الآخر، وجه ابنها «الصادق» وحتى لا نضيع في البحث عن دلالة الاسم، اسم الساردة والسارد معا نود الإحاطة بهذا التقابل المشتت للرؤية، بمعنى أن قارئ هذه الرواية يجد نفسه بين مرآتين: واحدة تنكشف فيها الضاحية الجنوبية بدقائق أمورها من فقر وتهميش، ومخدرات، ودعارة، ولصوصية..والأخرى تفضح لنا عالما من الإتكيت الجديد والذي يمثله ابنها الذي يحلم بالقوة والسلطة. هاهنا يتموضع الداخل والخارج من جديد لتصبح الضاحية الجنوبية داخلا، والمدينةالجديدة خارجا. السارد يقوم بقلب الحكاية الأولى معتبرا أمه كاذبة، ليس فقط في تقديم أسرته، بلا حتى في ذكر بعض الشخصيات كجده من أمه وحنان، وكذلك المكان الذي تدور فيه الحكايا. فهو أي السارد عاش مع أسرته في «المعاريف» وأمه مدرسة وأخته طبيبة وأخوه الخياطي مدير جريدة، وأخوه الصغير حاصل على الدكتوراه، بينما هو يرسم بورتريها لنفسه بالألوان من حيث كونه يكره الأب، ويود الوصول إلى مركز السيادة. السارد يغير مسار حكاية أمه، سواء بذكر وضعه الاجتماعي أو برغبته في التحرر من سلطة الأب منذ مراهقته. لا نريد إعادة سرد حكايته، وإنما نريد التوقف عند دلالتها كدلالة تفيد التحولات الاجتماعية، والقيمية، والرمزية التي وقعت في المغرب الراهن، وبالضبط أواسط الثمانينيات من القرن الماضي. لا يتعلق الأمر بتقمص وجوه أخرى، بل في الكيفية التي يضع بها القناع حقيقة. علاقته بزميليه البدلاني الفقير، والتبراني البورجوازي خلفت مضاعفات في نفسيته من قبيل زيارته لذلك القصر لحضور عيد ميلاد زميله، وكذا تسللهما الفاضح منه بعد استقرارهما الوظيفي. والأهم علاقته بخالدة وابنتها خلود، هنا ينكشف الوجه عبر تعريته من قناعه ليكون وجها واحدا، هذا الوجه الذي سينكشف حين علمه بحمل خلود (ابنة خالدة). هاهنا يظهر الوجه والقناع مرة أخرى في ص173/174 لا ليعلن عن حديهما بل ليقدم وسيطا بينهما، والذي يتمثل في والديه. كأن العودة إليهما هي عودة للحكاية الأولى، كحكاية يريد طيها في النسيان، لينسى توتره بدخوله إلى إحدى الحانات كما لو كان يريد رؤية وجهه في الكأس. لكن ما الذي يجمع «خالدة» بقرينها السارد؟ هل هو الأصل الذي يرغبان في دفنه سويا في بطن «خلود»؟ أم أن المسألة أكبر من ذلك؟ جعل الأم ترفض ذهابه في تلك اللحظة. الرواية مغرية، وإغراؤها أكبر من سلوكيات شخوصها والعلائق التي تربط الواحد بالآخر، إنها رواية تنفلت من كاتبها لتضع متلقيها في تيه حقيقي بين هذه الشخصية أو تلك، وبين هذا المكان وآخر، وبين الوجه والقفا، وبين السيارة التي تؤرخ للضاحية الجنوبية، والسيارة التي يحلم بها الصادق... لن نستطيع جمع تيهنا ووضعه في كرة الثلج كي تذوب مع الزمن قبالة أعيننا، لكن بالإمكان، ولكن - وبقليل من المكر- أن نفتتها إلى كرات متعددة، مثلما تمكننا هذه الصيغة من تكسير المرآة التي تكشف الوجه وآخرَه (السعدية والصادق) إلى مرايا متعددة يستطيع كل قارئ حمل واحدة منها، ليقرأ ما يراه وما لا يراه، لكن أين هو الكاتب بين هاتين الحكايتين؟ هل هو معلق على الغلاف، أم أنه هو محشو بين الكلمات وبين السطور؟ قد أجزم بالقول إنه مختبئ بين الحكاية الأولى والثانية. هذا الوسط المقلق هو ما يدفعني إلى طلب قراء آخرين للحفر فيه لعلهم يجيبون على سؤال كيف « نسج عبد الرحيم جيران « أسرار الضاحية الجنوبية وأسرار المدينةالجديدة التي تختفي وراء أقنعة مستعارة. عبد الرحيم جيران «كرة الثلج » دار الآداب بيروت 2013