حين تنتهي الصرخة، تردد الجبال صوت الصدى.. ذاك منطق فيزياء الطبيعة.. لكنه درس يسري حتى على باقي مناحي حياة البشر بهذا القدر من التطابق أو ذاك. ولعل مما يثير اليوم، مثل هذا التأمل، واقع حال العربي بعد سنوات من صرخات مطالب التغيير، التي انتهت إلى خلق التغول والضجيج، أكثر مما خلقت من الرضى والتحول. وهذا لربما أمر عادي طبيعي في نهاية المطاف، يسائل بنية التحليل في فكرنا العربي بقوة. إن السؤال الذي، لربما، يفرض نفسه علينا جميعا اليوم، هو: هل خرج العربي، المواطن الفرد، إلى الشارع، وأساسا الشباب منه، فقط من أجل مطالب سياسية للحرية وإنهاء التحكم والاستبداد، أم أنه خرج من أجل ما هو أكبر، أي معنى حياة ورضى ووجود؟. هذا واحد من أسئلة واقعنا اليوم المركزية، التي تفرض علينا أن ننتبه إلى أن القلق الذي يحرك الإنسان، في بلاد العرب، هو قلق تاريخي أشد تعقيدا وعمقا، وأن المطالب السياسية (والحقوقية منها) ليست سوى تجل خارجي لذلك لأن الصراع الوجودي، الذي يأخذ بالعربي، من حيث هو مجموعة بشرية، يوحدها وعاء حضاري إسمه اللغة العربية، منذ قرنين من الزمان، هو صراع قيم، وصراع أسئلة إصلاحية، أي صراع سؤال النموذج الذي يرتضي لنفسه أن يكون عليه العربي كإنسان اليوم. ولعل الجواب المعرفي الذي أنضجه المفكران المغربيان، محمد عابد الجابري وعبد الله العروي، كل استنادا على أطروحته المعرفية، يقدم لنا بعضا من الجواب على ذلك. الجابري (الذي مرت ذكرى رحيله منذ أسبوع)، يؤكد في أطروحته التحليلية لمنظومة إنتاج المعرفة عربيا وإسلاميا، أن لحظة التحول والقلق، ابتدأت منذ القرن 17، حين بدأ الاحتكاك يتم مع البنية السياسية والاقتصادية والتكنولوجية الجديدة بالغرب، التي بلورت الفكرة الاستعمارية في ما بعد، وذهب حتى إلى اعتبار الحركة الوهابية في بدايتها محاولة للإصلاح. فيما رتب عبد الله العروي، ملامح الصراع الذي يعيشه العربي المسلم في ذاته، كصراع قيم، برؤية تاريخانية للوقائع والتطورات، من خلال تنصيصه على وجود 3 أجوبة كبرى عن سؤال القلق ذاك، هي جواب الفقيه وجواب الليبرالي وجواب ما أسماه ب «داعية التقنية». جواب الفقيه هو العودة إلى الأصول، وجواب الليبرالي هو إعادة تمثل قيم البورجوازية المدينية الغربية، قيم الخدمات العمومية لنظام المدينة، قيم السوق والتنافسية وسيادة القانون الوضعي وفصل الدين عن الدولة، أي فصل الاقتصاد والسياسة عن الدين، بينما جواب داعية التقنية كامن في تملك العلم والتكنولوجيا. إن تأمل المشهد العام لإنتاج السلوك في الحياة اليومية للفرد العربي المسلم، من الدارالبيضاء حتى كابول، ومن ديار بكر حتى تمبكتو، يجعلنا نكتشف فيه تجاذبا بين هذه الأجوبة الثلاث. بل يكاد المرء يجزم، أنها أجوبة متراكبة في وعي الفرد العربي المسلم اليوم. مما يفسر كل ذلك التزوبع الآخذ بخناقنا جميعا كأفراد، حيث تتنازعنا الحاجة للمحافظة على الأصول ويقيننا بالحاجة إلى فصل الدين عن السياسة وحاجتنا الملحة لتملك التقدم التكنولوجي، الذي لا يكون بغير امتلاك المعرفة العلمية. ولعل هذا يجعلنا نخلص إلى أن السبب في ذلك التزوبع راجع إلى غياب مشروع مجتمعي تاريخي جديد، حتى الآن، مفروض أن يبلوره نظام تعليمي جديد، ببلداننا العربية، كما تحقق مع كوريا الجنوبية وماليزيا وتركيا في نهاية القرن 20، وقبلهما مع اليابان في بداية ذات القرن. والخلاصة الطبيعية، للأسف، حتى الآن لهذا التزوبع الآخذ بخناق الفرد العربي، هو الذي ينتج لنا كل هذا النزوع نحو التغول والفردانية الانغلاقية، كخيار سلوكي يومي. وهو ما يجعل في العمق، كل الحراك العربي الذي كان، مجرد صرخة غير المندرجة ضمن صيرورة طبيعية للتأطير السياسي، ذاك الذي مفروض أن تبلوره نخبة أو تيار ما في المجتمع. وأخشى أنها مجرد ترجمان لرومانسية جديدة يسبح فيها الفرد العربي المسلم، منذ جيلين على الأقل. لأن الرومانسية يوم ولدت كتيار في العالم، لم تكن سوى جواب لانتصار سؤال الذات أمام سطوة سؤال الجماعة، سواء كانت تلك الجماعة دينية أو عائلية أو قبلية أو اقتصادية. وولدت أيضا كجواب عن قلق للذات أمام مجهول الكينونة، أي ذلك المجهول الذي يخلقه عادة الانتقال من نظام فلاحي تقليدي إلى نظام مديني حديث، يتأسس على فكرة الانتماء إلى عائلة أكبر هي الدولة والوطن، وليس لعصبية الدم أو القبيلة أو الطائفة أو الجماعة الدينية. أليس ما يعيشه العربي المسلم اليوم، إنما هو تكثيف أكثر تعقيدا لذلك؟.. من هنا كل هذا النزوع بيننا سلوكيا صوب رومانسية جديدة، وحده صاحب القرار السياسي الحذق من يعرف كيف يروي عطش تلك الحاجة إلى الرومانسية ثقافيا وقيميا. ولعلنا اليوم، في حاجة جدية لإعادة تمثل كتابات جبران خليل جبران وعمر الخيام وأبي حيان التوحيدي، حتى يتواصل الفرد العربي الجديد، القلق اليوم في ذاته وفي وجوده، مع اللحظة التاريخية للتحول من شكل حياة إلى شكل حياة، من قيم نظام البداوة إلى قيم نظام المدينة. أي من قيم الانتماء إلى العصبة والقبيلة والطائفة والمذهب الديني، إلى قيم الدولة والمؤسسة والوطن.