تحملنا الذكرى الرابعة لرحيل المفكر المغربي محمد عابد الجابري، على طرح الإستفهام الطبيعي، حول ما الذي سيكون موقفه من التطورات المتسارعة، عربيا وإسلاميا،حصول ما أصبح يطلق عليه إجرائيا ب «الحراك العربي»؟. هل سيكون موقف المغتبط بتلك التطورات، انطلاقا من موقفه السياسي، المعروف عنه منذ شبابه الأول، المنتصر للحداثة والتقدم ودولة المؤسسات؟. أم إنه سيكون موقف المحلل المفكر، المتوجس من التسرع في الحكم عليها؟. أم إنه سيكون الإثنان معا، كما حصل مع إيمانويل كانط، في محاولته الجواب عن سؤال: «ما التنوير؟» ثم سؤال «ما الثورة؟». الحقيقة، إن تساؤلات مماثلة، في الذكرى الرابعة لرحيل هذا المفكر المغربي الإستثنائي، الذي شرح مفهوم التراث، وشرح بينة العقل العربي، وقارب بجرأة أكاديمية تحليلية القرآن وتفاسيره، إنما تعتبر أسئلة حاجة، تترجم قلق السؤال حول أنجع السبل علميا للتعامل معرفيا مع واقع التطورات هذه، في دنيا العرب والمسلمين. كوننا في حاجة معرفية، بإلحاح، إلى بوصلة جديدة لفهم الذي يجري، كيف يجري، وإلى أين سيصير. بل ومن أية زاوية نظر علمية، تحليلية، يمكن لنا استيعاب حقيقة ما يحدث. هل من زاوية سياسية محضة، أم من زاوية علم الإجتماع وعلم التاريخ وعلم الإقتصاد؟. ولعل كل من استوعب عميقا، بنية التحليل الجابرية، سيؤكد أن الرجل ربما يجدد الحديث عن حتمية الكثلة التاريخية، عربيا وإسلاميا، من خلال مشروع تاريخي ظل يؤمن به، تتوافق فيه قوى الحداثة مع قوى المحافظة، من أجل إعادة بنينة جديدة لشكل ممارسة السياسة وتدبير الدولة في بلاد العرب. بالشكل الذي يحقق التعدد والتدوال على السلطة عبر الآلية الديمقراطية، تحت سقف دستور متوافق عليه. هل ذاك ما حصل في تونس ولم يحصل في مصر؟. الجابري لم يعد هنا ليقدم لنا الجواب الفصل. إن اللحظة العربية تعيش فقرا واضحا في الرؤية التحليلية للوقائع المتسارعة منذ 3 سنوات، يترجم أزمة معرفية يكمن أصلها في العطب الذي طال مجال إنتاج المعارف، التي هي الجامعة ومعاهد البحث ونظام التعليم عموما ببلاد العرب. هنا يكمن الغول، حتى لا نقول التطرف، المصاحب للتحول التاريخي الذي يسجل في وعي الفرد العربي اليوم، في زمن الطرق السيارة للإعلام والمعرفة. ويكاد النقاش، المثير في بعض قاموسه اللغوي المنحط، الذي انطلق منذ أسابيع بين عدد من الباحثين العرب، في مجال تاريخ الأفكار ومجال التاريخ العربي والإسلامي، أن يقدم الدليل المؤسف على المستوى الذي بلغته أزمة الفكر العربي المصاحب لهذه التحولات. وذلك بعد رأي نشره الباحث اللبناني رضوان السيد بيومية «الشرق الأوسط» اللندنية، تحت عنوان «الحملة على الإسلام والحملة على العرب»، الذي حمل فيه بتجن وبتآويل سياسية، غير أكاديمية، على العديد من الباحثين الذين اشتغلوا على تاريخ الإجتهادات الفقهية الإسلامية، وفي مقدمتهم الراحل محمد أركون، أو كل من اعتبرهم محسوبين على ما أسماه «جماعة القطائع» التي أسس لها المفكر الفرنسي الراحل ميشال فوكو. ما دفع بعضا ممن أشار إليهم بالإسم، مثل السوريان جورج طرابيشي وعزيز العظمة، يردان عليه بلغة أعنف في أعداد لاحقة من ذات اليومية اللندنية، بأسلوب للأسف منقوع بدوره في قاموس التحامل والأحكام الإطلاقية المسبقة. إن قراءة منطوق تلك النقاشات السجالية، وقاموسها اللغوي، يكاد يقدم الدليل الأوضح على أزمة أخلاقية تكبل الفكر في عالمنا العربي اليوم. كون روح تلك القراءات تخوينية، مصطفة في ذات البنية المدمرة للتركيبة السياسية والإجتماعية للمجموعات البشرية العربية بالمشرق، المتأسسة على المنطق الطائفي والعشائري. وهنا الطامة كبيرة حقا، ليس فقط لأنها تقرأ الواقع بأحكام مسبقة ومن خلال قوالب جاهزة، بل لأنها ترتكب ذات الخطأ التاريخي الذي نبهنا إليه ابن رشد وابن خلون والجابري والعروي، المتمثل في محاولة عزل الذات العربية والإسلامية عن التاريخ، في كل قراءة لمنتوجهم الحضاري. كما لو أنها فوق التاريخ أو مفصولة عنه. وهذا خطأ قاتل معرفيا. لأن التحليل الملموس للواقع الملموس هو أن يقرأ العربي قصة الإسلام وقصة العرب، ضمن سياقها التاريخي، بما يعزز دور الفرد عربيا ضمن منطق الدولة لا منطق الطائفة والعشيرة. إن العطب كامن في مشروعاتنا التربوية (التي يجب أن ندرج فيها حتى ثقافة الصورة من أنترنيت وتلفزيون وسينما). أي مجال تكوين وصناعة رؤية الفرد العربي المسلم لذاته وللعالم. أليس ذلك ما حاول الجابري والعروي (كل بمنهجه المختلف) أن ينبهنا إليه؟. أليس العقل السياسي للدولة هنا مسؤول عن تفعيل هذا المشروع المجتمعي، الهائل، عربيا وإسلاميا؟ أليس ذلك ما نجحت فيه اليابان منذ قرن ونصف من الزمان؟ أليس ذلك ما تنجح فيه الصين اليوم من خلال الإستثمار في الزمن زفي العنصر البشري؟. بهذا المعنى فقط، نمنح لذكرى الجابري أفقا قيميا من خلال تمثل آلية تحليله العقلانية. أكاد أقول حتى نستحقه كمغاربة.