مصر تدعو إلى نشر قوة دولية بغزة    لقجع يؤكد جاهزية المغرب لكأس إفريقيا ويقترح شراكة استراتيجية مع السنغال لتبادل الخبرات الرياضية    مدينة طنجة تحتضن معرضا يخلد 2500 عام على تأسيس نابولي    لجنة تحكيم ثلاثية دولية لاختيار أفضل عرض سيرك لسنة 2025 بالدورة 7 للمهرجان الدولي لفنون السيرك بخريبكة    الجزائر تستعمل لغة غير لائقة في مراسلاتها الدولية وتكشف تدهور خطابها السياسي    أخنوش: ضخ استثمارات غير مسبوقة في درعة تافيلالت ل7 قطاعات حيوية وخلق آلاف مناصب الشغل    11 قتيلا في إطلاق نار بفندق في جنوب أفريقيا    نماذج من الغباء الجزائري: أولا غباء النظام    الركراكي: حكيمي يبذل جهداً كبيراً للحاق بالمباراة الأولى في "كان 2025"    الأردن يبلغ ربع نهائي "كأس العرب"        وزير الصحة يجدد في طوكيو التزام المغرب بالتغطية الصحية الشاملة    أخنوش من الرشيدية: من يروج أننا لا ننصت للناس لا يبحث إلا عن السلطة    المكتب الشريف للفوسفاط يستثمر 13 مليار دولار في برنامجه الطاقي الأخضر ويفتتح مزرعته الشمسية بخريبكة    جهة طنجة .. إطلاق النسخة الثانية من قافلة التعمير والإسكان في خدمة العالم القروي    برقية تهنئة من جلالة الملك إلى رئيس جمهورية فنلندا بمناسبة العيد الوطني لبلاده    أخنوش بميدلت لتأكيد سياسة القرب: مستمرون في الإنصات للمواطن وتنزيل الإنجازات الملموسة    معهد يقدم "تقرير الصحافة 2024"        مقهى بتازة في مرمى المتابعة بسبب بث أغاني فيروز "بدون ترخيص"    الحكم الذاتي الحقيقي التأطير السياسي للحل و التكييف القانوني لتقرير المصير في نزاع الصحراء    ملاحقات في إيران إثر مشاركة نساء بلا حجاب في ماراثون    مشعل: نرفض الوصاية على فلسطين    أنشيلوتي: مواجهة المغرب هي الأصعب في مجموعتنا في كأس العالم 2026    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    الرياح الحارة تؤجج الحرائق في شرق أستراليا    أمن الناظور يُحبط تهريب أزيد من 64 ألف قرص ريفوتريل عبر باب مليلية    كأس العالم 2026.. الجزائر تترقب الثأر أمام النمسا    الركراكي يُعلق على مجموعة المغرب في كأس العالم    لماذا يُعتبر المغرب خصماً قوياً لمنتخب اسكتلندا؟    سطات .. انطلاق فعاليات الدورة 18 للملتقى الوطني للفنون التشكيلية نوافذ    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش.. تكريم حار للمخرج المكسيكي غييرمو ديل تورو    تزنيت : دار إيليغ تستعد لاحتضان ندوة علمية حول موضوع " إسمكان إيليغ بين الامتداد الإفريقي وتشكل الهوية المحلية "    سوس ماسة تطلق برنامجاً ب10 ملايين درهم لدعم الإيواء القروي بمنح تصل إلى 400 ألف درهم لكل منشأة    العنف النفسي في المقدمة.. 29 ألف حالة مسجلة ضد النساء بالمغرب    مرصد مغربي يندد بتمييز زبائن محليين لصالح سياح أجانب ويدعو لتحقيق عاجل    لاعبون سابقون يشيدون بأسود الأطلس    تحذير من "أجهزة للسكري" بالمغرب    تكريم ديل تورو بمراكش .. احتفاء بمبدع حول الوحوش إلى مرآة للإنسانية    مجلس المنافسة يفتح تحقيقا مع خمسة فاعلين في قطاع الدواجن    الكلاب الضالة تهدد المواطنين .. أكثر من 100 ألف إصابة و33 وفاة بالسعار        قبل انطلاق كان 2025 .. الصحة تعتمد آلية وطنية لتعزيز التغطية الصحية    الاجتماع رفيع المستوى المغرب–إسبانيا.. تجسيد جديد لمتانة الشراكة الثنائية (منتدى)    بورصة البيضاء تنهي الأسبوع بارتفاع    تعيين أربعة مدراء جدد على رأس مطارات مراكش وطنجة وفاس وأكادير    محكمة الاستئناف بمراكش تُنصف كاتب وملحن أغنية "إنتي باغية واحد"    الحكومة تمدد وقف استيفاء رسوم استيراد الأبقار والجمال لضبط الأسعار    "أمريكا أولا"… ترامب يعلن استراتيجية تركز على تعزيز الهيمنة في أمريكا اللاتينية وتحول عن التركيز عن آسيا    خلال 20 عاما.. واشنطن تحذر من خطر "محو" الحضارة الأوروبية    تقرير: واحد من كل ثلاثة فرنسيين مسلمين يقول إنه يعاني من التمييز    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    استقرار أسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأمريكية    دراسة: الرياضة تخفف أعراض اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    الأوقاف تكشف عن آجال التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    موسم حج 1448ه... تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السياسي في فكر محمد عابد الجابري -12- بنية العقل السياسي العربي: المحددات والمرتكزات
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 22 - 08 - 2013

من الصعب تحديد المفكر المغربي محمد عابد الجابري في درج واحد من مكتبة ضخمة، ومن الصعب، كذلك، أن نقول إن مفكرنا يهتم بهذا المجال دون غيره، فهو بالجملة مفكر متعدد المجالات، لا نستطيع تحديد واحد منها دون الإشارة إلى الأخرى. لقد كتب في التراث، والفكر، والإبستيمولوجيا، والتربية، والسياسة، وغيرها.
إن هذا التعدُّد في الاهتمام ينبني على تصوّر إشكالي حدّده منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي؛ بمعنى أننا أمام رجل إشكالي يمحور فكره على إشكالية واحدة، هي إشكالية النهضة العربية وتجاوز تأخرها التاريخي. إن هذا الناظم الإشكالي الذي حدده في أكثر من مقالة وكتاب يؤسّس أفقا إشكاليا هو مناط القراءة التي سنقوم بها في هذا البحث. إن اهتمام الجابري متعدد، لكن الإشكالية التي يشتغل بها وعليها واحدة. وبين تعدد الاهتمام ووحدة الإشكالية تظهر لنا جدةّ مفكرنا وفرادته ، ليس فقط في القضايا التي يطرقها بمعول نقدي ثاقب، ولا بالسجال الذي تتضمنه كتبه، والمضاعفات التي يخلفها، وليس في معالم العقلانية التي يبتغيها ويسير عليها، وليس في الروح النقدية والصّدامية التي تصيب قرّاءه والمشتغلين في مجال الفكر العربي، بل في المشروع الذي يضعه في المقدمات. ذلك المشروع الذي ينبني على أهداف محددة، تتوخى النهضة، والتقدم، وما إلى ذلك من المفاهيم المجاورة لهما، بمعنى أن مشروع الجابري هو مشروع إيديولوجي يفترض تجاوز الخيبات، والانكسارات، والتعثرات، التي وقعت الأمة العربية فيها، ولن يتأتى ذلك إلا بإعادة القراءة النقدية للتراث العربي الإسلامي، وبالضبط الاشتغال على مفهوم العقل الذي ينتج هذا الفكر.
سنحاول، في هذا الباب، الإحاطة بكتاب محمد عابد الجابري العقل السياسي العربي1 لعدة أسباب، أولها: متابعة دقيقة لخطواته بشكل يفيد تلخيص ما يقدمه لنا في هذا الكتاب. وثانيهما النظر إلى القضايا التي يطرحها بشكل يفيد إعادة تبويب المجال السياسي العربي من حيث الثوابت التي تشكل أنظمته السياسية. وثالثها ترك المستوى المنهجي إلى فصل آخر دون الفصل بين المنهج والموضوع. ولكن لأسباب منهجية، سطرناها منذ البداية، نضع الأدوات المفاهيمية التي حددها في مقدمة الكتاب إلى حينها.
ثلاثة أسباب وضعتها أمام قراءة هذا الكتاب حتى نتمكن من تحديده، بمقاربات أخرى اشتغلت على الموضوعة نفسها. و حتى نكون دقيقين في تعاملنا مع هذا الكتاب، نعود إلى الدعامات التي تؤسسه من حيث كونها دعامات تنتظم في منظور نقدي وجد في العقل بنية رئيسة لإعادة تأريخ الفكر العربي الإسلامي في جوانبه الثلاثة: المعرفة والسياسة والأخلاق. وإذا كان بحثنا محددا في «السياسة»، كما هي محددة في المجال العربي الإسلامي، فإن الجابري تعامل مع موضوعته بطريقة وبمفاهيم أخرى غير التي تعامل بها في كتابيه الأولين من مشروعه الفكري. تدفعنا قراءة هذا الكتاب إلى استخلاص النتائج الأولية ومنها:
* إن الجابري يشتغل على موضوعة «السياسة» في الفكر العربي الإسلامي من زاوية العارف، المتأمل والمتأني في إصدار الأحكام، أي إنه لا ينزع نزوعًا إيديولوجيًا بقدر ما يضع النصوص أمام القارئ لتكون حكمًا بينهما. صحيح أن تلك النصوص التي يقدمها، في هذا الفصل أو ذاك، هي نصوص مختارة بما يفيد خطاطته التي تم بناؤها، وتشييد معمارها منذ الأول. ولأنها كذلك، فقارئ الكتاب، لا يريد البحث في نوايا هذا الاختيار ولا في البحث عن نصوص أخرى تفيد عكس ما يذهب إليه، كأن القارئ لا يهتم إلا بما يقوله الكتاب كما هو موجود بين يديه. أما إذا دخل إلى مقاربة تفيد متابعة صفحات الكتاب بيد، ومحوها باليد الأخرى، فهذا ليس مستساغا بالنسبة إلينا للأحداث والوقائع، للنصوص والمصادر، والأفق التأويلي الذي يفتحه أمامنا.. قراءة تفترض الإنصات للجهد الكبير الذي مارسه سواء في المكتبة التراثية، عبر إزالة الغبار عن نصوصها، ووضعها في المتناول. ولا يعني ذلك تسييج ذواتنا داخلها بقدر ما يعني الابتعاد عنها. أي في تمثل تاريخ الفكر السياسي العربي والآليات التي تتحكم فيه، والبنيات التي تؤسس مجاله، من أجل الانفصال عنها. إن قراءة الجابري في هذا الكتاب هي استجابة لأسئلة راهننا العربي.
* تدفعنا قراءة هذا الكتاب إلى قلب مراياه، التي تعكس تاريخ العرب السياسي في لحظات معينة، وبالضبط منذ بداية الدعوة المحمدية إلى الدولة السلطانية. وهو قلب يفيد راهننا العربي، وكأن ما نقرأه هنا، هو ما يحصل أمام أعيننا في الحاضر. أليس الحاضر هنا مرآة للماضي؟ أليس الماضي الذي مضى لا زال يحيا في مجالنا السياسي، وإن تبدلت اللغة وتغيرت العلامات؟ أليس هذا الانعكاس المرآوي هو ما يشكل مأزق النظر العربي؟ تلك بعض الأسئلة الأولية التي تحتاج إلى تعميق النظر فيها، ليس من أجل الركون خلف عدمية مفترضة، بقدر ما نحتاج إليها بوصلةً للتفكير في هذا الحاضر العربي الذي لا زال مرهونا بماضيه.
* يضعنا الجابري في هذا الكتاب أمام أقنعة الاستبداد، بما تحمله من علامات محاولًا تشخيص بنياتها العميقة فيما هو رسمي في ثقافتنا العربية الإسلامية.
* إن الأفق التأويلي الذي يفتحه لنا هذا الكتاب هو تعرية أقنعة الاستبداد في تاريخ فكرنا العربي الإسلامي. تعرية تحيل إلى إمعان النظر في هذه الأقنعة التي يتبدل شكلها ولونها في الماضي والحاضر.
لا يهمنا من هذه النتائج تقويم أهمية الكتاب في ثقافتنا العربية المعاصرة، وإنما طرحناها كانطباعات أولية ستدفعنا لا محالة إلى التركيز عليها في مناسبة أخرى. لا عجب، إذن، أن يحدِّد الجابري استراتيجية عمله، وهو يشخص بنية العقل السياسي العربي، في استخلاص عوامل ثلاثة محددة لهذا العقل هي: القبيلة والغنيمة والعقيدة، وقد استخلصها من قراءة متأنية لتاريخنا العربي الإسلامي، الذي لا يقدَّم بشكل خطي، ليس لأن مجاله بعيد عن مجال التاريخ، بل لأن قراءته تدفع جهة ضبط البنيات المتحكمة في هذا التاريخ.
إن هذه العوامل (القبيلة والغنيمة والعقيدة) حاضرة في جميع المراحل التاريخية بدرجات متفاوتة حسب مقتضيات كل مرحلة. ولأنها كذلك سنتوقف عند كل واحد منها على حدة، دون عزل العاملين الآخرين عن الأول.
أ- العقيدة:
يبدأ الجابري حديثه عن العقيدة بالقول إن بحثه ليس مخصصا للعقيدة، من حيث هي كذلك، لأن العرب المسلمين يعرفونها، بمعنى أنها مفهومة لديهم، وبالتالي فإن مجال بحثه يتجه نمو ضبط المظهر السياسي الذي حملته الدعوة المحمدية. ليست الدعوة كدعوة بل من حيث تشكيلها للمخيال الاجتماعي لأتباعها، لكن، كيف نحدد، منذ الأول، الطابع السياسي للدعوة المحمدية؟ .
يجيبنا الجابري، انطلاقًا من بعض المرويات التاريخية التي تروي أن مجيء محمد بدعوته الدينية الجديدة هو أمر إلهي سيفضي به إلى امتلاك كنوز الروم والفرس معا..يتحفظ الأستاذ الجابري على ربط الدعوة المحمدية بالمشروع السياسي؛ وهو تحفظ على المرويات التي تواترت في التاريخ العربي، والتي يجملها في لون الحديث عن الماضي، أو بصيغة الماضي، بواسطة ما حصل في الحاضر، نوع من «التجاوز» سائد في كلام العرب»2. ولكن رغم هذا التحفظ، يمكن قراءة الدعوة المحمدية كمشروع سياسي مرتبط بحياة العرب، وأصنامها، وطقوسها، وتجارتها ... فقد تم اعتبار دعوة محمد لدين جديد تعبيراً صريحاً عن الإطاحة بنظام اجتماعي وسياسي واقتصادي كان يستفيد منه علية قريش. ولأن الأمر كذلك، فإن محاربة الدعوة المحمدية مبنية على محاربة سياسته، سيتحدد هذا من خلال التأريخ الرسمي، حسب ما أوردته كتب السير والتواريخ والمرويات، باعتبارها مبنية على مرحلتين تاريخيتين، المرحلة المكية والمرحلة المدنية. فالمرحلة الأولى تتميز بخطاب النبي الأول لسكان مكة فرادى للانضمام إلى دعوته، باعتبارها دعوة تعليمية لمبادئ الإسلام، إنها دعوة روحية تهدف إلى استقطاب عدد أوفر لها. أما المرحلة الثانية فتتأسس على خطاب النبي لجماعة المؤمنين (المهاجرون والأنصار) بطريقة مغايرة تروم تأسيس الدعوة المبنية على أُمَّة مؤمنة بالعقيدة .
لم تكن الدعوة في بدايتها سهلة، بل اكتنفتها عوائق مجتمع شبه الجزيرة العربية، ليس من حيث ردود الفعل التي تم تحديدها في الأول، في علاقة النبي بجبريل كوسيط إلهي، بل في النعوت التي ألصقت بالنبي كالكهانة والسحر والجنون وما إلى ذلك. لم تكن الدعوة إعلانا لدين جديد فحسب، بل هي إعلان لنمط قيمي واجتماعي جديدين، سيتم بمقتضاه الإيمان به وبدعوته الجديدة من طرف خديجة زوجته، وعلي ابن أبي طالب (عشر سنوات)، وزيد بن حارثة ثم بعد ذلك أبي بكر ذي القوة والنفوذ.
إن الدعوة في الأول كانت سرِّية لتفادي قوة أعدائها. لا مناص من تحديد البدايات الأولى للدعوة المحمدية من القرآن ذاته، ما دام النبي هو رسول الله في أرضه. وما دام القرآن هو خطاب إلهي موجه إلى العالم عبر نبيه المختار. ستشكل الآيات والسور إجابة عن أسئلة الواقع الجديد للنبي. إنها إجابة عن أحداث ووقائع. فهو من جهة ينبئ بوجود آخر الأنبياء والدفاع عنه باعتباره إنسانًا مثل باقي البشر وليس ساحرًا أو كاهنًا، ثم تندفع الآيات نحو ترسيخ العقيدة في وحدانية الله، وضرب المشركين، وكذلك اليوم الآخر، عبر تحديده بطريقة مادية تفيد تصديقه مثلما تفيد محاسبة الظلمة والكافرين. ستتحول الدعوة المحمدية من السر إلى العلن. وهذا ما يحدده النص القرآني وبالضبط في سورة «النجم» التي ستدشن مرحلة جديدة في الدعوة والخطاب القرآني معا.. تدشين سيتم بمقتضاه إرسال ثلاث رسائل رئيسة وهي: التأكيد على وحدانية الله، والتأكيد على نبوة محمد ودعواه الصالحة، ومحاربة آلهة قريش.
سيحمل هذا التدشين خطابًا جديدًا للدين الجديد بهدف ترسيخه في الواقع المادي. وهي الدلالة التي نستشفها من القرآن الكريم ليس في التأكيدات السالف ذكرها بل في توجيه الدعوة إلى الأبناء، ما دام الآباء على ضلال. إنها دعوة تستشرف المستقبل، وهذا ما يعطي لها دلالتها السياسية. وقراءة الدعوة المحمدية لا تتم إلا من خلال النص القرآني لاعتبار بسيط هو أن هذا النص يشكّل وثيقة تاريخية، سيتم بمقتضاه ترسيخ الدعوة الدينية الجديدة عبر الرهان على الأبناء باعتبارهم المستقبل. وهو بذلك يقدم لنا سيرة الأنبياء والرسل في علاقتهم بالآباء والأبناء، مثلما يعرض لنا النص القرآني المناوئين للدعوة الجديدة (أبو لهب، وزوجته، أبو جهل، وغيره من أشراف قريش) ومهاجمتهم عبر الرد على الشرور التي ألحقوها بالنبي. وبالجملة فهو يعرض بشكل صريح ثنائية المستكبرين والمستضعفين. وصحيح أن هذه الفئة الأخيرة لا تستند لقبيلة أو عشيرة، وبالتالي فهي مستهدفة في التنكيل بها (قصة بلال وآل ياسر نموذجا) بينما الأحداث والشبان الآخرون الذين دخلوا الإسلام هم من علية القوم، لذا، فالتنكيل بهم هو تنكيل بالقبيلة التي ينتمون إليها.
لهذا لم يتم ذلك، وبعد التضييق الذي مورس على المسلمين تجاريًا، سيقوم النبي، بتهجير هؤلاء إلى الحبشة كنوع من الائتمان عليهم من قبل ملك صادق وعادل، يختتم الأستاذ الجابري هذا الفصل بسؤالين رئيسين ستتم الإجابة عنهما في الفصول الأخرى، يقول : « لماذا لم يكن خصوم الدعوة المحمدية قادرين على التخلص من صاحبها ولا على إيذاء وتعذيب أو قتل أتباعها من غير العبيد والموالي؟ ثم لماذا ربطوا محاربتهم العنيفة للدعوة بهجوم الرسول على آلهتهم وأصنامهم»؟3.
ب- القبيلة
تشكل القبيلة عاملا رئيسا في المجال السياسي العربي الإسلامي. ليس لأنها لحمة اجتماعية تفيد النصرة والنعرة فحسب، بل تتعدى ذلك في المخيال الاجتماعي، في النسب والقيم، في الرموز والعلامات. ويعتبر الجابري القبيلة ركيزة رئيسة في المجال السياسي العربي، لكونها تشكل إطارًا مرجعيًا للمجتمع. إنها تربط الدعوة المحمدية داخل هذا الإطار المرجعي بشبكة العلاقات الاجتماعية. إن النظر إلى تاريخ الدعوة المحمدية في بدايتها هو النظر إلى قوة القبيلة؛ بمعنى أن الذين دخلوا الإسلام من قبائل عربية، لا يفيد طردهم أو تعذيبهم أو قتلهم، ولو حصل ذلك لوقعت حرب أهلية. إن الفرد في المجتمع القبلي لا تحدد قيمته إلا داخل قبيلته، أو بالأحرى باسمها. لذا سنجد ? منذ الأول- صراعًا بين بني هاشم وبني أمية حول امتلاك السلطة في مكة. إنه صراع المصالح. وبالتالي، فالعلاقات القبلية لها قوة فاعلة في الظاهر وفي الباطن؛ فهي، من جهة، تتحالف مع قبائل أخرى ضد شيء ما، ومن جهة أخرى تعتبر العلاقات الداخلية أساس قوتها الداخلية. هكذا نفهم الامتحان الصعب الذي خضع له المستضعفون، أتباع النبي، من تعذيب وتنكيل لأنهم، ببساطة، ليس لهم سند قبلي يحميهم. لذا ستتم هجرتهم إلى الحبشة لتأمين وجودهم. إن هذا الهجرة الأولي تعتبر اختراقًا للطوق القبلي، وتدشينا لعهد جديد، سيتم بمقتضاه تنظيم جيش مقاتل يستطيع الدفاع عن المشروع المحمدي باعتباره شروعًا سياسيًا.
بالإضافة إلى التفاوض الذي سيقيمه النبي مع القبائل البعيدة من قريش في مكة من أجل استقطاب أكبر عدد ممكن لمواجهة أعدائه. فقد سبق هذا التفاوض تفاوض آخر مع قبيلته التي دعاها إلى الانضمام إلى دعوته مقابل كنوز الفرس والروم. وتجلى اختراق الدعوة المحمدية للقبيلة بالأساس في الهجرة إلى المدينة، ذلك أن هذه المرحلة ستعرف تحولًا في الدعوة المحمدية. ليس فقط في تأمين حاجات المهاجرين، بل في ترسيخ قيم جديدة تتمثل في المؤاخاة والتضامن..
وفي المحصلة، فإن هذه القيم الجديدة تعتبر تحولًا في المجتمع العربي الإسلامي تحول تم بمقتضاه خلق جماعة جديدة تنصهر في الأمّة ككيان جديد. وهذا لا يعني، حسب الجابري، إحلال الأمّة محل القبيلة التي لا زالت حاضرة، حيث تشكل مفصلًا حقيقيًا في الدعوة المحمدية؛ فهي من جهة، تميز بين المؤمن والمسلم، ومن جهة أخرى تؤسس وتتأسس على الحرب (الآية القرآنية التي تأمر النبي بالقتال)4، وكذلك العقد المبرم بين النبي واليهود وهو الذي خطط بناءه العام عبر تحديد شروط الاتفاق. كما يتساءل الجابري عمّا إذا كانت المسألة لا تعود فقط إلى القبيلة، بل هي بالأساس راجعة إلى الغنيمة. فالقبيلة مثلت دورًا مزدوجًا: من جهة قامت بدور المحاصر لهذه الدعوة، ومن جهة ثانية وفرت لها الحماية والمِنْعَة. فالذين دخلوا الإسلام كانوا فرادى، وهو الذي يعتبر ضربًا لعلاقة الفرد/ القبيلة. حيث إن خروج الفرد عن قبيلته يعد انتحارا. وهكذا، فالدين الجديد (الإسلام) هو نوع من إدماج الفرد في نسيج جديد، بمعنى أن العقيدة شكلت إطارًا جديدًا للأفراد الذين دخلوا الإسلام كنوع من تعويض القبيلة. وهذا ما يعرف بالأمّة كمفهوم تأسس حين الهجرة إلى المدينة.
ج- الغنيمة
كان الخوف من فقدان الغنيمة هو السبب الخفي في محاصرة النبي ودعوته، إذ لا يشكل الحج إلى مكة ? عند عرب الجاهلية- مسألة دينية فحسب، بل هو تجارة (التبادل التجاري، والهدايا المقدمة للكعبة). وقد رفض النبي جميع الإغراءات المادية المقدمة إليه من قريش قصد عدم تعرضه لتجارتهم ولقوافلهم بسوء. وهذا يعني أن الجانب الاقتصادي يشكل الأساس في الصراع بين الرسالة المحمدية وبين أهل قريش. هكذا، ستشكل «الغنيمة» بعدًا أساسيًا في بناء الجيش، حتى إنها أضحت ضرورية للجماعة الدينية الجديدة. وستتم شرعنة الغنيمة دينيًا، كما أنها ستستقطب أفرادا وجماعات للدين الجديد. ويمكن اعتبار علامات أخرى ساهمت في تلحيم وتعزيز دعوة النبي من قبيل الزواج («ذلك الفحل لا يجذع أنفه»5 كما قال أبوسفيان حين علم بزواج النبي من ابنته)، والجانب الاقتصادي المتمثل في تحرير مكة من أصنامها وعدم الاستيلاء على ممتلكات الأعداء، الشيء الذي دفعه إلى اقتراض المال من تجار قريش، وتوزيعه على الفقراء كنوع من الغنيمة وردود الفعل التي حصلت حولها...
1 محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي.
2 محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1990، ص: 61.
3 نفس المصدر، ص: 79.
4 سورة التوبة: الآية 12.
5 المصدر نفسه ، ص: 187


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.