بإلقاء يشد المستمع وبنبرة تتحكم في مخارج الحروف ألقى إدريس جطو ،أول أمس ، بوصفه رئيسا للمجلس الأعلى للحسابات عرضا أمام البرلمان عن أعمال هذه المؤسسة طبقا للفصل 148 من الدستور . كانت الصفحات التي قرأها مليئة بالأرقام والمقارنات التي تم رصدها واستنتاجها . رسم جطو صورة سياسة مالية ولوحة وضعية اقتصادية بأعين المجلس الذي يترأسه منذ غشت 2012. وكمدخل لعرضه توقف عند بعض الجوانب الأساسية لتطور المالية العمومية في 2013 ومؤشرات ظرفية 2015 ومنها على الخصوص : أن الحكومة لجأت إلى خفض مستوى الاستثمارات بموجب مرسوم يقضي بوقف تنفيذ جزء من نفقاته بمبلغ 15 مليار درهم، وأن النسبة الإجمالية للتحصيل لم تتعد نسبة 92% من توقعات قانون المالية لسنة 2013 ،وهو ما يشكل تراجعا ملحوظا مقارنة مع سنة 2012،. تفاقم المديونية العمومية خلال سنة 2013، فقد ارتفع حجم الدين العمومي للخزينة من 493.7 مليار درهم سنة 2012 إلى 554.3 مليار درهم مع نهاية السنة المالية 2013 ،أي بزيادة 60.6 مليار درهم مسجلا بذلك ارتفاعا على مستوى نسبة المديونية في الناتج الداخلي الخام، إذ بلغت 63.5%سنة 2013 مقابل 59.6%خلال السنة التي سبقتها. أما الدين العمومي الذي يدخل في نطاقه دين الخزينة والديون المضمونة من طرف الدولة ، فقد بلغ 678.85 مليار درهم بنهاية سنة 2013، مقابل 591.85 مليار درهم عن 2012.أي بارتفاع 12.8 بالمئة . ولإبراز بعض جوانب تنفيذ ميزانية 2015 وتأثرها ،في ما يخص توازنها، ببعض الانعكاسات الإيجابية للظرفية الاقتصادية الدولية . أشار جطو إلى معطيين اثنين : الأول: انخفاض الفاتورة الطاقية، إثر التراجع المزدوج للأسعار والكميات المستوردة، بقيمة 26.11 مليار درهم، أي بنسبة 28.1%. والثاني :انخفاض واردات المنتجات الغذائية بقيمة 6 مليار درهم، أي بنسبة 14.3 بالمئة. في ما يخص موارد الخزينة، استعرض رئيس المجلس الأعلى للحسابات أبرز مجالات تراجعها . فمداخيلها غير الجبائية خلال سنة 2015 إلى 6.10 مليار درهم ، وإن كان ذلك تأثر بتراجع مساعدات دول مجلس التعاون الخليجي فإن هناك بالأساس انخفاض المداخيل المتأتية من المؤسسات والمنشآت العمومية، كالمجمع الشريف للفوسفاط (ناقص 2 مليار درهم) والوكالة الوطنية للمحافظة العقارية والمسح العقاري والخرائطية )ناقص 500 مليون درهم). وكخلاصة لهذا المستوى المتعلق بالخزينة العامة ، قدم إدريس جطو توصية تتمثل في «التزام سياسة حذرة إزاء تواصل المنحى التصاعدي للدين العمومي بجميع مكوناته، و حث الحكومة على بذل مزيد من الجهود قصد التحكم في ارتفاعه. خصوصا وأن المجلس الأعلى للحسابات يسجل عدة اختلالات على مستوى أداءات الخزينة ومؤشرات المالية العمومية» واقتصر في إشارته لهذه الاختلالات إلى عنصرين أساسين هما : أولا ، تراكم متأخرات الأداء ، «فإذا اقتصرنا على متأخرات الضريبة على القيمة المضافة المستحقة لفائدة المؤسسات والمقاولات العمومية دون القطاع الخاص، نلاحظ أنها انتقلت من 8.7 مليار درهم سنة 2010 إلى 25.18مليار درهم عند نهاية 2015 ،أي ما يناهز 48 %من مداخيل ميزانية الدولة من الضريبة على القيمة المضافة. وتعتبر هذه المبالغ ديونا على الدولة إزاء أكبر المؤسسات التابعة للقطاع العام، والتي تلعب دورا مهما في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومن شأن عدم معالجة هذه الديون أن يحد من قدرة المؤسسات المعنية على الوفاء بالتزاماتها المالية كما أنها تشكل إحدى المخاطر التي قد تهدد المالية العمومية». ثانيا ، وقف جزء من الإمدادات التي تمنحها الدولة للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، والذي لم يتم تحويله لفائدتها بمبلغ إجمالي وصل إلى 8.9 مليار درهم عند نهاية سنة 2015 .ونظرا لحجم هذه المتأخرات، فقد انعكست بصفة سلبية على هذه الهيئات التي أصبحت عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها إزاء الموردين والمتعاقدين معها. واعتبارا لما قد يترتب عن هذه الوضعية من آثار وخيمة، فإن المجلس ، يضيف جطو ، يدعو إلى معالجة هذه الديون في آجال معقولة بهدف استقرار الوضعية المالية للمؤسسات العمومية المعنية. وإذا كان هامش التدخل في هذا المجال قد يبدو ضيقا نظرا للتأثير المباشر والمزدوج على نسبة عجز الميزانية وحجم ديون الخزينة، فإن وفاء الدولة بالتزاماتها من شأنه ضخ المزيد من السيولة في النسيج الإنتاجي الوطني، وتمكين العديد من المقاولات الصغرى والمتوسطة من مستحقاتها، مما سيساعدها على مواجهة إكراهات التمويل التي تعتبر إحدى أهم العراقيل التي تواجهها. ومن مجالات الأرقام المتعلقة بالخزينة والعجز والدين العمومي انتقل رئيس المجلس الأعلى للحسابات إلى مستوى ذي ارتباط وثيق بالمجال الاجتماعي ويهم موضوع التقاعد وانظمته وأوضاعه . وهو موضوع مطروح على طاولة الحوار الاجتماعي وقدمت النقابات مقترحات حلول للحكومة لكن هذه الأخيرة تماطل في معالجة وضعيته . بل إن مؤسسة دستورية كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أنجز دراسة تضمنت مقترحات مهمة ووجدت آذان الحكومة صماء ورأسها في الرمال. قال جطو في عرضه أمام البرلمان أن عدم توازن أنظمة التقاعد يشكل مخاطر كبيرة بالنسبة للمالية العمومية، كما يمثل تهديدا لضمان ديمومة هذه الأنظمة وتمكنها من الوفاء بالتزاماتها المستقبلية تجاه المتقاعدين الحاليين والمستقبليين. وقد أفضى التشخيص الذي قام به المجلس سنة 2013 إلى ضرورة إيجاد حلول شمولية، والتعجيل بمباشرة مسلسل من الإصلاحات الآنية والعميقة، يشمل جميع أنظمة التقاعد المتواجدة، ويمتد على المدى القصير والمتوسط والبعيد. وأن عدم تفعيل توصيات الهيئة الوطنية لإصلاح منظومة التقاعد، أبريل 2007 ،قد فوت على الصندوق إمكانيات تدعيم احتياطياته، وأدى إلى تدهور وضعيته بشكل ملحوظ، حيث صارت المساهمات غير كافية لتغطية الالتزامات ، إذ تم تسجيل عجز بمبلغ 936 مليون درهم سنة 2014 ،و 2.8 مليار درهم سنة 2015 ،و 6.8 مليار سنة 2016 ( أي 10.6 مليار خلال ثلاث سنوات). ووجه جطو انتقادات لمشاريع القوانين، التي اعتمدتها الحكومة، وقدمتها للبرلمان . حيث اعتبرها ،وإن كانت ضرورية، تبقى غير كافية نظرا لعدة اعتبارات، من ضمنها ما يلي: - لن يشمل الإصلاح المقياسي المقترح مجموع أنظمة التقاعد بل يقتصر على الشق المدني للصندوق المغربي للتقاعد، وبالتالي لا يساهم في إحداث تقارب بين أنظمة التقاعد حتى داخل القطاع العام. فعلى سبيل المثال، يحدد المشروع سن الإحالة على التقاعد في 63 سنة بالنسبة للصندوق المغربي للتقاعد، في حين تم الإبقاء على حد 60 سنة بالنسبة للنظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد؛ لن يمكن الإصلاح المقياسي سوى من تقليص العجز الحالي، إذ ستظل المساهمات غير كافية لتغطية الالتزامات وسداد رواتب التقاعد، وسيظل العجز قائما، بل سيأخذ منحى تصاعديا خلال السنوات المقبلة، حيث سينخفض من 6.8 مليار درهم سنة 2016 إلى 3.2 مليار درهم سنة 2017 مع بداية تنزيل الإصلاح المقترح، وسيتجه إلى الارتفاع سنة 2020 ،ليصل إلى 4.1 مليار درهم، ثم يتواصل هذا المنحى التصاعدي إلى حدود استنزاف كامل الاحتياطات في أفق 2028. وأضاف جطو أن مشاريع الحكومة لم تعالج المقتضيات الخاصة بالتقاعد قبل السن القانوني للإحالة على المعاش التي تخول لكل موظف أو عون قضى 30 سنة من الخدمة الفعلية حق الحصول على معاش التقاعد وبدون أي شروط أو قيود. فإذا كان المعدل السنوي للإحالة على التقاعد قبل السن القانونية لم يتجاوز 1250 حالة خلال التسع سنوات الماضية ( 2006 – 2014) فإنه قد ارتفع بشكل مفاجئ إلى أزيد من 7500 حالة خلال سنة 2015( 85 %منهم ينتمون إلى قطاع التعليم(. من أبرز ما تطرإليه جطو وهو يلقي عرضه ،أول أمس، أمام البرلمان بغرفتيه : تدبير المنازعات القضائية للدولة، حيث أكد أهمية المبالغ المالية المعنية بهذه المنازعات، وأشار إلى تقرير سابق قدم أهم خلاصات المهمة الرقابية، التي َسجلت غياب استراتيجية لتدبير منازعات الدولة على مستوياتها الأساسية ، وهي الوقاية من المنازعات، واعتماد الحلول البديلة لفضها وتدبيرها. كما لاحظ المجلس عدم اللجوء إلى المسطرة التصالحية إلا في بعض الحالات الاستثنائية . يعاني قطاع المؤسسات والمقاولات العمومية من مديونية مرتفعة، حيث بلغ حجمها سنة 2015 ما مجموعه 245.8مليار درهم، وهو ما يمثل 25 %من الناتج الداخلي الخام، إضافة إلى ارتفاع هذه المديونية بوتيرة متزايدة، إذ بلغت نسبة ارتفاعها 64.4 %فيما بين 2010 و 2015 . أن توزيع الموظفين على الصعيد الوطني لا يستجيب إلى منطق اقتصادي أو ديموغرافي. مع ظاهرة تركيز الموظفين في بعض الجهات (الرباط والجنوب( على حساب أخرى (طنجة - تطوان ودكالة – عبدة). كما لوحظ أيضا ضعف في ترشيد استعمال أعداد الموظفين ببعض القطاعات كالتعليم مثال ( 2037 موظفا في 16 أكاديمية جهوية، و 7686موظفا في 63 نيابة، و2364موظفا في وضعية إلحاق أو استيداع، و 210 موظفين في وضعية تفرغ نقابي ). هذه بعض جوانب الصورة التي رسمها المجلس الأعلى للحسابات عن مالية واقتصاد مرحلة هي جزء من ولاية الحكومة الحالية . والأرقام تؤكد تراجعات واختلالات وتفاقم أوضاع أنتجتها حكومة عبد الإله بنكيران . لا يمكن تدبير الشأن العام بضجيج الكلام ، وبدغدغة العواطف . وبالنكت وحكايات الأنا ، ذلك ما ميز رئيس الحكومة. فتدبير الشأن العام سياسات عمومية ذات مصداقية واستراتيجيات هادفة وذلك ما فشلت فيه الحكومة الحالية.