من الواضح أن الفيلسوفة الألمانية الأمريكية حنة آرندت تعتبر من بين أهم الفلاسفة المعاصرين الذين انشغلوا بقضايا الحداثة السياسية، ووضع الإنسان المعاصر، وأزمة الثقافة، والفضاء العمومي، والفاعلية السياسية، وامكانات الثورة، والعلاقة مع التراث ومطلب الحرية. وقد اثارت مواقفها وأفكارها إزاء هذه القضايا اشكالات كبرى احتلت مكانة مرموقة ضمن دائرة النقاشات الفلسفية المعاصرة.ومن بين أهم كتبها نجد: الحب والقديس أغسطين/أسس التوتاليتارية/راحيل فارنهاجن: سيرة حياة امرأة يهودية من القرن التاسع عشر/مقالات في الفهم/الوضع البشري/بين الماضي والمستقبل/الرجال في العصور المظلمة/ما السياسة؟/من الكذب إلى العنف/حياة الفكر(حياة العقل)/في الثورة/ في العنف/أزمة الثقافة... يعرف الفكر العربي اقتبالا هزيلا وشحيحا لفكر فيلسوفة الثورة، رغم حاجته لنظرياتها ومواقفها الهامة في السياسة، والحرية، والفاعلية البشرية، والفضاء العمومي، والاستبداد، والعنف... والتي بإمكانها أن تضيء بعض المناطق المظلمة والمعتمة من كينونتنا، باستثناء بعض الدراسات والترجمات الجادة (...). ونعرض في هذا الركن قلما خاض في دروب فكر وفلسفة حنة آرندت، ودل عن كفاءة وحنكة على مستوى البحث والانجاز، الأمر يتعلق بالباحثة الجزائرية الدكتورة مليكة بن دودة، صاحبة كتاب «فلسفة السياسة عند حنة آرندت» الصادر حديثا عن منشورات الاختلاف وضفاف ودار الأمان. تسعى مليكة بن دودة في هذا المصنف إلى تفكيك النظيمة الفكرية المركبة المحيطة بفكر حنة أرندت السياسي والفلسفي، ولعل ما أصابت فيه بقدر معتبر هو حرصها على بيان أن عرض الفكر السياسي المركب لآرندت يفترض بالضرورة الاشتغال على ما أسماه الدكتور ناجي العونلي في المقدمة التي خصها للكتاب بالتشكلات المركبة للشخص المفهومي، بمعنى تفكيك الطابع المركب لفكر آرندت الذي يضم نسيجا معقدا من الأفلاطونية والآرسطية والسبينوزية والكانطية والهيغلية والماركسية دون ان نغفل طبعا آثر فيلسوف الغابة السوداء ضمن هذه التركيبة التي أسماها ناجي العونلي بالشميلة. تحاول مؤلفة الكتاب الاجابة عن الاشكال التالي: هل فكر أرندت يحتوي على نظرية في السياسة؟ أم أنه يضع قواعد لفلسفة سياسية جديدة؟ تزاول حنة آرندت في منجزها الفكري السياسي الفلسفي القطع مع مشروع الميتافيزيقا الغربية، من خلال نقد التراث الفلسفي، ولا سيما في علاقته بالسياسة، من خلال توضيح الحدود اللاسياسية للفلسفة، بعيدا عن تلك الفلسفات السياسية التي شوهت المعنى الحقيقي للسياسة، بيد أن آرندت تحاول أن تقودنا إلى معنى السياسة الحقيقي، المتمثل في الحرية، وإلى مكانها الحقيقي الذي هو العالم. إن العلاقة القائمة بين الحرية والسياسة حسب آرندت ليست علاقة وصفية فقط، بل إن المجال الذي تتمظهر فيه كل أشكال الحرية وتمتحن فيه كل مبادئها هو السياسة بما هي فعل.»أصل السياسة هو الحرية» هكذا جاء تعريف آرندت للسياسة، وهو تعريف يجد أسسه في التصور اليوناني للسياسة، الذي ارتبط بدوره بتشكل المدينة اليونانية «البوليس». وهذا ما توضحه أرندت في قولها:»أن تكون حرا وأن تسكن المدينة «polis» كانا يمثلان تقريبا الشيء نفسه(...) لم يكن ممكنا أن يكون من يسكن المدينة، عبدا يتحمل قيود شخص آخر ولا عاملا يدويا يخضع لضرورة كسب قوت يومه.» ومن ثمة فإن مفهوم السياسة ارتبط ظهوره بتنظيم المدينة. وفي هذا تناقض جلي بين ما أسس له اليونان سياسيا وما أسست له الفلسفة السياسية التي بدأت مع أفلاطون،هذه الأخيرة التي صورت لنا الحرية في شكل ثعلب يظهر في السياسة عندما يختفي في الفلسفة، بمعنى آخر إن الفلسفة السياسية جعلت من السياسة مجالا تنتهي في الحرية الفلسفية. وبالتالي فإن آرندت تسعى إلى إخراج مفهوم الحرية من مجال التقليد الفلسفي، ومن الفلسفة السياسية التي تعتبر بمثابة عائق أمام تحقق حرية الفعل السياسي. وهذا ما عبرت عنه مليكة بن دودة في عبارتها:»إن المفهوم الفلسفي للحرية يعتبر في جوهره مفهوما لا سياسيا». إن مفهوم الحرية الذي تتخذ منه حنة أرندت جوهرا للفعل السياسي. يرتبط بمفهومين آخرين تعتبرهما ضروريين لإظهار الاختلاف القائم بين مفهوم الحرية باعتبارها هدف السياسة، وبين المفاهيم الأخرى التي ترتبط بمفهوم السياسة خاصة حرية التعبير وحرية الإرادة. وهذان المفهومان هما: البراعة: وهو مفهوم استعارته آرندت من ميكيافيل، هذا الأخير الذي يشبه السياسة بالفنون على اختلافها. فحرية الفنان لا تتجسد إلا عندما يعرض أعماله الفنية أمام الجمهور، الأمر الذي يتطلب فضاء للعرض، فضاء حرا عموميا يعرض فيه أعماله. كما أن السياسي بحاجة لفضاء مماثل حتى يتمكن من ممارسة السياسة كفعل حر يقتضي البراعة والمهارة. الشجاعة: إن اقتحام المجال العام يتطلب من المرء شجاعة، لأن الخروج إلى الميدان العام يعني أن الفرد لم يعد مهتما بحياته الشخصية، وأنه يعطي لمصلحة العالم الأولوية أمام مصلحة ذاته الصغيرة. بعد انتقادها للفلسفة السياسية اليونانية التي تؤسس مفهوم الحرية على مفهوم الإرادة الحرة، تنتقل آرندت إلى انتقاد الفلسفة السياسية الحديثة، التي ربطت مفهوم الحرية بالسيادة، وعلى رأسها فلسفة جون جاك روسو، الذي اعتبرت موقفه من الحرية الفردية والسياسة عموما يحمل تناقضا صارخا تظهره عبارته التالية:»كل من يرفض طاعة الارادة الجماعية سيكون مجبرا على ذلك من خلال كل الجسد(المجتمع): وهذا لا يعني شيئا آخر غير أننا نفرض عليه أن يكون حرا، لأن هذا هو الشرط (...) الذي يضمن براعة ولعبة آلة السياسة.» إن القول «السيادة سيادة الشعب» يتناقض بشكل جلي وكامل مع الحرية، بيد أن مفهوم الشعب لا يعبر أبدا عن كل شرائح المجتمع، وإنما يمثل مجموعة واحدة من الشعب اكتسحت الساحة السياسية وشكلت أغلبية أصبحت تمثل ما تسميه آرندت «اضطهاد الإرادة الجماعية». ومن ثمة إذا أراد الشعب أن يبقى حرا، عليه أن يتنازل عن السيادة في سبيل الحرية الفردية. وبخصوص علاقة الدين بالسياسة ، تؤكد آرندت مرة أخرى تأثرها بميكيافيل الذي دعى إلى ابعاد الدين عن السياسة، فالدين حسبه لا يمكن أن يخلق مواطنين صالحين مادام يؤمن بأن العالم زائل وفان، وبالتالي فالشخص الذي يؤمن بفكرة كهذه لا يمكنه أن يحب العالم ويحافظ عليه، يقول ميكيافيل: «لا تدخلوا هؤلاء الناس إلى ميدان السياسة. إنهم لا يهتمون كفاية بالعالم، أناس يعتقدون أن العالم فان وأن لهم حياة أخرى، هم أناس خطيرون، نريد حقيقة الاستقرار والنظام لهذا العالم.» تتغيى أرندت من خلال اتخادها ميكيافيل كسند بخصوص موقفها من علاقة الدين بالسياسة تبيان أن وجود أفراد طيبين متدينين لا يكفي لتكوين مواطنين مناسبين، بل إن ذلك حسبها يعد بمثابة عائق يعرقل مسار المواطنة ويعرقل التفكير في المسؤولية السياسة، إذ ليس من المهم أن يكون المواطن ذو فضائل ويخاف الله، بقدر ما يهم أن يكون سلوكه يناسب العالم ويحافظ عليه. فالعادات والأخلاق ليست شرطا يضمن المشاركة المسئولة. إن ما يضمن المواطنة الصالحة شيء واحد هو القدرة على التفكير.وفي هذا أيضا تناص واضح مع الأطروحة التي يتأسس عليها كتاب كانط «الدين في حدود مجرد العقل» ،إذ ينطلق كانط في هذا الكتاب الماتع من فكرة جوهرية مفادها أن المعطى الذي يجعل الأخلاق في غير حاجة إلى الدين، هو كونها مؤسسة على مفهوم الإنسان وبالتالي مفهوم العقل،هذا الاخير الذي يجعلها مكتفية بذاتها.فالإنسان لا يجهل الكيفية التي من خلالها عليه القيام بالفعل. لكنه يجهل لأجل ماذا عليه أن يمارس هكذا فعل، حيث يتملكه نوع من الشعور المستمر بحاجته إلى غاية معينة، تمكنه من إيجاد نوع من الانسجام بين ما يجب عليه أن يفعل وبين ما يمكن أن ينجر عن فعله. وبما أن الأخلاق لا توفر للإنسان سوى الإمكانية الأولى، فإنه يجد نفسه مضطرا إلى البحث عن فكرة توفر له الإمكانية الثانية. أي تلك الفكرة التي تمكنه من إيجاد الغاية من وراء فعله، وهذه غالبا ما يقدمها له الدين.لكن كانط يشترط أن تكون هذه الفكرة قابلة للتبرير من طرف العقل، أي أن تكون غاية حرة غير خاضعة لأي نوع من الإكراه والمصادرة. وفي هذا يقول كانط: « إن الأخلاق إنما تقود على نحو لا بد منه إلى الدين، وعبر ذلك هي تتوسع إلى حد مشرع خلقي... في إرادته تكمن تلك الغاية النهائية (لخلق العالم).» ومن أجل ذلك فليس الدين هو مصدر الأخلاق كما يتوهم غالبية الناس، بل العكس هو الصحيح، وهذا ما عبر عنه فتحي المسكيني في مقدمة الترجمة التي خصها لكتاب كانط في عبارة رشيقة ودالة : « لا يصبح الإنسان متخلقا لأنه متدين،بل الأمر بعين الضد، إنه لا يصبح متدينا إلا لأنه متخلق، أي قادر على إعطاء قيمة أو غاية نهائية لحريته.» وبالتالي فوجود شيء يقدسه الإنسان معطى ضروري غيابه يفرغ الفعل الإنساني من المعنى، بل يجعله تائها في صحراء شاسعة دون وجهة. لكن إحترامنا لهذا الشيء المقدس يجب أن يكون احتراما حرا خاليا من الإكراه والقهر و المصادرة التي تفرضها عليه الشعائر النظامية المنغلقة، أي ألا يتنافى احترامه مع قوانين العقل المحض. ذلك أن هذا الاحترام نابع من حاجة خلقية في طبيعتها وليس من خوف كسول من المجهول.ومن تمة فإن الدولة لا تحتاج إلى الدين حتى تفرض سلطتها على المواطنين، لأن طاعة السلطة أمر أخلاقي بالدرجة الأولى وتغليفها بلباس ديني لن يضيف إليها أي شيء. فالدين لا يحتاج إلى قطيع يمارس الشعائر دون فهم لمعناها، كما لا يحتاج لقطيع يتملق الإله بغية الحصول على ما عبر عنه الروائي الأنيق برهان شاوي في أحد مقاطع روايته ا «متاهة إبليس» بتبن الجنة. بل ولا يحتاج إلى أناس يحولون النعيم الأخروي إلى جهاز ابتزاز أخلاقي للفانين على الأرض. وإنما يحتاج إلى أناس أحرار يؤمنون بأنفسهم وبما تمليه عليهم عقولهم. هكذا لن يعود الدين يفرض على أي أحد أن يصير نفسه عبدا « إلا الذي يريد وطالما هو يريد كذلك». بما أن مفهوم التفكير يتخذ موقعا أساسيا ضمن النظرية السياسية لفيلسوفة الثورة، فإن امكانية إخراج نظريتها في السياسة من دائرة الفلسفة يبدو مستحيلا ، رغم امتناعها في عديد من المناسبات عن قبول وضع اسمها ضمن حلقة الفلاسفة. وتهدف أرندت من خلال تركيزها على مفهوم التفكير في نظريتها السياسية على العثور على الرابط الذي يمكن أن يجمع الحياة التأملية مع الحياة العملية، بمعنى إيجاد الفكر الذي لا يسمح لنا بأن نفهم الوقائع فحسب، وإنما الفكر الذي يسمح لنا أيضا في الوقت نفسه بامتلاك الأدوات للتأثير عليه وتغييره، بمعنى أن أرندت تتعقب الفحص عن الملكات العقلية التي تسمح للفكر بأن يصبح بالفعل سياسيا يظهر في العالم كنتيجة منبجسة عن فعل التفكير. هذه الحركة التي تنجر عن فعل التفكير هي ما يجعل منه فعلا حيويا وشرطا من شروط الحياة وأساسا من أسس العالم. ومن ثمة يمكننا أن نخلص مع آرندت الى أن الفكر امتداد للعالم وأن العالم امتداد للفكر.