يفاجئنا من حين لآخر بعض المخرجين المغاربة الجدد بأفلامهم الروائية أو الوثائقية سواء من حيث الشكل أو المضمون، وخاصة أولئك الذين يعيشون ويشتغلون بالمهجر، أو ما يصطلح عنهم بمخرجي «الدياسبورا» (الشتات) كي لا نضع توصيفا آخر غير موضوعي لهؤلاء، ومن بين هؤلاء المخرجين يأتينا المخرج المغربي البلجيكي جواد غالب بفيلمه «المتمردة»، مكرسا لهذا الشتات. احتفاء المغرب بالخارج يربك الداخل يبدو من مقدمة (ما قبل جينيريك البداية) فيلم «المتمردة» للمخرج المغربي البلجيكي جواد غالب أنها مفتعلة ولها دلالات، ومقحمة بالنظر إلى علاقتها بما سيأتي، فهي تولد الإحساس بأنها وضعت من أجل الحصول على الدعم من المغرب، لأن علاقة الشخصيات بالأماكن المغربية ستنقطع مباشرة بعدها. ستدور كل مشاهد الفيلم في بلجيكا، وهو قَطْعٌ غير مبرر فنيا، فلم تعد للشخصية الرئيسية ليلى (صوفيا منوشة) صلة برفيقها المغربي، ولا بالتزاماتها السياسية التي كانت منخرطة فيها من قبل ضدّ ما دأب عليه المنفيون وطَالِبُو اللجوء السياسي الذين لم تنقطع أواصرهم عن بلدهم الأصلي، بالرغم من انخراطهم في قضايا إنسانية أو أممية أكبر وأعمّ، إلاّ أنه لا يمكن أن ننكر على الفيلم اهتمامه بالجانب الحقوقي للمهاجرين واعتماده على تنويع الوجوه التي تحيل على أن القهر واحد في المجتمع الرأسمالي، وهو لا يفرق بين عربي وأفريقي وروسي في ظل استشراء العولمة المتوحشة. إذا اعتبرنا أن من مميزات السينما المغربية تنوّعها، وغنى روافدها، وانفتاح مخرجيها، فإن موضوع الفيلم خارج عن السياقات المغربية الداخلية، ولكنه جزء من قضايا مغاربة في المهجر، ففيه دعاية للفلاحة البلجيكية ولأزمة تسويق منتوجاتها، وخاصة التفاح الذي يدخل على خط المنافسة مع نظيره المغربي من حيث الجودة والمذاق داخل السوق الأوروبية. وهنا نلفت إلى قضية دعم مثل هذه الأفلام التي تأخذ مال الدولة المغربية لتسخره ضدها، فهل بالفعل نحن أمام لجنة تقرأ المواضيع، وتحكمها قِيمٌ معينة وأيديولوجيا مقننة، أم أن الأمر مجرّد شكليات ولا يعدو إلّا أن يكون أمرا متعمدا؟ من الممكن أن تنتصر السينما للتحرر وتقف في وجه الظلم والاستغلال والاستبداد، ولنا في دروس أفلام الأخوين البلجيكيين داردين أحسن مثال، لأنها تكشف البشاعة المرعبة لسيادة قيم الفردانية والأنانية والانعزال، وخاصة في فيلمي «الطفل» (2005) و«يومان، وليلة» (2014). صناعة الوهم قد يشفع للفيلم تنوع شخوصه (أفريقية، روسية، مغربية)، وقيمة موضوعه الذي يركز على معاناة عمال الفلاحة الموسميين الذين لا يحترمهم أرباب العمل المتحايلون على الدولة، والذين لا يؤدّون واجبات الساعات الإضافية، ولا يحسنون ظروف العمل، وهو ما أثار حفيظة العمال الذين قرروا مواجهتهم، مما حَوَّل مطالبهم إلى ملف حقوقي التف حوله العديد من المناضلين ودعمته الصحافة البلجيكية، فانتصرت ليلى ورفيقاتها اللائي كن يواجهن الطرد التعسفي. وهكذا تنتصر العدالة في أوروبا، وتخفق في غيرها من الدول، فأفريقيا ترفع رايات الرحيل لأبنائها، وأوروبا الشرقية (الاشتراكية المنهارة) غير قادرة على ضمان أبسط مقومات العمل والكرامة لأبنائها، رغم أنها جزء لا يتجزأ من أوروبا. وتلك رسالة الفيلم المضمرة في ثنايا دفاعه عن حقوق بروليتاريا الحقول الأوروبية. تتحدث ليلى الثائرة بفرنسية باريسية طليقة وخالية كليا من اللكنة المغربية أو البلجيكية، وهو أمر يتنافى ومستوى وعي الشخصية التي يجب أن تقنع المتفرج، وأن تنسجم مع روح القصة الفيلمية، مما يؤكد القطيعة التامة بين شخوص المقدمة المغاربة (العون البوليسي مالك أخميس والرفيق المناضل عمر لطفي الذي يشرب البيرة بالتزامن مع الآذان المنبعث من المسجد الذي يقع في عمق الإطار، وهي لقطة مجانية)، أما بقية الشخوص الآخرين فيحتفظون ببعض أصولهم الثقافية وخاصة الأوروبية والأفريقية. فإذا كانت ليلى العنيدة، الملحاحة، الجميلة، ذات الحس النِّسْوَانِي الفائر، والتي استطاعت إقناع وجذب الأنظار إليها وكذلك لدينامكيتها، فإن اندفاعها لم يخدم إلاّ وجهة نظر من دعمها، وهم بلجيكيون طبعا، ومن هنا فالدائرة تدور حول نفسها: الديمقراطية بدأت من هنا وستظل هنا، ولا مجال لتقديم نموذج يُضَادُّهَا أو ينافسها. فيلم خارج عن السياقات المغربية الداخلية ينبني التصور السينمائي للفيلم على رؤية بصرية واقعية تتخذ طابعا وثائقيا لا ينفصل عما قدمه المخرج المغربي البلجيكي جواد غالب في أفلامه الوثائقية السابقة «الإليخيدو: قانون الربح» (2007)، و«معذبو البحر» (2008)، و«نشيد السلاحف: ثورة مغربية» (2013)، وما انتقده من كليشيهات في فيلمه الروائي الأول «7، زنقة الحمق» (2015). لقد أفلح المخرج جواد غالب إلى حدّ ما في وضع الأصبع على بعض مكامن الجرح والألم المنتشر في المجتمع المغربي، وواكب حراكه الربيعي، واستطاع النفاذ إلى ذهنية المهاجر المغاربي المكونة من تركيبات متنوعة، إلاّ أنه ظل يلعب في منطقة معتمة وملتبسة، فغالبا ما لم يستطع التخلص من تلك الحمولات الأيديولوجية الاستشراقية والاستفهامية التي تكرس المفارقة الساذجة واتساع رقعة الهوة بين الشرق والغرب. المخرج لا يتهاون في تمرير أفكاره وصوره ضمن منظور مقنع يستثمر مكونات ثقافية انتقائية قد تعتمد الدين أو القمع أو الموسيقى، كما هو الحال في فيلم «المتمردة» الذي اختار خلفية موسيقية تنبني على المزج بين الروك والهيب هوب الذي قامت به المجموعة المغربية «هيبا هيبا سبيريت»، مع العلم أن الخلفية المُؤَطِّرَة لهذا النمط من الأنغام نابعة من الأوساط المهمشة التي انتفضت في وجه العنصرية وما سواها من أشكال التمييز. ألغاز محيرة الظاهر أن بعض المخرجين المغاربة الجدد، خاصة أولئك الذين يعيشون ويشتغلون في المهجر، أو ما يصطلح عنهم بمخرجي «الدياسبورا»، يعيش بعضهم كما أسلفنا شرخا ثقافيا واضحا يعكسه خطابه الفيلمي، أو يسعى إلى سلك كل الطرق التي من شأنها أن تقوده إلى إنجاز مشروعه السينمائي، متناسيا أن الفيلم الذي لا يستفيد من صاحبه بإمكانيات التثاقف الجمة التي تتيحها له ثقافته الأصلية، وكذلك ثقافته الثانية على مستوى إغناء تجربته وتعميق رؤيته للحياة والوجود، وبالتالي لفنه وشخصيته من جهة، وتقاسمه لها مع الآخرين من جهة ثانية، يظل فيلمه مجرّد صور تملأ دقائقها زمن العرض ليس إلاّ. هذا القول يحيلنا إلى قضية جديدة قديمة في السياق المغاربي عامة والمغربي خصوصا، فعدة مخرجين يحملون جنسيات مزدوجة، وبعضهم يقيم خارج بلده الأصلي، ولا يعود إليه إلاّ للتصوير أو وضع ملف الاستفادة من الدعم، وحين يتحقق له ما أراد، فغالبا ما يزدري ثقافته المحلية أو يراها بنوع من المقارنة اللامتكافئة في ما بينها وبين ما صدمه في بلده الثاني.