يقول التقديم بأن الشريط يروي حكاية عودة الفتاة رفقة أبيها إلى المغرب، إلى مدينة أبي الجعد. كانا يعيشان من قبل في الولاياتالمتحدةالأمريكية. الأب يعيش حالة مرض مكتئبة وللخلاص عليه ملاقاة بلده الأصلي. إلا أن الرواية الفيلمية التي تُشاهَدُ غير ذلك. بمعنى أن العودة هي دخول في طقس فيلمي تجريبي غير كلاسيكي بتاتا، يزدوج بلقاء الذكرى والحلم والتقاليد وعيش ناس المدينة الصغيرة البسطاء وغير البسطاء فيما يشبه جذبة كبرى حول الطفولة البعيدة. والعودة في مستوى ثان نكوص سينمائي بقدر عشرين سنة، زمن التكسير السردي والدمج الزمني والتداخل المكاني. فيكون هذا الشريط نخبويا، صعبا، وحيدا، قاسي التتبع رغم بعض قيمة سينمائية تكمن في طياته لكن في جانبها التشكيلي الفني الذي لا يجد له مكانا في العرض الجماهيري الواسع.. وبالتالي الكتابة عنه ومُساءلَتَهُ تنطلق من مناقشته بعيدا عن مألوف الكتابة العادية. 1 أبي الجعد لا غرابة أن يكون الشريط كذلك، فهذه المدينة فضاء طقوسي بامتياز، مدينة بوعبيد الشرقي الولي الصالح الذي ينظم حوله مرة كل سنة، أحد أكبر المواسم الشعبية المغربية برعاية متميزة واعتناء كبير من لدن سلالة الولي الصالح لشرقاوة، والتي ينتمي إليها المخرج حكيم بلعباس. وبالتالي، فالجزء الأصلي المؤسس لثقافة المخرج وتربيته نابع منها ومن المدينة وهي ما نشاهد في جل مشاهد الشريط. العنصر الأتوبيوغرافي هنا حاضر بالدلالة وبالضرورة. وهكذا ينقل المخرج مراتع صباه متخيرا في لقطاته فضاءات ذات هندسة مميزة: الأقواس المشكلة للأبواب والسقوف الخارجية، الممرات الضيقة بطواراتها وجدرانها العتيقة، الصباغات المختلفة الألوان والكثافة المتحاورة مع البياض الجيري، المنازل الواطئة، المتلاصقة الحاضنة للأسرار مثل أعشاش قديمة. وفي إطار هذا التشكل الهندسي الفريد ينقل المخرج، في المقام الثاني، ما يموج داخلا وما اختزنته ذاكرته السابقة على سفره نحو أمريكا، أي طفولته ومراهقته وبعض من شبابه. لكن تظل الطفولة هي الزمن الأخير. فعودة البطل المريض المهدد بالموت عودة للقاء الزمن القديم على الطريقة البروستية، حيث الشيء العادي لما تقع عليه العين (الكاميرا) يكون ذريعة أو علامة لحدث قديم أو واقعة تتعذر على النسيان. وهكذا يحيل مكان ما على زمن ما ومن ثم على واقعة: عرس، ختان، رحلة، موت، جنازة، كفن، قفطان، زليج، صلاة، تعويذة، دعاء، حناء، تبوريدة... كل ما يمكن أن يحصل داخل مدينة الولي الطاغي الحضور.. 2 التكسير المنطقي أي سرد أو طريقة سرد على الأصح تستطيع نقل كل هذا الزخم الهندسي من جهة، والطقوسي من جهة ثانية؟ كيف يمكن إعادة إنتاج إيجابية ومقبولة لما كان سابقا موشوما ويتم استحضاره الآن، بعد العودة، وبعد العيش بعيدا في طقس غربي لا علاقة له به إطلاقا؟ ليس الخيار سهلا. لقد جرب الخطيبي ذلك قبل عشرات السنين لما كتب «الذاكرة الموشومة» فكتب الكتاب وأعلى الكتابة الخالصة بدل الكتابة الخاضعة الثانوية المكتفية بنسخ حكاية أولي. حكيم بلعباس سيأتي نفس السبيل. لن يصور عودة رجل من خلال سلسلة من الفلاش باك الذي يوازي حكيا بأحداث عادية. الشريط شيء آخر، هو سلسلة من الوقائع السردية الملازمة لتنقل ولقاءات.. الرجل وبنته، يلتقي الأب وروح الأم المتوفية والأخت والناس في الخارج، وعند كل لقاء أو دردشة تنفلت الصور كذكريات سابقة أو تصورات ذهنية حالية مرافقة. يعود الأب ليحيا حياته السابقة قبل لحظة الموت المقدرة لامحالة وتعود البنت المتأمركة قسرا الجاهلة للغة، لتتعلم وتلتقي تاريخها الأول المفقود المجهول وتصير مرادفة للمتفرج القابع في القاعة الذي يكتشف رفقتها عالم المخرج المنسوج من تلك الأخيلة المنسابة. إن الفيلم قطع من سرد عام (في معناه العام كرواية) يلعب فيه المرئي الدور الأول. لنقل سردا مرئيا. فالمشاهد طويلة نسبيا تأخذ كل الوقت اللازم لتُرى وذلك نتيجة لتركيبتها، فهي مشاهد لفضاءات مرتبة بعناية انتُقيت عناصرها المؤلفة لها بدقة. تستعير من التشكيل بعض الألوان والحركات والإيقاع الخاص بالممثلين والأثاث (أو عناصر الطبيعة) وتأخذ من المسرح حس السينوغرافيا صوتا وتنظيما للفضاء. فنحصل في الأخير على لوحات حية، متنقلة، نابضة يزيدها الترابط السينمائي الخاص الذي يسمى مونتاجا، إيحاء أكثر لما تُشاهَدُ وتتحول إلى فيلم روائي طويل. 3 ما وراء الفيلم: ولأنه فيلم وروائي فهو يقول شيئا خاصا به، له في المقام الأول وللمخرج وللآخر، أي الخطاب الكامن المُعلن المستتر في ذات الوقت. فهذا النوع من الأشرطة التخييلية يتوفر على قدرة التأويل الواسع والمختلف والمتنوع. فليست له ترسيمة عادية مألوفة منتهية. وقد يكون هذا مثار ضعف، كما قد يكون علامة قوة. لكن في جميع الأحوال، فالفيلم ينقذ نفسه بالصور التي خلق وأبدع، والتي تبقى حاضرة في الذهن طويلا. لم يضعف الشريط، فواضح أن المخرج سطَّر وقطَّع سيناريوها قبليا واضح الفقرات والمشاهد ليستخرج بالضبط الصور المختزنة أو المراد تركيبها. وبالتالي، فالخطاب أو «قولُ الصور» يأتي في المقام الثاني كمستوى للإطلاع فقط. المخرج أراد أن يحكي مدينته وطفولته وتربيته الأولى بشكل متميز، لأنها متميزة! يحكي زمنه الأصلي الأول من خلال البطل المريض العائد. فيكون الشريط إعلانا للعالم وللفن، عبر السينما، لثقافة وجغرافيا خاصين. فليس لهذا الشريط أية دلالة أخلاقية أو أي صبغة إخبارية أو أي توظيف درامي أو اجتماعي أو ما شابه. هو فيلم يُعلي من شأن السينما كفن وكتجريب لآلية تعبير صورية. وهنا قد يكون العمل مثار جدال. ففي هذه المرحلة من زخم الإنتاج الفيلمي المغربي يجد الفيلم نفسه وحيدا، معزولا، وفي فترة المد الجماهيري وعودة الأفلام الجالبة للمال والجمهور، الشيء الذي يجعل مشاهدته عودة الى الوراء بفترة عشرين سنة، أي عودة الى فترة التجريب السينمائي الجميلة في حد ذاتها، المربكة للتلقي العام. والغريب أن يكون هذا الإبداع قادما من الولاياتالمتحدة، حيث يعيش المخرج، بلد الفيلم الحكائي الإمتاعي البسيط!. «خيط الروح» قطعة سينمائية لطيفة لكن لا تضيف الكثير للسينما. درس سينمائي بدون أفق ولا أثر.. يساعد صاحبه على تفريغ حمولته الإثنوغرافية الغنية ولكن هل يُساهِمُ في تقدمنا أماما؟!