لعل أصعب رهان لمخرج أن ينجز فيلما في أعقاب آخر حقق به نجاحه وشهرته. ومحمد مفتكر يقف هذا الموقف وهو يستعد لإخراج فيلمه الجديد “صمت الأب” على مسافة أقل من عامين من شريطه “براق” الحائز على عدد من التتويجات أهمها الجائزة الكبرى بمهرجان السينما الإفريقية بواغادوغو والأمر ذاته في المهرجان الوطني للفيلم الطويل بطنجة. مفتكر يعي هذا التحدي الذي يطرحه عليه عمله الجديد. لذلك يضع نصب عينه ليس فقط نجاح “براق” الذي يمكن أن يتحول إلى عائق وإنما أيضا مشروعه السينمائي الذي انطلق بدءا من أفلامه الثلاثة القصيرة وحمل دمغته الخاصة. قد يبدو له الحديث عن قصة فيلمه المقبل أمرا نافلا لا علاقة له بما سيكون عليه العمل في استوائه النهائي. فقصة كل فيلم هي السينما في آخر الحديث. لكنه يصرح بأن موضوعة الشريط هذه المرة أيضا هي الأب. «الأب كسلطة، كرمز، كجيل، كتاريخ ضاغط وكمثال. ودوري ككاتب ومخرج أن أسائله. لا أحاكم هذا الأب. أنا فقط أسعى لفهمه حتى أستطيع قراءة تأثيراته عليّ». هذا الاختيار حتم على مفتكر أن يعود إلى عقدي السبعينيات والثمانينيات. وهي عودة إلى الذات. ذات المخرج وجيله. لا بالمعنى الأطوبيوغرافي الصرف. بل بمعنى تقديم رؤيته الخاصة التي يشترك فيها مع جزء من مجايليه و”لا يقدر أحد آخر أن يقدمها بدلا عنه” بتعبير الخطيبي. الحكي في “صمت الأب” سيتولاه طفل إلى أن يبلغ المراهقة. يقول صاحب “براق” : «سأسافر عبر السنوات لأتقمص شخصية طفولتي. لأتحول كمخرج إلى طفل يحكي عن طفل. ويقدم صورة عن الأب. ما أحاوله عبر هذا البعد الذاتي هو أن أكون صادقا في عملي». من هذا المنطلق يأخذ الفيلم الجديد وجها آخرا مغايرا لأول شريط روائي لمفتكر. «براق كان يسبح في السواد. تركز فيه الكاميرا على العوالم الداخلية.. على نفسية الشخصيات. تسبر لاشعورها.. آلامها وجروحها التي تسبب فيها واقع ما. كان فيلما يستنطق النتائج. أما صمت الأب فتتحول فيه الكاميرا إلى الخارج. تسجل الوقائع والأحداث. وتهتم بالواقع.. بالمشاهد الخارجية. بالصراعات. لذلك سيجد المشاهد الكثير من الضوء والحركة». اختيارات ستنعكس على السرد الفيلمي. فبعد أن كان الحكي في “براق” محكوما بالتشابك والتداخل والتلاعب بالزمن، سيأخذ السرد في “صمت الأب” منحى خطيا متصاعدا. وسيأخذ الواقع مظهرا مكشوفا هذه المرة بعدما كان في الفيلم السابق مغمورا بالعتمة لا يستشفه المشاهد إلا من خلال ردود الفعل السيكولوجية للشخصيات. لكن الأساسي هو أن يأتي العمل متفاعلا مع واقع المخرج كما عاشه وخبره.. يقول مفتكر أن الهاجس الذي يشغله هو أن يعكس جزء من الواقع كما يقرأه هو لكن في الوقت نفسه أن يكون للفيلم قيمة سينمائية بما تعنيه عبارة سينما. ومن منظوره، خلف مساءلة هذا الواقع تكمن أيضا مساءلة للأدوات الفنية التي يشتغل بها وعليها السينمائي. فكلما ساءل المخرج أدواته كلما أتاح للواقع الذي يعمل عليه إمكانية البروز أكثر. يبقى أن عنوان الفيلم هو عنوان مؤقت إلى أن يرسو مفتكر على فريق عمله والإسم الدال على عوالم فيلمه الروائي الثاني.