فِنْجانان، لا أَكْثَر.. حملتْ فنجان الشاي إلى شفتيها بهدوء، كانت تعلم أنّ عينيه ترصدان خلسةً كل حركاتها. و كانت تتعمّد أن تكون أمامه في كامل الصّفاء الذي يبهره دون مجهود. تركت الفنجان بين شفتيها أطول من المعتاد. و حين وضعتْهُ أمامها على الصحن، داعبت بمنديل ورقي أثر تلك القبلة المسروقة. لون الزهر كان قد ترك شفتيه مفتوحتين على حافة الفنجان، و قطرة صفرة ذهبية تنساب نحو الأسفل. لم تعتَد شاي الصباح من قبل.. لكنها اليوم نكاية بالصحيفة التي يغازلها بين الفينة و الأخرى، أرادت أن تصيب قهوته اللاذعة ببعض الحيرة. الصمت كان يمرُّ كثيفاً في الامتداد الضيق الذي يضمّهما.. لكن الصخب كان مثل البخار المتصاعد عن الفنجانين، أمراً حتميَ التوغّل. «لن أقول شيئاً، بعد كلّ ما قُلته.».. ذاك ما كانت تفكِّر فيه. «إلى متى ستواصل إضرابَها عن الحديث؟».. ذاك ما كان يفكر فيه. على صفحة عينيها النجلاوين كان الهدوء عنوانَ عاصفة احترقتْ على عجل. و بين عينيه المُتعبتين، كان ينتصِبُ لهاثٌ، لم يستقِم حلمُه بليالٍ اقترفَها في مخيِّلته دون افتراض واقِعٍ ملائم. حمْلٌ واحد حين دسَّت جسدها الضئيل في الجينز الأزرق و القميص البني و جمعت شعرها على شكل ذيل حصان، و انتعلت حذاءها الرياضي الخفيف، لم تكن تتوقّع أن تلقَى جموحَه عند عتبة الباب، ينتظرها باشتعال لا تدري متى سيلوح أمامها دخّانُه.. مرَّت بهدوء، دون أن تتوقّع أنه سيفسح لها مكاناً لكي يسعَهما معا إطار الباب الضيِّق.. و لم تصدق مرة أخرى، أنّها قد أفلتتْ من الميتة التي تستحِقُّها.. لم تصدق أنه قد تركها تعبُر أمامه دون أن يعتقل رقبتها بين يديه، أو يغدق على خصلات شعرها ماء النار الذي يليق بانفلاتِه. كان عائداً من جامع الحي، ليتْمِم نومه حتى موعد صلاة الظهر. و كانت متوجهة إلى الجامعة، قبل أن تواصل باقي اليوم بالمتجر، حيث تناوِب مساءً على صندوق الأداء بدل صاحبة المحل. طريقان مختلفان تتباعد مسالكهما كل يومٍ أكثر. قلبُ الأم القابعة في الداخل، وحده كان يجمعهما بوجعٍ و حسرة على الحَمْلِ الذي لم يكن له على الأرض، أن يظلَ واحداً لتوأم غير حقيقي. طِفلٌ آخر.. طِفلٌ خامِس أمي كانت آخر من ينام و أول من يستيقظ ككل يوم. تعد ماء الوضوء للوالد، و توقظه لكي يصليا الفجر معاً، يشاركها بعض الطعام، و يعود إلى فراشه لالتقاط بعض النوم قبل موعد العمل في التاسعة. أمي كانت تعود إلى المطبخ لتجهيز لوازم الفطور. تواصل دلْك الأرغفة مرة بعد مرة، حتى تستوي مثل الشهد على المقلاة الثقيلة، في مربعات مطويَّةٍ بهندسة رياضي أو دوائر ملفوفة كأسطوانات الموسيقي المضغوطة. تفرغ عليها حبَّها ممزوجاً بزبدة و عسل صافيين. و تراقب آلاف الآبار الصغرى و هي تتشكل على وجه الفطائر الناعمة قبل أن تنضج، و تغمرها بزيت الزيتون و نثرات سميد السكر.. إبريق القهوة المغلية و رفيق دربه إناء الحليب لا يتركان في الصينية متَّسعاً كافياً لكؤوس الشاي و لبرّاده المُنعْنَع، فكانت تزحف بعض الكؤوس خارج الصينية، لتجد لها موقعاً مناسباً على المائدة الكبيرة.. لم أكن أفهم تماماً، إصرارها على تحضير الشاي و القهوة يومياً، رغم أن أبي كان يكتفي بجرعات قليلة من القهوة المرّة، و يعبّ كأسين من الشاي. لكن كان يفرحني إصرارها على تحضير الفطائر بالزيت و السكر الذي ألعقه في كل مرّة بمتعة، بعد أن آخذ نصيبي كاملاً من الرغيف المعسَّل. بعد الفطور كانت تدفعنا نحن حزب الرجال خارج المنزل، أبي في اتجاه متجره، و نحن الأربعة في اتجاه المدرسة. كنتُ الأصغر، لكنني كنت أدرك أنّها ستنجبُ قريباً من جديد.. كانت تريد صبية ترافق أنوثتها وسط ضجيج ذكورتنا.. و لم أكن أرغب بغير صبي خامس يرافقنا إلى المدرسة و الملعب و الشارع، فالطفلة بالتأكيد ستظلُّ مثل أمّي، في ذلك المطبخ منذ الفجر، حتى موعد نوم الجميع. دونَ خُفَّيْن لم يستيقظ هذا الصباح. لم يُجبْها عند الظهيرة و هو يسمعها تناديه، عقب فَتحِها باب الشقة بالمفتاح الذي تملكه منذ سنوات، و تجمعه إلى سلسلة مفاتيحها الكثيرة و المتجدِّدة. كان يدرك و هي تناديه بصوتها الدافئ، أنها تحمل نصيبَه من وجبة الغذاء التي أعدَّتْها بشغف، و حملتْ شطراً منها إلى طفليها في المدرسة، و أتَتْه بشطر ليتناولاه معاً. كان ذلك هو الحل المُرضي للجميع، بعدما يئست من انتقاله للعيش معها، و مفارقة عزلته داخل غرفة مكتبه و رواياته و مؤلَّفاته. يسمعُها، الآن، تبحثُ بين الأدراج و الخزانات في المطبخ، عن الصحون و الملاعق و الشوك... و يسمعها تواصِل النداء عليه بصوتها الدافئ. ارتدى الخفَّيْن الناعمين، اللذين أهدته إياهما مع بداية الخريف قبل ثلاثة أسابيع. كانا أكثرَ طراوةً و نعومة على قدميه من المعتاد، لكنه لم يُعِر الأمر اهتماماً. حمل فنجان قهوته البارد.. و توجَّه ليلحقها إلى المطبخ دون صوت. كان دوماً يمازحها بقوله: «سأظل أحمل فنجان قهوتي، مهما ارتفع ضغطي يا ابنتي. أعتقد أنني سأحمل فنجان قهوتي بيُمناي حين نُبعَث؛ ففيه صكُّ براءتي من كل الجرائر التي ارتكبْتُها في حياتي، بعضُها كان لفرط النشاط الزائد، و بعضُها كان لقلَّة النّوم الهانئ.» تبِعَها، و هو يشعر ببرودة الفنجان بين أنامله. يراها تقسِم حصص وجبة الغذاء بين الأطباق، و دون أن تنظر إليه، تناديه من جديد.. تمرُّ أمامَه.. يلحقُها دون صوت.. تتوجَّه نحو غرفة النوم، و هي تناديه بصوت أكثر دفئاً و شغباً. هناك في غرفة النوم، يراها بجوار السرير... و يرى نفسَه نائماً على السرير نفسِه.. فنجان قهوته البارد فوق المنضدة الصغيرة.. و الخفَّان النّاعمان في الأسفل، وحيدَيْن دون قدمين. نَوايا على المُفْتَرَق كان ينتظرها على مائدة الغذاء في المطعم نفسه. و يداه مبسوطتان على قائمة الطعام تداعبان الأسماء و الألوان. ظل يترقّب وصولَها دون توقف. لم يكن صوت الموسيقى مسموعاً، لكنه كان يأمل أن ينكسِر الصمتُ على وقْع رقصات حذائها، التي يريدها أن تعتزل إسفلت الشارع ذات قَبول، لترقُصَ لخلوتِه. كان حضورُها يكفيه، لينْهَال عليه بكل ما يطْرَبُ له.. اختار المقعد المستند إلى الجدار، كي تولي ظهرها للعالَم و هي تستقبِل وجهَه، فيستأثر بوهَجِها له وحده.. تعمَّد أن تكون طاولتهما الأكثر انزواءً في القاعة السفلية. فهي لم تحب يوماً القاعات العليا التي تتراكم على طاولاتها نشراتُ الحُبِّ الفاسِد، و دخان الاحتراق المشبوه. كان يعلم أنّ الطاولة التي اختارها ستثير بدورها، حاسَّة شمِّها لبخور الذنب الذي يرتكبه بكل براءة...»أليست طاولة في القاعة العَلنية مثلما تسمّينَها، فماذا يعيبها؟».. كان قد حضَّر رداً على مقاس اعتداده بمعرفَتِها. لكنها لم تأتِ.. أكانت تعلمُ بأنَّ نوايا الحُبّ قد دسَّت من التّوابل ما يزيد عن الحاجة و أنّ الوجبات التي تعرضها الأطباقُ التي ينتقيها ككل مرّةٍ على هواه، ليست فاتحةً لشهية الصفاء الذي ترجوه؟ ما زال ينتظر، و الجوعُ يقاسِمه الانتظار بهدوء. قبضتاه وحدهما لا تعرفان الاستكانة. من مجموعة قصصية بعنوان «فرضُ كفاية» قيد الإعداد للنشر.