لم يعد مستساغا أن تظل المدرسة في معزل عن التحولات السوسيواقتصادية والتكنولوجية والديمغرافية والمعرفية والمهنية التي يشهدها العالم، و لا تساهم من موقعها في قيادة وتأطير التغيير الاجتماعي المطلوب، عبر أدوار ها ووظائفها في اتجاه جعلها أكثر تناغما وانسجاما مع المشروع المجتمعي المستقبلي، وذلك عبر دفعها للخروج من موقع تنفيذ الإجراءات والمساطر، والدخول في سيرورات التجديد والإبداع واتخاذ القرار، وإيجاد الحلول الملائمة لمختلف إشكاليات واختلالات الشأن التربوي، وتمكين التلميذ من إكساب مناهج بناء المعرفة الحديثة، وتعزيز مهاراته الحياتية، وتوسيع خبراته، وتطوير قابلياته للعمل وتحقيق الذات والعيش المشترك مع الآخر، قصد إقداره على مجابهة مصاعب الحياة في ظل تعقد متطلبات العولمة. إن عملية المراجعة هذه، لن تكون ناجعة، في اعتقادنا، إن هي أغفلت آلية المنهاج التعليمي كأهم قناة لتصريف الأدوار والمهام الجديدة للمدرسة، وكإطار نسقي عام يوضح الغايات والأهداف والمقرّرات والمضامين والكتب والمراجع وأنشطة الحياة المدرسية وطرائق التدريس والوسائل والمواد التعليميّة وآليات التقويم والمرافق المدرسيّة...، ويؤطر التفكير البيداغوجي، ويوجه الممارسة الميدانية عبر خطط تربوية ومساطر إدارية، ويحدد الخبرات والأنشطة والعمليات التي تقدّمها المدرسة لساكنتها سواء داخلها خارجها، بقصد مساعدة هذه الساكنة على النمو الشامل والمتكامل، الذي يؤدّي إلى تعديل سلوكها في الاتجاه المرغوب اجتماعيا، ويضمن تفاعلها الإيجابي مع بيئتها ومجتمعها، ويجعلها تبتكر حلولاً مناسبة لما يواجهها من مشكلات ويعترضها من تحديات. وبمسح موجز لما يوفره المنهاج التعليمي من تراكمات وإنجازات وإنتاجات (ميثاق التربية والتكوين، الكتاب الأبيض، توجيهات تربوية رسمية، كتب مدرسية، أطر مرجعية للامتحانات، إطار مرجعي للتجديد، إطار مرجعي للريادة، دلائل بيداغوجية، إطار وطني للإشهاد، مصوغات تكوينية وطنية، موارد رقمية، مشاريع إصلاحية ...)، يتضح أن نظامنا التعليمي لا يشكو من ضعف التصورات النظرية المؤطرة للمنهاج التعليمي، وإنما من تعددها وكثرتها وتضاربها وسوء ترصيدها وتنسيقها. والمشكل يكمن أساسا، في هندسة وهيكلة مختلف التراكمات ضمن منهاج تعليمي متكامل من جهة، وفي تطبيقاته وأجرأته ميدانيا من جهة ثانية. وهذا يطرح، في تقديرنا، ثلاث إشكاليات أساسية: تحيل الأولى على عدم الإدراك العميق بأن فعالية المنهاج التعليمي تتوقف أساسا على اعتماد مقاربة نسقية استراتيجية مؤطرة لبناء المنهاج، وخاصة في مجال هندسة المنظومة التربوية شكلا ووظائف وأدوارا وهيكلة وتجسيرا وتشعيبا وحقولا معرفية، بما يتماشى مع السياسة الوطنية في مجال البحث العلمي والتكنولوجي والتحولات المهنية والأولويات الكبرى والأوراش الواعدة التي تطبع الاقتصاد والمستقبل ومجتمع المعرفة والاتصال. بينما تتجسد الإشكالية الثانية، في تلك الحلقة التي يجب أن تؤمن الربط بين الجانب النظري والتطبيقي للمنهاج، والمتمثلة أساسا في جهاز التأطير والمراقبة والضبط كجهاز مؤتمن وضامن للتنزيل السليم لمقتضيات المنهاج. في حين تتمظهر الثالثة، في ضعف كفاية التكوين الأساس والمستمر الكفيلين بتجسيد روح المنهاج من طرف الفاعلين التربويين المنفذين للسياسات التربوية. إن الإشكالات السابقة، ساهمت إلى حد بعيد في إذكاء الفوارق بين مكونات ومستويات المنهاج؛ حيث غالبا ما يبرز تفاوت صريح فيما يخطط للتلاميذ، بشكل مقصود، من مهارات ومعارف ومواقف ضمن المنهاج الرسمي، وما يكتسبونه فعليا في الواقع عبر المنهاج المطبق، من خلال زمن مدرسي متغير أو نتيجة عمليات الهدم وإعادة البناء وتضارب في فهم وتأويل الفاعلين في الميدان لمضمون المنهاج الرسميّ وأهدافه وغاياته، وكذا لدرجة حماستهم أو تأييدهم له. وعلى هامش المنهاج المطبق، يبرز منهاج آخر خفي نتيجة تفاعل التلاميذ فيما بينهم سواء داخل الفصل أو خارجه، أو نتيجة اللجوء لبعض مصادر المعرفة غير النظامية. إن الإشكالات المرصودة سلفا تبقى في حاجة لتدقيق وتمحيص، ونطرحها هنا للتأمل والدراسة بكل ما يتطلبه الأمر من حيطة وحذر منهجيين، وخاصة في ظل غياب دراسات تقييمية علمية شاملة ومنتظمة للمنهاج. وحتى الدراسات والأبحاث والتقارير، التي يفترض أن تقدم بعض الإجابات الشافية حول الموضوع، لم تتناول المنهاج في شموليته وإنما حاولت الاقتراب من بعض أجزائه. إن التفكير اليوم في بناء منهاج شامل ومتكامل قادر على رفع التحديات الداخلية والخارجية يقتضي استحضار اللحظة التربوية في أبعادها العالمية والوطنية والجهوية والمحلية، والتي تتميز برهانات وتحديات العولمة، وتطبعها تحولات طالت المجتمع والثقافة والاقتصاد والسياسة... وأزاحت الحواجز والحدود في المجالات التربوية والتكوينية والمهنية وبدأت تؤشر لانقلاب في صيغ التربية وأشكال التكوين وأنماط المهن منبئة بتطورات يصعب الإلمام بها والتحكم في مجرياتها. وعليه، يصبح المنهاج هنا مطالب بتقديم أجوبة مناسبة حول كيفيات استيعاب هذه التحولات الآنية والمستقبلية، واستباقها، وإعداد الأفراد لتدبيرها ومواجهة محطاتها ومنعطفاتها ومآلاتها، وترسيخ التوجهات الوطنية الاستراتيجية المجسدة لسيادة الدولة في جوانبها الاقتصادية والثقافية والحضارية والتاريخية واللغوية ... والانفتاح على المعطيات والحقائق الجهوية والمحلية تحقيقا للاندماج والتصالح مع المحيط الاجتماعي العام للمدرسة. إن التأسيس لمنهاج متكامل ومندمج في اللحظة التاريخية الراهنة، يتطلب استيعاب وتجاوز أعطاب واختلالات الواقع التربوي التعليمي الحالي، وإعمال مجموعة من المبادئ العامة، كمداخل أساسية موجهة لبناء المنهاج المأمول، والقاضية بإبراز الجوانب الوظيفية والعملية للمنهاج، المرسخة لاستعمال التعلمات في الحياة الاجتماعية للتلميذ، والمستجيبة لحاجات الاندماج في القطاعات المنتجة ولمتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. إن أكبر التحديات التي تواجه المنهاج اليوم، هو ربح رهان الانتقال من منطق التعليم إلى منطق التعلم، عبر التخلي عن التفكير بما يجب أن نفعل بالتلميذ، وتعويضه برؤية أخرى تنخرط في البحث عن كيفية إعطاء هذا التلميذ طريقة ومنهجية في بناء تعلماته وقراراته بشكل مسؤول ومستقل ومحفز، ضمن سيرورات تعلمية مهيكلة بمنطق عرضاني ومنطلقة من أقطاب أو حقول معرفية، وداخل مناخ تربوي يطبعه التفهم والتنسيق والتعاون والتواصل بين كل المتدخلين والشركاء في الشأن التربوي، أملا في إخراج المدرسة من عزلتها السوسيوبيداغوجية وتمكينها من آليات التفاعل المنظم مع المجتمع.