ترددت قبل الإقدام على رثاء صديقي المرحوم الطيب الصديقي. انبعثت صلتي به بين سنة 1977 وسنة 1995 . بعد ذلك تفرقت السبل حتى سمعت خبر وفاته . شاهدت مسرحيته الاولى على التلفزة المغربية بعد سنة 1961. لا اتذكر بالضبط وقتها . كانت من مسرح اللامعقول وكان من أبرز ما فيها قدم ممدودة لا أتذكر الآن علتها. ترددت لأننني لست من أهل المسرح، ولأنني لا أحب أن يختلط صوتي بأصوات ذباب المقابر الذين يحلقمون الكلام عند مهلك كل عظيم طلبا للبركة . بعد عودتي من رحلة الى الجزائر سنة 1977، دعاني صديقي المسرحي محمد عادل الى زيارة الصدّيقي في الدارالبيضاء وزرناه وكان عادل صديقا له قبلي . هنالك عرفت نوعا فريدا من أهل المسرح يتمثل فيه . مكتبة عامرة بأطايب المؤلفات في الادب والفلسفة ولوحات من عمله فيها جمال خط عربي عز نظيرها. ومازلت أملك كتابا من تأليف جاك بيرك أهداني إياه وأنا أغادر منزله وعليه خطه بالإهداء . تجولنا في الدارالبيضاء فرأيت كبارها يتقربون منه ويطمحون الى السلام عليه . ولكنه من ظاهره وباطنه لم يكن يكبر في نفسه إلا أهل الفكر والادب. كان الصديقي في ذلك الوقت يعبر الصحراء بعد كارثة هدم المسرح البلدي بالبيضاء وكان مديرا له. وقد أدركت حينئذ هو أن أهل الفكر والادب على المغرب الرسمي ولو كانوا أولي مقام رفيع وحزنت لذلك . ثم زارني زورات في فاس وسألني أن أحول له رحلة ابن بطوطة الى مسرحية فشرعت في ذلك ومازالت عندي أوراق ذلك المشروع . لكن عبوره طال وافتتن به عن ابن بطوطة ثم خرج من عتبة الصحراء يوم شرع في بناء مسرحه بالبيضاء ردا في ظني على كارثة المسرح البلدي . وما زلت أذكر أنه أخذ المرود والمكحلة في بيتي بفاس ودرجه على عينيه فلما سألته أجاب بأن ذلك عادة في أسرته بالصويرة وان الرجال كالنساء يعالجون عيونهم به . ثم زين لي أن اعمل مثله فعملت مثله من سوء طالعي فاشتعلت عيناي بنار الدمار وكأنهما سملتا بسفافيد من مهل وغليل. وبت بأسوأ ليلة. وكان في هذه الزيارة اصطحب حليلته السيدة أمينة واستقبلتها حليلتي لطيفة حليم خير استقبال ، ومن حقيبتها استخرج المرود والمكحلة اللذين كادا يذهبان بعيني. اما هو رحمه الله فاشتد بصره بعد التكحيل ولله في العيون شؤون . ثم كان آخر لقاء لنا في الرباط قبل سنة 1996 . وهناك علمت أن أهل الفضل مثله حظهم، وإن أجادوا العمل وأخلصوا فيه، ليس مستقره في هذه الدنيا الفانية . لقد بخل عليه الاقزام بما لا يجودون به إلا لأقزام مثلهم . وكان مازال يعبر الصحراء. لقد كان نادرة من نوادر الزمان . رحمه الله وغفر له وأحسن إليه وطيب مثواه .