يملك برتراند تافرنيي مشوارا ثريا في مجال السينما، حيث سبق له أن فاز بجائزة مهرجان «برلين» السينمائي سنة 1995 عن فيلمه «الطعم» وجائزة أفضل مخرج في مهرجان «كان» سنة 1984 عن فيلم «يوم أحد في الريف». وفاز فيلمه «راوند ميدنايت» بجائزة أوسكار لأفضل موسيقى أصلية عام 1986. ويعتبر تافيرنيي مخرجا متمردا، بسبب إعراضه عن اتجاهات السينما الفرنسية الجديدة التي شكل نواتها جان لوك غودار، كلود شابرول، إريك رومير وفرنسوا تروفو، إذ هناك اختلاف شاسع بين أسلوبه وأساليب هؤلاء. فلم يكن يوما مخرجا مؤلفا ولا انتمى إلى السينما الجديدة ولا شق طريقا فنيا مائة في المائة، بل حافظ على موقع يحتوي على عناصر فنية وعناصر جماهيرية متساوية، خاصة أن مشواره المهني مكنه من استيعاب «مراحل صناعة فيلم جيد»، حيث سبق له أن كان ملحقا إعلاميا في مجال السينما، ومساهما في كتابة بعض السيناريوهات.. إلى جانب مخرجين عالميين مرموقين، أمثال فولكر شلوندروف وميلفيل.. أنجز تافرينني أول أفلامه سنة 1974، وكان ناجحا دائما في هذا الجمع بين الفن والجماهيرية، لكن إذا ما تابع المرء أفلامه الأولى، بدءا من «ساعاتي سان بول» مع فيليب نواري وجان روشفو في البطولة، سيلاحظ أن شهرته ارتبطت بجودة أعماله .. في ما يلي الدرس السينمائي الذي ألقاه تافرنيي بمهرجان كان السينمائي سنة 1993 تعلمي للسينما، بدأته أولا كمشاهد. ويمكنني أن أقول أيضا إنه تعلمي للحياة، لأن كل شيء اكتشفته أو تعلمته في البداية كان عبر السينما. السياسة، طعم التاريخ، وخاصة التاريخ الأمريكي.. من بين النصائح الأولى التي بوسعي أن أقدمها لهؤلاء الشباب الذي يريدون أن يصبحوا مخرجين، سيكون هو مشاهدة كل أنواع الأفلام (القديمة، الجديدة، من كل البلدان)، أن يتغذوا بالأعمال الكبيرة، تماما كما يفعل الروائيون الذين يتغذون من الكتب. فعندما نقرأ مراسلات هوجو، أو دوما، أو بلزاك، سنلاحظ أنهم يلتهمون الكتب، وأعتقد بأن مشاهدة الكثير من الأفلام ليس كابحا للإبداع. بعد هذا الشغف من أجل السينما الذي لم أضيعه أبدا، وقبل أن أقوم بإخراج فيلمي الطويل الأول، حاولت أن أتعلم وأكتشف الحياة. أعتقد أن هذين الأمرين أساسيان. فبفضل زوجتي، كولو، وبفضل أبنائي، تعلمت كيف أصلح رجلا. وقررت، في لحظة ما، بأن لا أنجز فيلمي الطويل إلا بعد أن أشعر بأنني مستعد ككائن بشري. وحين، أحسست بأني أكملت تربيتي، ليس السينيفيلية، بل العاطفية والإنسانية، شرعت في التصوير. لكن، لا شيء سهل. ذلك لأنه ينبغي أن تتغذى بسينما الآخرين، وأن نتظاهر في موقع التصوير، بأننا نسينا كل ما شاهدناه من قبل. لقد أثنى علي فيليب نواري، الذي لعب معي في أفلامي الثلاثة الأولى: «ساعاتي سانت بول»، «ليبدأ الاحتفال»، «القاضي والقاتل». اعترف لي بأنني أخفته في البداية، لأنني كنت أبدو بأنني على أعرف أفلاما كثيرة، ففكر بأنه سيكون أمام مخرج سنيفيلي لن يتوقف عن الإحالة عن هذا الفيلم أو ذاك. غير أن الذي فاجأه، في بداية تصوير فيلم «ساعاتي سان بول»، بأنني لم أحل على أي فيلم شاهدته، بل كنت أعمل بتركيز على الشخصيات وعلى الفيلم الذي كنت بصدد إنجازه. أعتقد أن هذا مهم. فأنا لا أؤمن بالتكريم، وبالغمزات التي تشير إلى مخرجين آخرين، ولا بهؤلاء الفنانين الذين يقولون لك بأنهم يصممون مشهدا كاملا بالرجوع إلى مشهد آخر. أعتقد أن هذا يؤدي غاليا إلى ذلك الشيء الغريب والطفيلي الذي نجده أحيا في السينما الأمريكية المعاصرة، أي إلى سينما «نسخة كاربونية» التي تستعيد الأفلام القديمة وتستنسخها، وبالتالي تضعفها. صرت أولا ملحقا صحافيا، لأنني كنت مساعد مخرج سيء. وأنا أعتقد بأن هناك طرقا متعددة لولوج السينما. تجربة الحياة التي يمكنها أن تقودك إلى كتابة شيء معين، وربما إلى معرفة كيف تصويره؛ تجربة المشاهد وعاشق السينما: المرور من السينيفيليا؛ وأخيرا العمل الميداني. نندمج في الفريق، نتسلق السلالم، لنصبح في النهاية مخرجين. أنا، فكرت أن أصبح مخرجا على هذا النحو، لأن هذه هي الطريقة التي كانت متبعة في الستينيات. أخذني جان بيير ميلفيل كمتدرب على الإخراج في فيلم «ليون موغان، الكاهن»، وكان مساعده الثاني هو فولكر شلوندروف الذي كان زميلا لي في ثانوية هنري الرابع. أصبح شلوندروف بسرعة المساعد الأول في هذا الفيلم، ما دام أن ميلفيل الذي دخل في شنآن مع مجموعة من الفريق بعد ثلاثة أيام من التصوير، قرر عزل مساعده الأول الذي يكرهه. وهنا أصبحت أنا أيضا مساعدا كارثيا، وكانت فعلا تجربة مرعبة. أرعبني مناخ موقع التصوير، فقلت مع نفسي: لا أريد أن أصبح مساعدا أول، وبأنني لن أكرر أبدا هذه المهنة، وإلا سيكون مآلي هو الفشل. قال لي ميلفيل نفسه: «لن تكون قط مساعدا جيدا»، وكان محقا تماما. ثم أضاف: عليك أن تعمل ملحقا صحافيا. وهكذا اشتغلت لسنوات عديدة على أفلام رائعة، من قبيل «بيرو المجنون» أو «الرماة» لجان لوك غودار، «الفوج 317» لبيير شويندروفر.. كنت أستطيع أن أتابع جميع مراحل إخراج الفيلم. كان السناريو، الذي يكتب يوما بعد يوم، تحت يدي، وجدول الأعمال، والفيلم الخام.. كنت أذهب إلى موقع التصوير، وأحضر المونطاج. بل كنت أستطيع أحيانا أقدم مقترحات للمخرجين الذين تربطني معهم علاقة صداقة، وهي اقتراحات في مجملها غبية وساذجة، ومع ذلك فإن اقتراحا أو اثنين منها تم اعتمادهما. وعموما، كانوا يسندون إلي عملا. مثلا، أنا الذي قمت بكتابة نصف الشريط الإعلاني لفيلم «الفوج 317». وبعد ذلك، أنا الذي أشرف على العرض الأول لفيلم، أنظمه، فأرى المجهود المبذول للتعريف بالعمل، الصراع مع المستغلين ومع الرقابة (شاركت في ك أطوار قضية فيلم «الراهبة» في العام 1966، فيلم غيفيت الممنوع). كانت فترة تعلم رائعة: كنت أجاور على نحو أفضل المخرجين، لأنصت إليهم.. وفي الوقت نفسه، كان ذلك تعلما للحياة، وليس فقط لحب السينما. الفكرة التي يمكن أن تنطلق منها كتابة الفيلم، قد تكون نابعة من أشياء مختلفة جدا، قد تكون الرغبة في الاشتغال مع ممثل أو من صورة واحدة، مثلا قراءة معالجة قصيرة كتبها أوغوش وبوست AUREUHE ET BOST سنة 1948، حول قضية فاشير VACHER في نهاية القرن 19 أعطتني فكرة ما أصبح فيلم «القاضي والمجرم»، صورة مشردين أطلق سراحهم قاضي التحقيق بعدما استجوبهم، ثم يتوجهون لحلق ذقونهم بجانب نافورة. فجأة أثارتني هذه الصورة. اندلع شيء ما بداخلي وانتابتني الرغبة في استكشاف هذا المجال والذهاب إلى أبعد مدى. في لحظة ما، تحس بأن الفيلم الذي بدأت كتابته أصبح ملحا، وأن عليك أن تنجزه وأنه أصبح فعلا جزءا من حياتك. بالنسبة لفيلم 627 L وبينما كنا ندون نقطا مع ميشيل ألكسندر طيلة أسابيع وأسابيع، ذات يوم أخذني إلى المكاتب التي كان يشتغل فيها، وهي عبارة عن براريك وعندما دخلنا إلى هذه الفوضى والفقر، شكل ذلك صدمة بالنسبة لي كما لو أن الفيلم تسلل إليك فجأة، وبالتالي يصبح لزاما عليك إنجازه. السيناريست هو محامي المعارضة خلال العمل، شخص يأتي ليمنعك ويتعارك معك ليأخذ منك ما لا ترغب بالضرورة في إعطائه، الجزء الخفي منك. لقد اشتغلت مع أناس مختلفين تماما أمثال «جان أورانش» أو «جان كوسموس» الذي رأيت عمله في التلفزيون وفي المسرح. كانت له معرفة عميقة وطبيعية باللغة الشعبية، وهذا الأمر أفادني كثيرا في فيلم «الحياة، ولاشيء آخر». كنت مقتنعا تماما بأنه السينارسيت الذي سيقدم لي أشياء رائعة. اشتغلت أيضا مع أشخاص مبتدئين: «كريستين باسكال» في فيلم «أطقال مدللون» DES ENFNTS GATES، وهو فيلمها الأول. أيضا كولو الذي أنجز فيلمه الأول معي «أسبوع عطلة» UNE SEMAINE DE VACANCES، أو ميشيل أليكسندر الشرطي السابق في فيلم 627 L سنة 1992. أنا مضطر للتأقلم مع طلبات السيناريست مع أورانش. كنا نشتغل في الفوضى الكلية، أولا، فجان أورانش كان شخصا زئبقيا (يضحك) عندما كنا ننجح في حصره لمدة عشرة أيام في المكان نفسه، فهذا في حد ذات يعتبر إنجازا. على الفور كان يريد الرحيل. كانت تنتابه الهواجس، فبعد خمسة عشر يوما يعتقد أن كل ما كتبه كان فظيعا وأنه يتعين تدميره. قطعنا فرنسا طولا وعرضا عدة مرات. كنت ألاحقه وكنت أخطف منه صفحات، كنت أحفزه باستمرار. مع آخرين أمثال جان كوسموس أو كولو نتحدث مطولا حول مشهد، ندون العديد من الملاحظات، كانوا يكتبون ويعطوني المشهد الذي بإمكاني اعادة كتابته فيما بعد. كانا يريدان البقاء وحيدين خلال فعل الكتابة، بينما مع أورانش كنا نكتب نحن الاثنين العديد من المشاهد ونحن نتبادل الموضوع خلال مناقشاتنا. يجب فقط أن تكون منتبها وأن تعرف كيف تتأقلم مع شخصية كل سيناريست على حدة. إنها متعة، متعة حقيقية. فالمخرج شخص شبيه تقريبا بقائد جيش من اللصوص، ننهب كل ما نصادفه في مدينة محتلة! حاولت في كل أفلامي، بدءا من الفيلم الأول، أن أكسر دكتاتورية المفاجأة والعمل على أن نجعلها تخضع لقصة، لكن أن يكون بناؤها حرا ومفتوحا ما أمكن في فيلم «الموت مباشرة»سنة 1980 (لأنها كانت تجربتي الأولى في العمل انطلاقا من حوار بالانجليزية). هناك عنصران أو ثلاثة عناصر من السيناريو تمثل تحولات مفاجئة لم تكن تعجبني هي الثقافة الامريكية الخالصة مايسمونه PITCH، كان جان أورانس يقول دائما: «علينا أن نكون أحرارا تماما في الكتابة أن نكتب من أجل المتعة سيولد شيء ما من ذلك شيء ما سيكتمل شيئا فشيئا». وبهذا الشكل تقريبا كتبنا فيلم «ليبدأ الاحتفال» سنة 1975. كان تلك كتابة أوتوماتيكية. لم نكن نعرف إلأى أين نسير. كان بيلي ويلدر يقول بأن حياة المخرج تتلخص في النهاية في 98 % من وقته في البحث عن المال لإنجاز أفلامه و2% في العمل. لم يكن مخطئا تماما، فللأسف كان الوضع كذلك تقريبا. مازلت ألاحظ ذلك في حالتي حتى بعد انجاز 13 فيلما، ويمكن أن أقول إنه بالنسبة لثمانية أسابيع من التصوير في فيلم «الحياة ولاشيء آخر»، فقد سبقتها سنة كاملة من البحث عن شركاء في الإنتاج، وعن رؤوس أموال ومحاولة إقناع الناس بأن الفيلم الذي تحمله في ذهنك مهم. وهنا كل الاحتمالات ممكنة. البعض لا يجيبك. كان ذلك على الخصوص في البداية، وكان ذلك طبيعيا تماما. عندما قمت بإخراج فيلم «ساعة سان بول» او فيلم «ليبدأ الاحتفال» تعرضت لكل الإهانات التي يمكن لمخرج أن يتعرض لها، فمثلا شخص يأخذ السيناريو، وبعد تقليب كل صفحاته يقول أمامك: «يا للهول. هذا تافه»، وهنا ينتهي اللقاء. إلى جانب الجانب المالي بطبيعة الحال، انتظر من المنتج نوعا من الحوار. وبما ن ذلك لا يحصل في الغالب، أصبحت شخصيا مشاركا في الإنتاج. ولكن حتى في هذه الحالة، أكون بحاجة للحوار مع منتج خارجي، يكون تقريبا في نفس مستوى الحوار مع الممثلين. فهو كذلك شخص يحميني، ويكون خلال هذا المسار المحفوف بالعراقيل والإهانات، قادرا على تحملها مكاني، أو على الأقل يتحملها معي، لأننا في كل الأحوال نكون في حالة هشاشة رهيبة. بالنسبة لفيلم «الحياة ولاشيء آخر» اتصل بي مدير الشركة المنتجة روني كلايتمان، وقال لي: «عليك ان تتخلى عن هذا الفيلم، انه فيلم تيئيسي، هل تفهمني، البحث عن الاموات شيء فظيع كارثي، لا يهتم به الناس، ولايمكن أن يهم الشباب». هذه تقريبا نفس الجملة التي نسمعها منذ عدة سنوات «هذا لايهم جمهور الشباب». بالتالي، فنحن نحاول أن ندافع عن أنفسنا. وكلما كثفنا التضامن مع المنتج، كلما كان ذلك أفضل.. بالنسبة لهذا الرجل مثلا أجبته قائلا بأن الفيلم سيكون مضحكا، وأنه سيكون مليئا بالحياة والفكاهة، وبأنه لن يكون فيلما عن الموت، بل عن الحياة، وبأنه لن نشاهد جثثا. وكلما قدمت حجة، كان يجيبني: «هذا أمر أفظع» (يضحك). في النهاية، يتسرب إليك الشك وتتساءل: ما العمل؟. في بعض الأحيان تصل إلى حلول محبطة، بالنسبة لفيلم «الحياة ولاشيء آخر» في لحظة ما كل شيء انهار، والنتيجة أنني وضعت كل أموالي في هذا الفيلم: 600 الف فرنك، كل ما كسبته مع الآخرين. كان ذلك مغامرة لكن الأمر نجح. أحب أن أرسل إلى الممثلين في الفيلم صيغا متعددة من السيناريو قبل موعد التصوير. أشركهم، ربما ليس في الكتابة، ولكن في بلورة العمل. فطيلة أشهر، لا أخفي عنهم شيئا: لا الترددات ولا الأخطاء التي يمكن أن نرتكبها. في فيلم «الحياة ولاشيء آخر» تسلم فيليب نواري كل صيغ السيناريو، 12 أو 13، وبذلك اكتشف ان السيناريو تغير كليا في بعض اللحظات. بناء ونهاية الفيلم تغيرا. أرغب في اغراق الممثل في المشروع. هذا جزء من تحكمي فيهم. الحلم هو أن يكون الممثل كليا رهن إشارتك. انطلاقا من اللحظة التي فكرت فيه، وحتى اللحظة التي تصور معه. يحصل لي أن أفهم غيره بعض المخرجين الذين يكتشفون أن ممثلهم سيصور فيلما مع مخرج آخر قبل فيلمهم. استطيع فهم ذلك. أقوم بقراءات كثيرة مع الممثلين. كما أنني نادرا ما أقوم بتجارب. لم أقم بذلك الا في فيلمين: بالنسبة لفيلم la passion beatrice ، بهدف العثور على الممثلة التي ستلعب هذا الدور. لأنني كنت اريد امرأة قادرة على اللعب بالهندام وتعرف كيف تواجه أسلوب الحوارات القديمة للفيلم. هنا اكتشفت ان التجارب لها فائدتها، لأن ممثلات كن ملائمات تماما بالنسبة لنصوص عصرية، لكنهن يصبحن تائهات كليا عندما يتعلق الامر باستعمال لغة أخرى، أو بطريقة أخرى للتعبير. أما الاثنتان اللتان خرجتا منتصرتين من هذه التجارب، واللتين ترددت طويلا في الاختيار بينهما للعب دوز بياتريس، فكانتا جولي ديلبي التي اخترتها، وآن بروشي التي كانت رائعة في فيلم «سيرانو» cyrano فيما بعد. لكن أساليب العمل مع الممثلين مختلفة كليا بين ممثل وآخر. مع هارفي كيتيل الذي مثل في فيلم «الموت مباشرة» مثلا، فقد كان لابد من مناقشته مطولا، تغذيته مسبقا شهورا وشهورا بالتفاصيل والاشارات. كان يجسد فعلا الاسلوب الامريكي. كيتيل، كان هو اسلوب الأسلوب. كان يطلب الكثير من الأشياء، معنى كل جملة، وكان علينا ان نقوم بقراءات معمقة جدا. كان يطرح اسئلة، كان بعضها جوهريا. هناك لحظات تكرهه فيها، لأنك لا ترغب في معرفة كل شيء حول فيلمك. وفي الوقت نفسه يجبرك على القيام بعمل في العمق، ويواصل ذلك حتى في موقع التصوير (ضحكات)، مرتين او ثلاث قبيل التصوير. جاء يسألني: «هل لدي زران مفتوحان في قميصي أو ثلاثة أزرار، ولماذا؟» لا يجب أن تقول له: «هيرفي، نحن في أعلى جرافة، أنت كبير هكذا في الصورة، ويمكن أن يكون بدون قميص، وهذا لن يرى..». بل على العكس، لابد من إيجاد تفسير يكون على العموم واهيا ولكنه سيطمأنه، وهذا التفسير يجب أن يكون لديك. مع ممثلين آخرين، أمثال فيليب نواري، عليك محاولة أساليب أخرى، عدم التهويل البسيكولوجي للدور مثلا. نواري رجل من النوع الكتوم، المرهف، لا يجب أبدا محاصرته بالتفسيرات. بالمقابل عليك أن تناقش الكثير من التفاصيل العملية. في فيلم «الحياة ولاشيء آخر» ناقشنا كل اختيار للأشياء. كان يأتي ليريني عكازا. شيء ضروري لنزهة، وانطلاقا من ذلك نتحدث عن الشخصية. بالنسبة لفيلم coup de torchon مثلا، لم أكن أرغب في وجود لباس شرطي فرنسي. وهو شيء لم يكن تاريخيا بالمرة. ولذلك اضحك دائما عندما يقال لي إن فيلم coup de torchon هو رسم بدقة مذهلة للشرطة في عهد المستعمرات، هذا خاطئ تماما. بالنسبة للدور فكرنا في لباس ضيف للجسد، وقال لي نواري إنه يريده ورديا متسخا مثل لباس دين مارتان في فيلم rio bravo ونواري شخصيا هو الذي ذهب للبحث عن الصباغة النباتية. وضع ثلاث صباغات حتى حصل على اللون الوردي الذي كان يريده. جاء ليريني النتيجة، وكان لونا ورديا رائعا، لا سيما بالنسبة للباس لصيق للجسد عندما رأيت ذلك قلت له: «لديك الشخصية تماما كما هي». بالنسلة لفيلم «الحياة ولاشيء آخر»، لم أطلب منه سوى شيء واحد، أن يتكلم بطريقة أسرع من المعتاد, يمكن أن يكون تسيير الممثلين كذلك. أعتقد أن 80% إلى 90 % من هذا العمل يتم قبل الفيلم. ولهذا السبب، فإن الربورتاجات حول الفيلم making of غالبا ما تكون فارغة، لأن العمل تم من قبل. ما يخيفني أكثر هو الروتين، تكرار نفسي.. فهو نوع من الارتياح الذي يكون قاتلا للعمل والابتكار. أيضا أحب كذلك، حتى وإن اعتمدت على الفريق نفسه، جعله في مواجهة مع مشكل مختلف بالنسبة لكل فيلم, مثلا أفلامي الثلاثة مختلفة تماما- رغم أنني اشتغلت مع نفس الفريق تقريبا- فيلم «ساعاتي سان بول»، وهو فيلم عصري تم تصويره في ليون ما بعد فيلم «سيمينون»: فيلم تاريخي، وفيلم «ليبدأ الاحتفال» الذي يطرح مشاكل أخرى في الشكل، في الصورة، في الأسلوب، في التصور. وفيلم تاريخي آخر، بتقنية «السكوب» هذه المرة.. مدير التصوير، بيير وليام غلين، علمني أشياء كثيرة حول الجانب التقني وأكثر. علمني أشياء مهمة. مثلا، في البداية، كنت أتردد ف إعادة تصوير مشاهد، أي أخذ ساعة إضافية مع ما يمثله ذلك من مخاطر الدخول في صراع مع الإنتاج. وقال لي هذه الجملة الرائعة: «هذا المشهد أقل جودة مما يفترض أن يكون لأنك تخاف من الساعات الإضافية. أعد تصويره وستكون فرحا في المونتاج». كان ذلك مهما جدا بالنسبة لي، لأنني أحاول صناعة أفلام لا تكون فيها بصمة بارزة أكثر من اللازم، سواء في البنء أو في الإخراج، كما نجد ذلك في الكثير من الأفلام الفرنسية في مرحلة ما. لا أحب أن أكون سجين نوع من التشكيل الهندسي للمشهد.