في هذا الفصل من عمري، تُطرحُ علي من جديد وبحدة خاصة مسألةُ نقل الإرث إلى الأجيال القادمة، وهي مسألة شكلت هَمًّا أساسيا لي طوال مسيرتي ككاتب وكمثقف مواطن. ويتعلق الأمر برصيد الأفكار التي ساهمتُ في تطويرها منذ الستينات والتي كان من رهاناتها البارزة ما يلي: مَحْو الاستعمار من العقول، إعادة بناء هويتنا أخذا بعين الاعتبار طابعها التعددي، ربط ثقافتنا بقاطرة الحداثة وفتحها على الكونية، تشكيل قيمنا الإنسانية الخاصة، الإقناع بالمكانة المحورية للثقافة والتعليم والبحث العلمي داخل أي مشروع ديمقراطي جدير بهذا الاسم، الدفاع عن حرية التعبير والرأي. اليوم، أعتقد أنه بإمكاني القول إن ذلك الجهد لم يذهب سدى. فهو قد أثمر عمّا أثمر عنه، على الرغم من كل العقبات. الأفكار الجديدة التي أتى بها شقَتْ طريقها في الوعي العام، وسمحت بقيام نقاش حيوي حول رهانات الثقافة، كما أنها حملت بعض المنفعة لعدد من الممارسات الفكرية والفنية المبدعة غير أن تراثا كهذا محتملٌ أن يقعَ، كأي عمل إنساني آخر، عرضةً للنسيان وللرياح المعاكسة. فطالما أن الخيار الديمقراطي لم يتم الحسم بخصوصه في بلادنا في اتجاه الحداثة، في اتجاه الحقوق والحريات التي تتطلبها المواطنة الحقة، فإن البُعد الثقافي سيظل مسطرا على جدول الأعمال، مع الأخذ في الحسبان التغيرات التي طرأت في مجتمعنا وفي العالم، ومتطلبات الجيل الجديد، واستباق متطلبات الأجيال القادمة تلك مهمة تاريخية – لنقلها دون تردد. مهمةٌ عليها يتوقف بناء شخصية المواطن الذي سيكون خير المدافعين عن المشروع الديمقراطي الذي نصبو إليه، وأيضا الصانعَ المحنك له. هكذا، وعبر تطوير الثقافة والعمل لازدهارها، عبر إصلاح شامل لمنظومتنا التعليمية والمراهنة بالأساس على العنصر البشري سيتمكن البيت المغربي من توطيد ركائزه ومن أن يبني نفسه بشكل مغاير، ومن ثم سيعيد لأبنائه شهوة المستقبل ويحرر طاقتهم الخلاقة. لتلك الأسباب جميعها، قررتُ، إنشاء مؤسسة من أجل الثقافة تحمل اسمي. بدا لي أنها ستكون أفضل وسيلة، في البقية الباقية من عمري ثم في ما وراء ذلك، لمواصلة الدفاع عن الأفكار المعروضة أعلاه، ولضمان انتقال مشعلها لمن هن مقتنعات وهم مقتنعون مثلي بصلاحيتها وسدادها.