تتحدد أهداف هذه المساهمة في التركيز على بعض الأبعاد المتعلقة بالجوانب الثقافية والاتصالية والاجتماعية لمشروع الوثيقة الدستورية لسنة 2011. ومن هذه الجوانب نتناول على نحو مقتضب قضايا منها، مسألة الهوية، البعد اللغوي، البعد الثقافي، البعد التربوي، البعد الاتصالي، البعد الاجتماعي. بعد ثلاثين أو أربعين سنة سيأتي جيل جديد من المغاربة لتقييم عملنا اليوم. وقد يطرح السؤال حول كيفية تفاعل مغاربة العشرية الثانية من الألفية الثالثة مع متطلبات اللحظة التاريخية في صياغتهم لبنود دستور 2011 وتمثلاتهم له؟ لا نملك جوابا جاهزا لهذا السؤال هنا والآن، ولكن ما نخشاه هو أن تفوت الفرصة المتاحة لصياغة نص دستوري يقوم على رؤية شمولية تتجاوز المقاربة التقنوية وتجعل السياسي ينصهر في الثقافي والاجتماعي والاقتصادي ولا يلغيه أو يختزله، ونص وثيقة دستورية تتجاوب وتطلعات المغاربة في الحاضر وتستشرف تطلعات أجيال المستقبل، أي وثيقة دستورية تعبر عن ثقافة سياسية متقدمة مستبطنة للقيم السياسية المتشبعة بالحداثة والديمقراطية والتطلع إلى التقدم الاجتماعي. هل يمكن صياغة وثيقة دستورية تتجاوب مع المتطلبات الشاملة للمواطنة الكاملة وتستوعب العوامل الثقافية والاقتصادية الاجتماعية والاتصالية على نحو كاف؟ هل يمكن تأسيس وثيقة دستورية منصتة بإمعان لحراك الشارع العربي والمغربي ومتطلباته الحقيقية في الإصلاح؟ وهل يمكن صياغة وثيقة دستورية تعبر عن قطيعة مع الماضي ولحظة ارتماء في أحضان المستقبل؟ مستقبل آمن بدون مخاطر وأقل تهديدا ومخاطر؟ إن منطلق الرؤية الشمولية يفرض نفسه لتجاوز الدائرة الضيقة للنقاش ومخاطر صياغة وثيقة لا ترقى إلى متطلبات الإصلاح الشامل. لذلك فتحصين الدستور بنصوص واضحة ودقيقة تخص الأبعاد الثقافية والاتصالية والاجتماعية والاقتصادية إلى جانب الأبعاد السياسية على أهميتها ومكانتها، ووفق رؤية تحقق مصالحة متعددة المستويات بين الثقافي والاتصالي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، يشكل مهمة ملحة. وتتأتى شرعية ما سبق ومصداقيته من خلال بعض الملاحظات الأولية التالية: أولا: فقر كبير للجوانب الثقافية والاتصالية والاجتماعية في نصوص الوثيقة الدستورية إن قراءة نصوص الدستور الحالي من زاوية معاينة الأبعاد الثقافية والاتصالية والاجتماعية تكشف عن فقر كبير في مواد للدستور الحالي. فبمقارنتها مع العديد من الدساتير العربية مثل الكويت، قطر، مصر، الإمارات، الجزائر، السودان.. يبدو الدستور المغربي ضعيفا في هذه الجوانب. كما أن الانفتاح على دساتير أوروبية أو أجنبية يؤكد على نفس الاتجاه. لمرة واحدة يشير في الفصل 13 إلى كلمة التربية: «التربية والشغل حق للمواطنين على السواء»، وهي نفس الفقرة المنقولة عن دستور 1962. ولا نجد ترددا للكلمة إلا في الفصل الثاني والثلاثين الذي يشير إلى أن الملك يرأس المجلس الأعلى للتعليم. أما مفهوم الثقافة على أهميته ومكانته في مجتمع الألفية الثالثة فهو الغائب الأكبر في نصوص الدساتير التي عرفها المغرب الحديث. إنه شيء مزعج أن تخلو الوثائق الدستورية من الإشارة إلى كلمة ثقافة. فهل الثقافة والتربية بما تعرفه من مكانة في المجتمعات لا تستحق بضع كلمات أو فقرات في وثيقة الدستور؟ أما مجال الصحافة والإعلام والاتصال الذي يشكل عصب المجتمعات المعاصرة فالإشارة إليه تبقي محدودة في جوانب باهتة لا تعكس المكانة التي أصبح يحتلها الاتصال في عالم اليوم. ومن جانب آخر، فالحقوق الاجتماعية مختزلة على نحو كبير وتكاد تكون منعدمة في الوثيقة الدستورية على غرار موضوعة الثقافة والتربية.. فالإشارة إليها لا تتجاوز كلمة واحدة «الشغل حق للمواطنين على السواء» في الفصل 13 المشار إليه أعلاه مما يجعلنا في موقع متخلف في معالجة هذه الإشكاليات. ثانيا: الأحزاب السياسية تهتم بالسلطة السياسية على حساب السلطة الثقافية أولت المقترحات الأولية للأحزاب السياسية الجوانب الثقافية والاتصالية والاجتماعية اهتماما متفاوتا يبين حجم الخصاص القائم في الوثيقة الدستورية الحالية. لكن ذلك لا يعفي من بعض الملاحظات بشأنها. فعلى مستوى أول تبقى الجوانب الثقافية والاتصالية والاجتماعية في مستوى ثانوي بالمقارنة مع السياسي سواء من حيث درجة الاهتمام أو حجمه. وعلى مستوى ثان فهي مقترحات تبقى في غالبيتها ضمن حدود المبادئ العامة ولا تفرز نصوصا واضحة ودقيقة. وعلى مستوى ثالث فهي مقاربات جزئية تحتاج إلى تطوير واستكمال الاشتغال عليها لتصبح قادرة على أن تنظم على نحو متكامل في فصول الوثيقة الدستورية. إن الإشارات المبثوثة في وثائق الأحزاب السياسية يمكن أن تشكل مجتمعة، رغم التباينات القائمة بينها، قاعدة لإغناء حقيقي للوثيقة الدستورية في هذا المجال. لكنها لم تسجل حتى الآن مقترحات متكاملة لدى أي حزب سياسي. ثالثا: غياب المثقفين في الوقت الذي نلاحظ أن المغرب قد عرف في المدة الأخيرة تجاذبا واسعا حول القضايا المرتبطة بالثقافة والفنون ونقاشا حادا حول السياسات الثقافية، فإن ملاحظة عدد من المؤشرات تعبر عن مشاركة محتشمة للمثقفين والمفكرين والاتصاليين من مسرحيين وتشكيليين وسينمائيين وشعراء وكتاب في إثراء النقاش حول وضعية الثقافة والفنون والإبداع والتواصل من خلال الوثيقة الدستورية كقانون أسمى يحكم تطور المغرب الثقافي لعدة عقود، ونفس الملاحظة يمكن تعميمها على المؤسسات والهياكل الثقافية وخاصة المجتمع المدني. ليس ذلك وحسب، فالمساهمات المحدودة لبعض الفعاليات الثقافية والفكرية مشت في اتجاه مختلف، أي بمعنى آخر سارت في منحى السياسي ولم تهتم على النحو الكافي بالعوامل الثقافية والاتصالية والاجتماعية في الوثيقة الدستورية. من جهة أخرى، لا بد من التأكيد على ملاحظة ضرورية، فإذا ما كانت الأبعاد المرتبطة بالسلطة السياسية على تعددية مستوياتها ترتهن بتوافقات سياسية مرحلية تحددها موازين القوى السياسية القائمة، فإن الأبعاد الثقافية والاتصالية والاجتماعية في الوثيقة الدستورية هي مرتبطة بمدى وجود رؤية استشرافية عميقة لمسار التحولات. لذلك فالتساؤل الأساسي هنا هو: هل نسير نحو تبني رؤية شاملة وتعديل عميق في الوثيقة الدستورية كما عبر عن ذلك جلالة الملك في خطابه الأخير أم نقتصر على إخضاعها لبعض المعالجات التقنوية البسيطة؟ 1: الهوية هوية تعددية موحدة تشكل مسألة الهوية بارتباط بالبعد اللغوي عنصرا محددا لصلات الفرد بالجماعة في نطاق تاريخي بما يحمله من تطور وثراء إبداعي ثقافي وممارسة اجتماعية مرتبطة بالمكان والزمان. انطلاقا من ذلك فتدقيق عناصر الهوية المغربية والبعد اللغوي في الوثيقة الدستورية يقدم فرصة للمغاربة في اللحظة التاريخية الحالية لإعادة تدقيق مسألة الهوية وملاءمة ظروف العصر. وهو ما يطرح بحدة الحاجة إلى تأكيد الهوية الثقافية الوطنية المغربية التي انصهرت وقامت على روافد متعددة على ضوء الانفتاح القائم والتطورات الإيجابية في مجال الدمقرطة الثقافية والحقوق الثقافية، وهو ما يقود منطقيا إلى حتمية الاعتراف بتعددية الهوية المغربية والتعدد والتنوع اللغوي والثقافي في الوثيقة الدستورية ، وذلك بالإقرار بالهوية المغربية التعددية القائمة على التنوع اللغوي والثقافي واعتبار هذا التعدد مصدر غنى للمجتمع المغربي ووسيلة من وسائل التنمية الاقتصادية والاجتماعية. إن الهوية المغربية التعددية هي واقع يكتسب جذوره في البنيات العميقة للثقافة الأمازيغية المتمثلة في اللغة والثقافة والحضارة الأمازيغية المتفاعلة والمنصهرة مع عناصر الثقافة والحضارة العربية الإسلامية. لذلك فمن الطبيعي التأكيد على ذلك في ديباجة الوثيقة الدستورية والإشارة بوضوح إلى الطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة المتنوعة والمتعددة الروافد كرأسمال رمزي جماعي لكل المغاربة بدون استثناء. وارتباطا بذلك، فإن بعض التعديلات تفرض نفسها بالنسبة للفقرة الأولى من تصدير الدستور الحالي. عندما يتحدث الدستور عن الهوية الإسلامية وتأكيد اللغة العربية كلغة رسمية للبلاد يعتبر المغرب جزء من المغرب الكبير, وهي الفقرة التي لا نجدها بنفس الصيغة في نصوص الدساتير الأخرى. لذلك فالانسجام مع العناصر الأساسية للهوية المغربية كهوية تعددية وتوافقا مع نفس الرؤية للهوية المغاربية التعددية تقتضي هذه النقطة العودة إلى صياغة نص سنة 1962 واعتبار المغرب جزء من المغرب الكبير مع إمكانية إضافة فقرة حول انتمائيته للفضاء العربي الإسلامي والفضاء الإفريقي. 2: البعد اللغوي أ – اللغة العربية لغة رسمية لكل المغاربة يطرح الإشكال اللغوي قضايا دقيقة حول إعادة صياغة الخريطة اللغوية. ويقتضي ذلك الولوج إلى معالجته من المداخل الصحيحة. وأحد المداخل الصحيحة يتطلب التأكيد على مكانة اللغة العربية. فإذا كانت الوثيقة الدستورية تشير على نحو واضح أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد ضمن منطق أحادي، فالسياق التعددي الجديد مختلف. لذلك فإن تدقيق مكانة العربية يحتاج إلى وضوح أكثر. وبناء على ذلك يمكن التأكيد على أن اللغة العربية هي لغة كل المغاربة ولغة رسمية للدولة ومن واجب كل المغاربة معرفتها وحق استعمالها. إن هذا التوضيح يبين الموقف من اللغة العربية على نحو واضح كما أنه يحد من كل التباس قد يفهم من التنصيص على اللغة الأمازيغية كلغة رسمية ثانية. إن تعزيز مكانة اللغة العربية في الدولة المغربية الحديثة سواء في الحياة العامة والتعليم والإدارة والاقتصاد والإعلام يعد من الركائز الأساسية للتعددية اللغوية القائمة على الوحدة والتنوع. ومثل هذا الحل نجده في نماذج عديدة منها الدستور الإسباني حيث تنص الوثيقة الدستورية في الفقرة الأولى من الفصل الثالث منه على أن اللغة الإسبانية هي لغة رسمية لكل الإسبان ومن الواجب معرفتها واستعمالها، والعديد من الدساتير الأخرى التي تطرح فيها المسألة اللغوية على نحو ملح، منها الدستور السويسري والدستور العراقي والدستور الهندي ودساتير أخرى عديدة. لذلك، وتحسبا لكل سوء فهم، لا يمكن إدخال تعديلات على المنظومة اللغوية بدون توضيح بنية العلاقات التي تحكم بينها، وهنا يتعلق الأمر بالأساس بمكانة اللغة العربية. ب- اللغة الأمازيغية لغة رسمية ثانية إن هذا المقترح ذا المغزى السياسي يطرح التساؤل حول مدى تطبيقه على أرض الواقع: هل تتوفر الدولة المغربية على البنيات الضرورية لتفعيل إجراء دستوري من هذا النوع؟ إذا كان الدستور يستشرف تحولات ترتبط بالعقود المقبلة، فإن ذلك لا يعفي من إمكانية التنصيص على وضعية اللغة الأمازيغية كلغة رسمية ثانية في نطاق خطاطة تحدد على نحو دقيق وضعية اللغة العربية كما أوردنا أعلاه مع تحديد لعدد من الإجراءات التي يتطلب القيام بها لبلوغ هذا الهدف. إذا أكدنا على وضعية اللغة الأمازيغية كلغة رسمية ثانية وبالتالي لغة وطنية في نطاق هذا الوضع، فذلك يفرض التنصيص في الوثيقة الدستورية على الحقوق اللغوية وإبراز «حق كل فرد في استخدام لغته الأصلية، وبحرية اختيار لغة التواصل والتعليم والتربية والإبداع». يقدم لنا النموذج الإسباني صيغة المناطق المستقلة التي تتكلم بلغاتها الخاصة. وفي الحالة المغربية ذات الخصوصيات المميزة يطرح السؤال: ألا يمكن للجهوية أن تقدم حلولا عملية للممارسة اللغوية الواقعية في الجهات؟ إنها مجرد أسئلة تحتاج إلى تدقيق حتى نستطيع عن طريق وثيقة الدستور المقبلة تدبير أمننا اللغوي. ج – إدماج تدريجي كيف ما كان الجواب على السؤال الجوهري لمستوى دسترة الأمازيغية، فإن المغرب سيحتاج إلى مرحلة انتقالية للتأهيل اللغوي التعددي. فالوثيقة الدستورية تحتاج إلى إدراج فقرة تجسد المرحلة الانتقالية للتحول اللغوي وخاصة في مجالات الممارسة الاجتماعية اليومية للمواطنين وذلك بالإقرار ضمن فصل خاص لفقرة حول ذلك: «يجري العمل على نحو تدريجي لإدماج الأمازيغية في المستشفيات والمحاكم وكل المؤسسات والإدارات العمومية وكذا في كل معاهد التكوين في المناطق الأصلية» من جهة أخرى، إن كل هذه العناصر تحتاج إلى تفعيل على أرض الواقع وفق التدقيقات والعناصر المعرفية والتقنية المطلوبة. فلسنا بحاجة إلى إعادة توزيع جديد لمجالات الاستعمال اللغوي بقدر ما نحتاج إلى إجراءات وآليات تفعيل جديدة وآليات الحكامة اللغوية وهو ما يمكن للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية أن يلعب أدوار هامة بصدده، لذلك فدسترة هذا المعهد/ المجلس على غرار المجلس الوطني لحقوق الإنسان تبقى من المهمات المطروحة. د– حماية التراث اللغوي لا أحد ينازع في أن الثرات اللغوي المغربي في شتى تجلياته العربية والأمازيغية والحسانية والدارجة، الشفوي منه والمكتوب، هو ملك لكل المغاربة، لذلك من واجب الدولة صيانته وتنميته وتطويره عبر وضع كل الوسائل اللازمة لذلك كرأسمال رمزي وموروث لغوي ثقافي حضاري لكل المغاربة. وهو ما يقتضي التنصيص عليه في فقرة خاصة. 3: البعد الثقافي إن قراءة الوثيقة الدستورية الحالية تثبت وجود فراغ كبير في مجال الاهتمام بالمسألة الثقافية والحقوق الثقافية. ونظرا لما يحظى به المجال الثقافي والبعد الثقافي في التنمية وكذا في مجال التعبير كحق من حقوق الإنسان، والتطور الذي أصبح يعرفه المجال الثقافي في العالم اليوم، خاصة في مجتمع المعرفة والاتصالات، حيث الثقافة تشكل الحاضن الأساسي للعديد من الأنشطة الأساسية ورافعة للتقدم والتنمية، فإن الوثيقة الدستورية يجب أن تواكب هذه الدينامية التي تجعل من الثقافة عنصرا أساسيا في تطور المجتمعات المعاصرة وتتجاوز الوضعية غير الطبيعية لخلوها من الإشارة إلى الثقافة. أ- الحق في الثقافة والحرية اعتمادا على ما سبق، فإن إغناء الوثيقة الدستورية يفترض إدراج بعض الأفكار لأهميتها في ضمان حضور البعد الثقافي في هذه الوثيقة و إيلائه الأهمية اللازمة. وهي الحقوق المشار إليها كجزء من حقوق الإنسان في نص الخطاب الملكي الأخير. وهي كما يلي: -تضمن الدولة الحق في الثقافة - يكفل الدستور لكل فرد حرية الإبداع الأدبية والفنية والعلمية والتقنية وغيرها وحماية الملكية الفكرية. - لكل فرد الحق في المشاركة في الحياة الثقافية واستخدام المؤسسات الثقافية، والوصول إلى القيم الثقافية. - يلتزم الجميع بالرعاية وصيانة التراث التاريخي والثقافي، والحفاظ على معالم التاريخ والثقافة والحضارة المغربية. تبرز هذه المقترحات أهمية الحرية في مجال الثقافة والإبداع والتي لا يمكن للحرية السياسية أن تستكمل قوامها بدونها، فالحق في الثقافة والمشاركة والتفكير الحر والإبداع والحصول على القيم الثقافية وتداولها واستهلاكها على نحو حر هو مؤشر على سلامة البناء الديمقراطي الشامل للمجتمعات المعاصرة. ب – دسترة المجلس الأعلى للثقافة ومجالس جهوية إن الإشارة إلى المجلس الأعلى للثقافة في الوثيقة الدستورية هو بمثابة إعلاء للشأن الثقافي ومنحه مكانة متميزة موازية للبعد الاقتصادي. لذلك فالدعوة إلى ترسيم وإحياء المجلس الأعلى للثقافة الذي بقي جامدا لعدة سنوات وفي وقت تطرح فيه بإلحاح القضايا المتعلقة بالسياسة الثقافية باعتبارها قضية ترهن كل الأمة المغربية، مسألة تفرض نفسها. وفي نفس الوقت، فإن إدراج فصل خاص حول المجالس الجهوية للثقافة قد يشكل ترسيما للجهوية الثقافية ودعوة لإحياء المجالس الجهوية للثقافة التي لم تستطع القيام بواجباتها بحكم الظروف التي أحدثث فيها في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي. فضمن الظروف الجديدة لمشروع الجهوية والذي سيمنح الجهات آليات للمشاركة والمراقبة والتفعيل، قد تكون المجالس الجهوية للثقافة وفق صيغ جديدة آلية من آليات التدبير والتخطيط والتوجيه والمشاركة في العمل الثقافي على المستوى الجهوي بمساهمة فعاليات وطاقات جهوية. ويمكن أن تخصص لهذه الفصول الفقرات التالية: يتولى المجلس الأعلى للثقافة ممارسة الرقابة على تنفيذ السياسة الثقافية ويبذل المجلس الأعلى للثقافة مساعدته للبرلمان وللحكومة في الميادين التي تدخل في نطاق اختصاصاته. تتولى مجالس جهوية للثقافة وضع السياسة الثقافية على صعيد الجهات. إن اعتماد الفصول المتعلقة بالبعد الثقافي سواء تلك المتعلقة بالحقوق الثقافية والحق في حرية الإبداع وصيانة الملكية الفكرية للمبدعين وضمان المشاركة في الحياة الثقافية وتداول القيم الثقافية وكذا صيانة التراث الثقافي للأمة في شتى أشكاله، قد يشكل خطوة متقدمة تضع المغرب في مصاف الدول المتقدمة التي يشكل الحق في الثقافة والمشاركة الثقافية ودمقرطتها مؤشرا من مؤشرات قوة الدولة. كما أن تدبير السياسة الثقافية عبر مجالس جهوية للثقافة قائمة تحتاج إلى تفعيل ضمن صيغ جديدة من شأنه أن يكون استشرافا متقدما للتحولات القادمة مع مشروع الجهوية المتقدمة. 4: البعد التربوي كما أشرنا أعلاه، يلاحظ على دستور 1996 وكذا الوثائق الدستورية السابقة اختزال كبير لموضوع التربية والتعليم. لذلك فإن إعادة الاعتبار للمسألة التربوية في الوثيقة الدستورية يفترض إدخال بعض الفصول الجديدة التي تؤكد على نحو واضح التزام الدولة المغربية بقضايا التربية والتعليم. وعلى ٍرأس هذه الالتزامات تلك المتعلقة بمحو الأمية التي لازالت تشكل آفة مشوهة لصورة المجتمع المغربي المعاصر في ظل مجتمع المعلومات والمعرفة. ويحتاج النظام التعليمي المغربي إلى التزام دستوري لجعله منصفا وعادلا. فكما أشارت إلى ذلك خلاصات تقرير اليونسكو لسنة 2010 فإن النظام التعليمي يعاني من أزمة مزمنة ودرجة الإنصاف في مستوى متدني مع زيادة العدد المطلق للأميين وارتفاعه بين البالغين ونواقص كبيرة فيما يتعلق بالصلات بين التعليم والتكوين ومتطلبات سوق الشغل وضعف التوجيه رغم الجهود المبذولة خلال العشرية الأخيرة. يقتضي ذلك ضرورة تأكيد التزام الدولة الواضح بضمان الحق في التعليم وولوج المؤسسات التعليمية في المستويات الابتدائية والثانوية، وتكافؤ الفرص. وتشمل الأفكار الأساسية لهذه الفصول العناصر التالية: - الحق في التعليم والتربية كحق من حقوق الإنسان. - محو الأمية واجب وطني تجند كل طاقات الأمة من أجل تحقيقه. - التعليم الأساسي العام إلزامي وعلى الدولة ضمان حصول الأطفال- لغاية 16 سنة- على التعليم الأساسي. - حق الولوج إلى التعليم ما قبل المدرسي والتعليم الأساسي والثانوي العام والمهني. - تيسير التعليم العالي و تعميمه. - حرية الاختيار في التعليم. - يضمن الدستور للأفراد إنشاء المدارس الخاصة وفقاً للقانون. - تتمتع الجامعات بالاستقلالية وفق القانون. - دعم العلوم والبحث العلمي والتقني وتشجيعه بكل السبل لخدمة الصالح العام. إن اعتماد هذه الفصول الخاصة بجوانب التربية والتعليمية من شأنه أن يعطي حضورا هاما للبعد التربوي في الوثيقة الدستورية ويصلح العطب القائم في الوثيقة الحالية والتي تكتفي بالإشارة إلى المسألة التربوية التعليمية في كلمة واحدة يتيمة. 5: البعد الاتصالي يرتبط البعد الاتصالي بأبعاد حرية التعبير وممارستها، ويرتبط بكونه منصوصا عليه كحق في الاتصال ضمن الحقوق المشار إليها في المواثيق الدولية. وتكاد الوثيقة الدستورية تختزل هذا البعد في بعض العناصر المرتبطة بحرية الرأي والتعبير. مثل حرية التجول وحرية الاستقرار بجميع أرجاء المملكة؛ وحرية الرأي وحرية التعبير بجميع أشكاله وحرية الاجتماع؛ وحرية تأسيس الجمعيات وحرية الانخراط في أية منظمة نقابية وسياسية حسب الاختيار. كما ينص على ذلك الفصل التاسع من الدستور الحالي. وهو ما يقتضي التجاوب مع التطورات الحاصلة في هذا المجال وإدراج بعض المقترحات منها: - الحق في الإعلام. - وسائل الإعلام العمومية ذات وظائف اجتماعية وتربوية في البناء الديمقراطي، وظيفتها الأساسية رفع مستوى الوعي العام في جميع المجالات. - لكل فرد الحق في طلب والحصول على المعلومات ونقلها وإنتاجها ونشرها بحرية بأي وسيلة قانونية. ويتم تعيين قائمة من المعلومات التي تشكل سرا من أسرار الدولة بموجب القانون. - الحق في الولوج إلى الإعلام السمعي البصري بمقتضى القانون - يقوم على شؤون الصحافة مجلس أعلى يحدد القانون طريقة تشكيله واختصاصاته وعلاقاته بسلطات الدولة - ويمارس المجلس اختصاصه بما يدعم حرية الصحافة واستقلالها، ويحقق الحفاظ على المقومات الأساسية للمجتمع، ويضمن سلامة الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي وذلك على النحو المبين في الدستور والقانون. - ينظم القانون من خلال الهيأة العليا للسمعي البصري وتحت مراقبة البرلمان وسائل الإعلام العمومية ويضمن ولوج المجموعات الاجتماعية والسياسية وفق مبادئ التعددية والتنوع اللغوي. - تضمن الدولة وفق القانون الحق في الصورة. - يمنع بموجب القانون تبديد الأرشيف بكل أشكاله. من شأن إدماج هذه العناصر أن يفرز رؤية أكثر رحابة لقضايا الإعلام والاتصال ويجعل المغرب من بوابة دستوره يتوق إلى ولوج مجتمع المعلومات والمعرفة التي حددته الأممالمتحدة ضمن أهداف الألفية. 6: البعد الاجتماعي من الصدف أن تتلاقى بعض المطالب الدستورية لبداية العقد الثاني من الألفية الثالثة مع تلك التي رفعها إصلاحيو بداية القرن العشرين. ذلك ما تؤكده وثيقة معنونة ب «حفريات عن الحركة الدستورية بالمغرب»، وهي مذكرة من كاتب مجهول إلى الملك مولاي عبد العزيز اكتشفها وقدمها علال الفاسي. تنزع هذه المذكرة وفق منطق وقتها إلى المطالبة بوسائل الاكتفاء الذاتي لتمويل الإصلاحات المنشودة (وإغناء الفقراء) أي تحقيق عدالة اجتماعية عن طريق الضمان الجماعي لكل أفراد الأمة. وذلك قابل للتحقق حسب مؤلف الوثيقة من خلال تمويل من وزارة الأوقاف التي يجب أن يكون لها مجلس ضمن بنية خاصة من مهامها إغناء الفقراء عن طريق صندوق للفقراء يمول من الزكوات والصدقات غير الواجبة، والوصية في العمالات التي لها تعيينات دائمة، والأوقاف المعينة على الضعفاء وصناديق الصالحين كما جاء في مقدمة علال الفاسي. إن قراءة الأفكار الواردة في هذه الوثيقة- المذكرة تبرز البعد الاجتماعي لإصلاحيي بداية القرن الماضي وتثير السؤال الاجتماعي في المشروع الدستوري الجديد ومدى القدرة على دسترة فقرات عن هذا الجانب تجعل بلادنا ضمن صف الديمقراطيات الاجتماعية. يشكل التنصيص على الجوانب المتعلقة بالبعد الاجتماعي في الوثيقة الدستورية صمام أمان، وتوجيها لمختلف المؤسسات، بأهمية البعد الاجتماعي وإسقاطاته على الأمن الاجتماعي والاستقرار. فحقوق المواطن الاقتصادية والاجتماعية في مختلف الدساتير المغربية شكلت حلقة ضعيفة وعبرت عن خصاص كبير في معالجة الدستور للقضايا الاقتصادية والاجتماعية وهو ما يستوجب تقويمه. ومن بين أهم النقاط المرتبطة بذلك: - حماية الأمهات ولا سيما في مرحلة الحمل وحضانة الطفل ، ورعاية الأطفال الذين لا معيل لهم. - حماية الصحة العامة وتطوير النظم الصحية والعلاج في المرافق الصحية العامة وتنمية الثقافة البدنية والرياضة. - لكل شخص الحق في العمل ويحترم الحد الأدنى للأجور وفق ماهو منصوص عليه في القانون والحق في الحماية من البطالة. - تكفل الحماية الاجتماعية للشيخوخة والمرض والعجز، وفقدان المعيل لتعليم الأطفال. - الحق في الحصول على المياه. - لكل شخص الحق في الراحة والعطلة مدفوعة الأجر وفق القانون. إن تطعيم الوثيقة الدستورية ببنود الشق الاجتماعي يمكن من وثيقة متوازنة تستجيب للإكراهات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة على جدول أعمال اليوم. خلاصة: في الختام نشير إلى أن إدراج هذه الأبعاد من لدن اللجنة المكلفة بمراجعة الدستور من شأنه بلورة مراجعة دستورية عميقة تتجاوز الرؤية الاختزالية التي تقف عند الأبعاد السياسية للوثيقة الدستورية وتهمل إيلاء الأبعاد الثقافية والاقتصادية والاجتماعية مكانتها اللازمة. وهو ما يتوافق وتوجهات الخطاب الملكي الذي حدد رؤية شمولية للإصلاحات الدستورية وعبر عليها على نحو واضح في المرتكز الثاني للإصلاح الدستوري حين أكد بوضوح على «ترسيخ دولة الحق والمؤسسات، وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية، وضمان ممارستها، وتعزيز منظومة حقوق الإنسان، بكل أبعادها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية، والثقافية والبيئية، ولاسيما بدسترة التوصيات الوجيهة لهيأة الإنصاف والمصالحة، والالتزامات الدولية للمغرب». ليس ذلك وحسب، نحن اليوم بحاجة إلى صياغة وثيقة دستورية ذات توجهات شمولية ونوعية تعيد الثقة والمصداقية للمؤسسات ودولة الحق والقانون لا يقف نقاشها على الأحزاب السياسية والهيئات النقابية فقط، بل يعني أيضا كل الفعاليات المختلفة من المجتمع المدني والمثقفين ونخب المغرب الحديث، فالأمر يتعلق بإشراك واستثمار كل الرأسمال الثقافي الوطني في نقاش قضايا تهم مستقبلنا القريب والبعيد، وهي وثيقة تشبع الحاجيات والتطلعات الحقيقية للمغاربة اليوم والقضايا الجديدة التي يطرحها عالم اليوم ومغرب اليوم المتحول. أستاذ بالمعهد العالي للإعلام والاتصال * مداخلة قدمت في المائدة المستديرة التي نظمتها منظمة حريات الإعلام والتعبير بالمكتبة الوطنية يوم الجمعة 27 أبريل المنصرم وأيضا بندوة النقابة الوطنية للتعليم العالي حول موضوع «دستور مغرب القرن 21 « يوم 20 أبريل 2011.