النمسا تدعم التصريح المشترك الصادر عن رئيسة المفوضية الأوروبية والممثل السامي للاتحاد الأوروبي وتجدد التأكيد على تشبثها "بعلاقاتها الممتازة" مع المملكة المغربية    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يكشف تفاصيل لقائه مع وزارة الصحة لتنفيذ اتفاق 23 يوليوز 2024    أستاذ جامعي يلجأ للقضاء بعد تعرض حساباته ومجلته الأكاديمية للقرصنة والاختراق الإلكتروني    رسالة جهوية تلغي مكتب الجامعة الوطنية للتعليم بالجديدة    استبعاد شخصيات ريفية من اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال يثير الجدل        سعر صرف الدرهم يستقر مقابل الأورو ويتراجع مقابل الدولار    ريال مدريد يكشف تفاصيل إصابة كارفاخال الخطيرة.. ومدة غيابه تتراوح ما بين 8 و 10 أشهر    تصفيات "كان" 2025.. نفاذ تذاكر مباراة المغرب وإفريقيا الوسطى بعد يوم من طرحها    الآلاف يخرجون في مسيرة في الرباط تضامنا مع غزة وبيروت    غوتيريش يدعو إلى وقف "سفك الدماء" في غزة ولبنان    الجزائر تكشف تورطها في ملف الصحراء بدعم قرار محكمة العدل الأوروبية ضد المغرب    انتخابات رئاسية باهتة في تونس يغيب عنها التنافس    نتانياهو يصف دعوة ماكرون للتوقف عن مد إسرائيل بالأسلحة "بالمخزية والعار    إنطلاق أكبر مسيرة وطنية في الرباط دعما لفلسطين ولبنان في الذكرى الأولى للسابع من اكتوبر (فيديو)    المغرب يحاصر هجرة ممرضيّه إلى كندا حماية لقطاعه الصحي    منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة…أسعار الغذاء تسجل أعلى زيادة شهرية        ولي العهد الأمير مولاي الحسن يترأس بالجديدة نهائي النسخة ال7 من الجائزة الكبرى للملك محمد السادس للتبوريدة    أنفوغرافيك | بالأرقام .. كيف هو حال إقتصاد غزة في الذكرى الأولى ل "طوفان الأقصى" ؟    طقس الأحد.. زخات رعدية ببعض مناطق المملكة        افتتاح المسبح المغطى السومي أولمبي بتاوريرت    أمام "سكوت" القانون.. "طروتينيط" تغزو شوارع الحسيمة    الجامعة المغربية لحقوق المستهلك…تأكد صحة وثيقة تلوث مياه "عين أطلس"    23 قتيلا في غارات اسرائيلية على لبنان    التونسيون يصوتون في انتخابات الرئاسة وأبرز منافسي سعيد في السجن    جولة المفاجآت.. الكبار يسقطون تباعا وسطاد المغربي يتصدر الترتيب    معرض الفرس الدولي في نسخته 15.. غاب عن فعالياته رواق وعروض ال DGSN    ترامب يعود لمكان محاولة اغتياله: "لن أستسلم أبداً"    انطلاق برنامج الحملات الطبية المصغرة لفائدة الساكنة القروية بإقليم إفران    أمن طنجة يحقق مع سيدة هددت شابة بنشر فيديوهات جنسية لها    بين أعالي الجبال وقلب الصحراء .. تفاصيل رحلة مدهشة من فاس إلى العيون    التعادل يحسم مباراة الحسنية والوداد    عودة ليزلي إلى الساحة الموسيقية بعد 11 عامًا من الانقطاع    منتخب U20 يواجه فرنسا وديا استعدادا لدوري اتحاد شمال إفريقيا    رغم تراجعه عن مطالبته بوقف تسليح إسرائيل.. نتنياهو يهاجم ماكرون: سننتصر معك أو من دونك وعارك سيستمر لوقت طويل (فيديو)    "أندلسيات طنجة" يراهن على تعزيز التقارب الحضاري والثقافي بين الضفتين في أفق مونديال 2030    ENSAH.. الباحث إلياس أشوخي يناقش أطروحته للدكتوراه حول التلوث في البيئة البحرية    وفاة الفنانة المغربية نعيمة المشرقي عن 81 عاما    مصدر ل"برلمان.كوم": المغرب يواصل تنويع شراكاته ويمدد اتفاقية الصيد مع روسيا.. وقرار العدل الأوروبية عزلها دوليا    الفنانة المغربية نعيمة المشرقي تغادرنا إلى دار البقاء    في عمر ال81 سنة…الممثلة نعيمة المشرقي تغادر الحياة    وفاة الممثلة القديرة نعيمة المشرقي بعد مسار فني حافل بالعطاء    معاناة 40 بالمائة من أطفال العالم من قصر النظر بحلول 2050 (دراسة)            دراسة تكشف معاناة 40 % من أطفال العالم من قصر النظر بحلول 2050    قافلة المقاول الذاتي تصل الى اقليم الحسيمة    مهنيون يرممون نقص الثروات السمكية    تسجيل حالة إصابة جديدة ب"كوفيد-19″        وزارة الصحة تكشف حقيقة ما يتم تداوله حول مياه "عين أطلس"    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التعددية والتنوع والاختلاف .. جدليات الهوية المغربية

طرحت جوانب تهم الهوية أو ذات أبعاد ترتبط في الآونة الأخيرة على أكثر من صعيد. فليس القصد من هذه التأملات التدخل في ما أثير حول دفتر تحملات قنوات التلفزة العمومية أو الرجوع إلى الجدل الذي استثير مرة أخرى حول المهرجانات الفنية وإشكالات تمويلها وتنظيمها وكيفية تطوير محتوياتها ومواقيتها.
قصدنا الموضوعي، وغايتنا التذكير بقدرات المجتمع المغربي على تجاوز وحل مختلف جوانب الاحتقان والإنذار بالدخول في مواجهات إذا ما تمت مراجعة النفس كلما ظهرت هناك مغالاة أو تبين أن هناك منزلقات منبثقة عن التمسك برأي أو بفكرة أو الإمعان في موقف لم يستسغه الذوق العام أو لم يستوعبه المغاربة كأمة واحدة ولم تتقبله فئات عريضة من النسيج الاجتماعي. وفعلا فللمغرب تراكمات وله إمكانات ترسخت لديه كنتيجة للكيفية التي تكون بها كوجدان وكحضارة وكتشكيلة اجتماعية ميزها الوعي بمزايا القبول بالآخر والاجتهاد في فهمه وتفهمه. فنحن بلد ارتكز استمراره وانبنى على التسامح والبحث عن التفاهم وبلد الانفتاح على مختلف روافد التلاقح والتساكن البشري في منطقة جغرافية غنية من حيث التاريخ وحركية التداخل والانصهار بين الأمم.
لقد أفضى بنا تأملنا حول ما أثير من ملفات لها بعد هوياتي أو تفرض معالجتها بناء على فهم دقيق لمكونات الهوية المغربية إلى ضرورة القيام بالتذكير بأن المغرب اكتسب عبر تراكمات الجهاد الوطني التحرري ومعارك النضال في اتجاه إرساء أسس النهج الديمقراطي مقومات لتلاحم نسيجه الاجتماعي وقيما لرسم سبل تناول ومعالجة قضايا حاضره ومستقبله. وهي مقومات وسبل يتعين الحفاظ عليها وتنميتها لأنها أسست لما يشكل اليوم خصائص كبرى لمجتمعنا المتفتح والمنفتح ولنسيجنا الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الغني بمظاهر تنوعه والقوي بتعدد روافده. وهي روافد أنتج تمازجها ومكن تعدد مصادرها، جغرافيا وتاريخيا، من صقل شخصية منفردة تسطع اليوم كحضارة متميزة في بلد متميز هو المغرب.
بلدنا اليوم، هو تعددية أنضجتها صيرورة تاريخية منفردة. المغرب اليوم، بلد يزخر بنسيج اجتماعي تؤطره -غالبا وجماهيريا- قيم التسامح والتعايش وقبول الآخر. المغرب ومنذ مدة بلد يتفهم الاختلاف والتعدد ويستوعبهما كمرتكزات للتطور والتقدم الذي هو أخذ وعطاء عبر الأجيال والحدود.
من بديهيات الوضع في بلادنا ولربما من مزاياه الأولى والرئيسية الإنسية المغربية على مقومات نعتبرها، بحكم تجربتنا المتواضعة، منفذا صلبا نحو الحداثة في المجال السياسي كما في المجال الثقافي وفي المجال الاقتصادي وأخيرا في مجال العلاقة مع العالم.
I - في المجال السياسي: نهج تعددي متقد نحو تطوير
و دمقرطة حكامة الشأن العام
يعتبر الدفاع عن التعددية دفاعا عن الحق في الاختلاف في مضمار التوجه السياسي واختيار نمط الحكامة الذي تم الاقتناع به. لذلك فالدفاع عن التعددية والدفاع عن حق الاختلاف سياسيا هو منفذ بناء الديمقراطية من حيث هو أداة لتجاوز الفكر الشمولي والنهج الاستبدادي. فالحداثة في معناها الواسع ومن الزاوية السياسية هي مسلسل ترشيد لأوجه الحياة السياسية قصد انتصار قواعد جديدة وأكثر ملاءمة مع التطور من النهج التقليداني في الحكم وفي تسيير الشؤون العامة.
الحداثة السياسية بهذا المعنى، هي توجه للانتصار على التوجه العتيق المنبني على تصور للزعامة وللقيادة السياسية وكأنها خارجة عن إرادة الناس وفوق وعيهم وإدراكهم ومراقبتهم.
وبالرجوع إلى وضعية المغرب، فمنذ بداية الحركة الوطنية وتأجج معاركها سياسيا حدث انقسام داخلها وارتبط لاعتبارات ذاتية أو موضوعية بالدفع نحو تجاوز فكرة الحزب الوحيد والرأي الوحيد. لذلك ورغم وجود كتلة حزبية قوية قوامها العمل من أجل الاستقلال، ويوحدها توجه إصلاحي لأوضاع بلد فقد جوانب أساسية من سيادته، فرهانات حمل المغاربة لفكرة الاستقلال ارتبط ببناء مغرب متحرر ومغرب تعددي حيث تتلاقح مستلزمات الحداثة كتوجه نحو الدفاع عن كرامة المغاربة وحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية.
المطلب من أجل الاستقلال، ارتبط بالمطلب من أجل الاصلاحات، ورغم وجود توجه وطني عارم ظهر وكأنه يعطي الأولوية المطلقة للتحرر والاستقلال على المطالبة بنهج الاصلاحات كالتزامات لنظام الحماية المفروض على البلاد، فهو قد تعايش إلى حد ما مع التوجه الإصلاحي بجانب جناحي الحركة الوطنية. برز كذلك التوجه الشيوعي الضئيل النفوذ جماهيريا رغم تأثير المنطق الذي كان يحمله عبر الأوضاع الجيوسياسية وارتباطا في البداية بالحزب الشيوعي الفرنسي في فترة الحرب العالمية الثانية.
وجاءت فترة ما بعد الاستقلال مباشرة لتترجم فكرة التعددية على أرض الواقع حيث إن قانون الحريات العامة الذي سن سنة 1958 جاء ليعطي للتعددية قاعدة تاريخية بفضل الفلسفة التي انبنى عليها والتي راعت تمتيع المغاربة كأفراد بعدد من الحريات في التعبير والتجمع والنشر والعمل السياسي والنقابي بما وضع مشروع بناء المغرب المستقل على أسس تحترم التنوع والاختلاف والتميز في طرح نظرة أو تصور معين للمشروع المجتمعي المنشود لبناء الوطن المستقل.وبطبيعة الحال، لم يصمد هذا التوجه كثيرا لما بدأت تدخلات الإدارة وبإيعاز من نهج معين تربك التوجه التعددي، بل وتقوضه تدريجيا على المستوى السياسي من حيث زرع تلك الثنائية بين أحزاب وطنية تقرر تقسيمها وبث البلبلة بين صفوفها وأحزاب إدارية تدعم وتجهز وتجمع لها الحشود، أي بين أحزاب انبثقت طبيعيا من رحم المجتمع وتتميز عن بعضها البعض وأحزاب اصطنعت وهيئت للوجود بقرار إداري. لذلك شهدت هذه المرحلة انزلاقات حيث عوض أن تظل التعددية سمة طبيعية تعكس مشاريع مجتمعية مختلفة تم انتهاج تدخل في النسيج السياسي كانت نتيجته إعاقة التطور الديمقراطي والزيغان به من صراع حول المشاريع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الى صراع للولاءات بالرغم من أن النظام الملكي لم يكن موضع تساؤل أو موضع رفض مبدئي.
فهذا الوضع هو الذي كان السبب في إحداث آليات الريع السياسي، ومن ثم لازمته ممارسات الفساد والتجاوزات التي لحقت بالحريات العامة في الوقت الذي كان فيه المغاربة متفقين ومتوافقين على صيغ إبراز الثوابت القارة، وخاصة وحدة المذهب داخل الدين الاسلامي الحنيف ومقومات الوحدة الترابية ومركزية النظام الملكي في البناء الوطني. فبدل التركيز على توجه الجميع نحو المساهمة في إنضاج التطور الديمقراطي المنشود للبلاد، أصبحت شوائب الريع السياسي تؤثر على النسيج الحزبي وعلى هرمية العلاقات بين مكوناته المفضلة حسب الظرفيات وعبرها على طبيعة المؤسسات المنتخبة، محلياً ووطنياً، ومن ثم على طريقة تصريف السياسات العمومية بشكل ضيع على المغرب فرصاً حقيقية لكسب رهانات التنمية وتطوير الممارسة السياسية على قاعدة احترام الاختلاف والانتفاع من التعدد.
وإلى جانب التقاطب الناجم عن تفشي آليات الريع السياسي ستظهر تقاطبات أخرى برزت فيما بعد مع ظهور نزعات نحو تكوين »»جمعيات»« ثم تيارات ثم أحزاب على أساس ديني أو على الأصح على أساس نظرة أو تأويل أو قراءة لعلاقة التدين بالسياسة. ففي مغرب اليوم، توجد تيارات وأحزاب إسلامية وهي إلى حد كبير أحزاب انبثقت من مخاضات المجتمع.
فإذا كان وجود أحزاب» »المرجعية الاسلامية»« اليوم من بداهات الحقل السياسي، فإن انبثاقها وجزءاً من ممارساتها خلق انزلاقات ترجع إلى كونها أحزابا ربطت وجودها بالدين أولا، وبالإعلان القسري عن احتكار. وككل احتكار، فهو نهج متعسف ولا يقبل بالرأي الآخر، بل يعمل في اتجاه تجاهله ثم إلغائه. وفي ذلك، تطاول في ذات الوقت الذي بقي فيه الدين الاسلامي الحنيف يشكل لحمة المجتمع وعنصر وحدته وعروته الوثقى. ومن هذا المنطلق، نشأت آليات ريع من نوع جديد يسميه عدد من الملاحظين بالريع «»الديني»« تمييزاً له عن مصادر أخرى من أنواع الريع الذي تعددت أنويته ضمن المنطق العام الذي يخيم على سير المجتمع المغربي.
ففي الوقت الذي نتوق فيه إلى بناء مؤسسات ديمقراطية على أسس موضوعية، لا مناص من تجاوز كل مزالق التقوقع والتشدد باسم الهوية أو باسم تأويل معين وأحادي للدين وللمعتقد الجماعي. وذلك حتى لا نقع ضحية استلاب لا يخدم تطورنا كبلاد وكحضارة. وحتى لا نجد أنفسنا موضع تفرقة مصطنعة تخدم مصالح سياسية وفئوية لا علاقة لها ببناء نمط التقدم السياسي الذي دونه الدستور الجديد لبلادنا.
ونحن موقنون بأن الانفتاح الواعي، ليس الانغلاق والادعاء بأصالة مزعومة وخارج سياق التلاقح الحضاري للقرن الواحد والعشرين لبلادنا، هو سبيل الدفع نحو تطور المغرب وانبثاقه داخل حظيرة الأمم. فاعتزازنا بمقوماتنا الحضارية والعمل على تطويرها هو مصدر المناعة الحقيقي، لأنه أساس التناغم المنشود مع محيطنا الجيو سياسي ومع الآفاق التي يفتحها لها التاريخ ويطرحها عليها كخيارات موضوعية.
إن الانفتاح المرتكز على الثقة بالنفس، وعلى الإعداد لمستلزم التلاقح الحضاري ولإكراهات التعامل مع الآخر القريب أو البعيد، أخذاً وعطاء، هو مفتاح امتلاك التطور والتحكم في مجرياته ضمن صيرورة الحداثة كحتمية تاريخية.
من البديهي إذن، أن تيسير أسس التعددية السياسية ورعاية أنماط مشروعيتها ، شرط أولي لبناء الدولة العصرية من منطلق الحداثة والانفتاح الداخلي والخارجي. فاحترام التعددية داخل فضاء دولة الحق والقانون هو المدخل الملازم لخلق مرتكزات دينامية للتطور السياسي الذي سيقي المغرب من كل مخاطر التطرف والفراغ في الحقل السياسي. كل ذلك ضمن التوجه الذي جاء به تصدير الدستور الذي يقر أسس مناعة الدولة عبر المشاركة الواعية للمواطنين والمواطنات، والتعددية في إطار ملكية دستورية ديمقراطية برلمانية واجتماعية.
II التعددية الثقافية بالمغرب: مرتكز ثراء وإشعاع
التعددية الثقافية هي أساس الإنسية المغربية تاريخياً وجغرافياً. فللتنوع الجغرافي بالمغرب انعكاساته على تشكل الشخصية المغربية وعلى بروز مكوناتها وروافدها التي تلحم الوعي الوطني وتغذي تلاقح مكوناته، الذي أفرز ذلك الوعي الجماعي بالشخصية المغربية والاعتزاز بالانتماء إليها. فالمغرب، الذي هو سهول وجبال وبحار وصحار ، هوية ترابية تتجسد في تنوع معطيات الفضاء الجغرافي بموقعه المنفرد وبتراثه الفني والعمراني، بأهازيجه وبلهجاته ولغات تواصل مجموعاته البشرية، وبخصائصه الثقافية والحضارية التي يتقاسمها ويحافظ عليها سكانه على مر الحقب التي جمعتهم وشدتهم إلى بعضهم البعض كمصالح متقاسمة وكمصير مشترك.
فحينما يذكر المغرب في عالم اليوم، يذكر بكل فصاحة كهوية تميز تراباً وطنياً، هوية تشكلت من تكون رباط روحي مع مجمع من الأمكنة انصهرت فيه ومن خلاله الإنسيةالمغربية، فانغرست بذلك وفي ثنايا هذه الأرض المضيافة علامات ورموز تحكي تاريخ المغاربة المشترك وتذكر به الأجيال تلو الأجيال.
في تنوعه المتعدد الأبعاد، يظهر المغرب كذلك كتنوع ناتج عن خصوصيات تطور تاريخي، انبنى على أساس تمازج، ولدته تأثيرات لم تنمح بل انبعثت مع الفتح الإسلامي واغتنت بما حملته مختلف التيارات البشرية المتوافدة على هذا الجزء أو ذاك من البلاد بدءا بتأثيرات الأسر المالكة والسلالات الحاكمة المنحدرة من الصحراء ومرورابما خلفته مرحلة المد والجزر مع الأندلس من إنتاج حضاري متميز معماريا وفكريا، وما بصت به عمليات الاحتلال القادمة من أوربا وخاصة من البرتغال وإسبانيا عددا من الثغور والمناطق الشاطئية، بما ترك رواسب مازالت وإلى اليوم تبتر وحدتنا الترابية في الشمال، وانتهاء بما خلفه عهد الحماية الفرنسية والإسبانية مع كل ما واكب هذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا المعاصر على مستوى موقع المغرب وقدراته الاقتصادية ومؤهلاته للتعامل مع مستلزمات الانفتاح.
من هذا المنطلق ولاعتبارات، تتعلق بمستلزمات الوعي بما شكلته مساهمات هذه الروافد المتلاحقة والمتنوعة بل والمختلفة أيضا من إضافات نوعية على المخزون الثقافي الوطني وعلى مستوى تلاقح مكوناته بما خلق سمات وخصائص منفردة للثقافة المغربية داخل الثقافة العربية والثقافة الإفريقية، كان الدستور الجديد في تصديره حريصا على عدم إغفال التعددية الثقافية التي تزخر بها البلاد. ومن المفيد في نظرنا التذكير بالفقرة الثانية من هذا التصدير: «»المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء«.»
واضح إذن، أن الفلسفة التي اعتمدها ا لدستور كنبراس لمعالجة أوجه الفرق الثقافي ومظاهر التميز الثقافي بين مكونات البلاد، فلسفة تنبني على مقاربة إدماجية، لأنها تأخذ بتنوع المعطى الثقافي كمكون حي لبناء المجتمع المغربي الديمقراطي الحداثي أي كعنصر تلاحم وانصهار بما هو محاط به من ضمانات الاعتراف بالحقوق الثقافية والتي هي من صميم مبادئ تجسيد الديمقراطية داخل المجتمع.
ففي عالم اليوم تخضع الظواهر الثقافية كذلك لمنطق العولمة ومن ثم تثير التغيرات التي تلحق بالحقل الثقافي هنا أو هناك، جدلا متقدا ومشوبا ?غالبا-بعواطف جياشة، لأن هناك مظاهر ثقافة غالبة ومهيمنة تصدم وتتجه نحو تنقيص بل وإزاحة أوجه متعددة ومتزايدة من ثقافات مغلوبة.
هكذا لا تظهر مؤشرات التبادل الثقافي في سياق العولمة كتبدال يتسم ببعض التكافؤ يقل أو يتدنى حسب السياقات ومستويات الاندماج في العولمة ا لزاحفة بل تبدو كمظاهر تنافر وعداوة تتغذى مما سمي بحتمية »»صدام الحضارات»«. وبطبيعة الحال، فإن البلد الذي يريد أن يقي نفسه من شرور هذا المنحى بلد مطالب بأن يعمل في اتجاه تمنيع نفسه. فلن يستقيم التمنيع حتى مع أعتى ومواقف الرفض والمناهضة باسم الأصالة وصيانة الذات. ولن يتم لا بالمسايرة لغلبة التوجه المسيطر ولا بالاستسلام للمنطق البضاعي للثقافة المنتصرة عالميا اليوم. وهو كذلك لن يتأتى حتى مع وجود اتفاقيات ومعاهدات دولية لحماية وإنعاش التعبيرات الثقافية. التمنيع مسألة مساهمة في المد الحضاري البشري.
فالبشرية اليوم، تعيش، ثقافيا ومن جديد، على إيقاع مخاوف غلبة تامة لوجه من وجوه الحضارة الغربية على التعدد الثقافي الكوني. وإذا كانت هذه المخاوف تعيد إلى الذاكرة ما تم -مرارا وتكرارا -خلال حقب سابقة، فهي ?الآن- تجد سندها الأقوى في الإمكانات الهائلة التي تتوفر ?اليوم- مع الثورة الرقمية من جهة، ومع مسلسل تصنيع »وتبضيع« الثقافة.
وبالنسبة إلينا في المغرب، وجب استعمال كل ما يوفره الإمكان التكنولوجي الجديد من أجل ضمان استمرار وإشعاع الأوجه المشرقة في ثقافتنا من خلال ضمان الحفاظ علي تنوع التعبيرات الثقافية في ربوع البلاد، وذلك بالسهر على تطويرها ليس كتراث جامد بل كوجه حي من وجوه حياة الناس وإبداعهم.
III التنوع الاقتصادي ونبذ ثقافة الريع
على خلاف جل بلدان جنوب البحر الأبيض المتوسط، يظهر المغرب كبلد محظوظ من حيث هو بلد غير نفطي ومن تعامل مع غياب النفط كفرصة مهدت وتعدد في مرتكزات اقتصاده.
اقتصاد المغرب اليوم، اقتصاد ينبني على عدة قطاعات من فلاحة وصيد بحري وصناعة عصرية ومعدنية وتقليدية وسياحة وخدمات. وكل قطاع اقتصادي في حد ذاته يضمر تعددية من حيث التموضع ونمط التنظيم حيث تظهر التعددية في تساكن قطاع عام وقطاع خاص بأحجام مختلفة ومتباينة من زاوية الوحدات والمقاولات ومن وجهة نظر المهام والموقع في سير الاقتصاد الوطني ككل.
فللقطاع العام بالمغرب مهام تتلخص في ترجمة وتجسيد الاختيارات الاستراتيجية للبلاد. وهو توجه بقي هذا القطاع يحمله حتى مع عمليات الخوصصة وإصلاح وإعادة انتشار المقاولات العمومية. بل يمكن أن نجزم أن هذه العمليات صاحبها اتساع للقطاع العام.لذلك يظهر تأثير القطاع العام في مختلف مجالات العمل الاقتصادي وله وقع على التنوع الذي يتسم به الجهاز الانتاجي الوطني. وهو كذلك تنوع في الأدوار التي لعبها كقاطرة للتطور الاستراتيجي وكرافعة لنمو الإنتاج أو التسويق وكذلك كأداة مصاحبة وتحفيز على تطور النسيج الاقتصادي ووسيلة لمحاربة الفقر.
التنوع التنظيمي في اقتصاد المغرب واضح اليوم في مسلسل التطور الذي شهده انبثاق القطاع الخاص داخل مختلف فروع النشاط الفلاحي والصناعي والتجاري والخدماتي. وإذا كان تطور عدد من مجالات نشاط القطاع الخاص مدينا للمجهود الذي لعبته الدولة من خلال مصاحبتها ومؤازرتها المتعددة الأوجه للمبادرة الخاصة، فهناك كذلك مجهودات ملحوظة تحسب لعدد من رجالات المقاولة بالمغرب والذين برزوا بروح المبادرة والإقدام والاجتهاد في بناء المشاريع.
لكن المطروح اليوم، هو ضرورة تجاوز رواسب المنطق الذي انغرس مع تغلغل اقتصاد الريع وشيوعه داخل عدد من المرافق والقطاعات. ففي مرحلة البحث عن اندماج أوسع داخل تيارات الاقتصاد المعولم يشترط النفاذ الى الأسواق درجات متزايدة من القدرات التنافسية.
وهي شروط لا تستقيم مع محيط اقتصاد الريع والوسائل التي يعتمد عليها ويحتمي بها المستفيدون من وضعيات ريعية.
لقد تولد عن منطق اقتصاد الريع، الذي شكل الوجه الاخر لقصور الديمقراطية والشفافية في تديبر الشأن الاقتصادي، ظهور ممارسات احتكارية لم تكن لها نتائج ايجابية على تطور النسيج الاقتصادي الوطني وعلى تطور موقعه وقدراته داخل محيطه الجهوي. لذلك يظهر منطق اقتصاد الريع كعنصر تحكم في نمط حكامة الاقتصاد المغربي من خلال مختلف مستويات حكامة المقاولات داخل قطاعات متعددة.
فعلي المستوى الشمولي ترسخ منطق اقتصاد الريع كمنطق موجه لمردودية الاقتصاد المغربي ولمستواه التنافسي ولتوجهات ا لاستثمار داخله انطلاقا من تفشي البحث عن الريع كمرتكز لتدبير المقاولة ولمعاملاتها ولتطورها المستقبلي. ومن النتائج السلبية لهذا الوضع بطبيعة الحال تحويل عدد من امدادات الدولة ومساعداتها واليات مصاحبتها للنسيج الاقتصادي لصالح المصالح التي تنعم بوضعيات ريعية لمجرد انها وهي في شبه احتكارية تملي مصالحها كشروط للاستمرار في العمل والتشغيل وتزويد السوق الوطني.
ومن زاوية المقاولة شكل هاجس الريع مكونا رئيسيا لسير ولحركية عدد من المكونات الكبرى للنسيج الاقتصادي وفق منطق انتاج وتوزيع ثمار الريع. فالمقاول التي اتيحت لها وضعية الانتفاع من ريع ستدافع عنه باستماتة كمكسب يجب ان يدوم وستقاوم كل مستجد قد يفقدها وضعيتها الريعية وستخوض بكل الوسائل معركة ضد كل انواع المراقبة القانونية والشفافية والعمل ضمن شروط السوق الحرة.
والمغرب، وقد اختار منطق المبادرة واتجه نحو تطوير الشفافية في المعاملات الاقتصادية تمشيا مع مستلزمات كسب رهانات التنافسية وتطوير صيغ الشراكة والتبادل الحر مع شركائه في معترك الاقتصاد المعولم، فهو مطالب اليوم بقطع دابر اقتصاد الريع. اولا لأنه منطق مكلف للمجموعة الوطنية، لا يساعد على تطور الانتاج وفق المعايير العصرية للنجاعة الاقتصادية ولا يخدم مجهود بناء مقومات التنافسية كما لا يدفع نحو زرع روح الابداع والمبادرة كقيم في السلوك الاقتصادي العام.
فبدل الركون الى ثقافة الريع ومن منطلق التجاوب مع متطلبات الانفتاح وتطوير العمل الاقتصادي وفق معايير الاقتصاد المعولم ودون اغفال المصالح الاقتصادية الوطنية، يجب التفكير في كل الوسائل الكفيلة بالتغلب على منطق البحث عن الريع كمنطق موجه للعمل وللمبادرة الاقتصادية.
المغرب اليوم، بحاجة الى الانتقال من هيمنة منطق اقتصاد الريع الى انتصار وشيوع ثقافة العمل والابتكار والاعتراف بالمجهود الخلاق وبإنتاج القيم المضافة التي توسع مجالات الثروة الوطنية وقدرات التعامل مع الشركاء وتجاوز مكامن عجز الميزان التجاري في السنوات الأخيرة.
المغرب اليوم، ومن خلال الدفع نحو إعلاء ثقافة العمل والابتكار، سيتجه نحو استثمار مقومات تنوعه الاقتصادي بما يلحم مجهودات نساء ورجال الاعمال مع تضحيات قوى العمل في المعامل والاوراش وحقول الانتاج المختلفة وتنظيماتها النقابية والمهنية وفي ذلك ترسيخ للتعددية في مجال التنمية الاقتصادية.
IV - التنوع في العلاقات الخارجية كتكريس لميل تاريخي نحو الانفتاح الحضاري
في تصدير الدستور الجديد للمملكة إقرار بكون المغرب مدرك تمام الادراك كون عمله في إطار المنظمات الدوليةو اجب من واجباته كعضو ضمن المجموعة الدولية، عضو ملتزم ومتعهد بما تقتضيه المواثيق الدولية من مبادئ وحقوق وواجبات ازاء نصرة حقوق الانسان والارتقاء بها وفق الاوفاق الكونية وازاء متطلبات المحافظة على الامن والسلام بين الدول.
وقد فصل تصدير الدستور القول في القيم و المبادئ التي تجسد نوعية وقوة الروابط التي يعتبرها المغرب ويقتنع بها كمرتكزات للشراكة والتضامن والعمل سويا من أجل تقدم البشرية وربطها بخيارات استراتيجية وضع على رأسها بناء الاتحاد المغاربي، تعميق أواصر الانتماء الى الأمة العربية والإسلامية، تقوية علاقات التعاون والتضامن مع الشعوب والبلدان الافريقية، تعزيز روابط التعاون والتقارب والشراكة مع بلدان الجوار الاورو متوسطي، توسيع وتنويع علاقات الصداقة، والمبادلات الانسانية والاقتصادية، والعلمية والتقنية، والثقافية مع كل بلدان العالم في التصدير الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من هذا الدستور، تتضح النظرة الى الخارج إلى كيفية وغايات ا لارتباط به والحرص على تنمية التعاون جنوب جنوب. وداخله أيضا أعلن المغرب التزامه بحماية منظومتي حقوق الانسان والقانون الدولي الانساني والنهوض بهما، والاسهام في تطويرهما وحرصه على حظر ومكافحة كل اشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة او الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو اللغة أو الاعاقة او اي وضع شخصي، مهما كان، وفي نفس الوقت أكد المغرب سمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية.
إن هذا النوع من التعهدات والالتزامات يترجم قناعات ويجسد مجموعة قيم ترسخت بفعل تأثيرات التاريخ وثوابت الجغرافيا (المحيط الأطلسي والبحر المتوسط ) وفي وعي المغاربة وفي وجدانهم، ففي ثنايا هذا التوجه التعددي في العلاقات الخارجية تكمن جدلية الموروث الثقافي المغربي في تواصله مع المحيط المباشر كاعتراف بالانتماء الى قضايا مشتركة مع الاخر كبلدان وكحضارات وكاعلان ارادي لمستلزم ونفع التعاون وتثمين مختلف صيغ التقارب.
ففي سياق العولمة يشكل التنوع، في علاقات المغرب الخارجية مكسبا لترسيخ أسس علاقات متميزة مع الجيران وعلاقات متصاعدة الاهمية، كميا وكيفا، مع البلدان ا لمنبثقة التي ستؤطر مسارات عالم الغد.
ومجملا، التعددية مكسب يجب حمايته في الواجهات الاربع الاخرى التي أشرنا إليها لأنها ككل تشكل ضمان انخراطنا في مستلزمات الحداثة وفي ذات تطبيق لإصلاح الدستور روحا ونصا.
يونيه 2012


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.