فوجئت ظهر يوم الجمعة 05/02/2016 وأنا أمشي وسط المدينة بحي الخبازات المعروف في مدينة القنيطرة, بسيدة شابة تلاحقني ,مغطاة من قمة رأسها إلى أخمص قدميها ,واضعة نظارة تصحيح البصر ,بعينيها حول ,قصيرة القامة ,في أوائل العشرينات من عمرها ,تخفي شيئا ما تحت الخمار بمنطقة الصدر , ولما شعرت بأنني أدركت ملاحقتها لي ,استوقفتني طالبة السماح والعفو وقالت بأنها تريد فقط التحدث معي ,فقلت «أهلا وسهلا ,أنا كلي آذان صاغية « واسترسلت في الكلام قائلة «إن أستاذي الذي يعلمني القرآن قال لي ..» فأدركت بمجرد تفوهها بهذه الكلمات المحدودة قصدها ,وقاطعتها قائلة «وماذا بعد؟ « قالت « أستسمح إن كنت قد لاحقتك منذ بداية هذا الحي –كما لاحظتي -ولكني أود فقط أن أقول لك» إن الله يدعو إلى التوبة ,ونحن فاعلات خير ,نساهم في ذلك لوجه الله ,وبإيعاز من أساتذتنا ولذلك أدعوك إلى التستر و ..» ولم أستطع أن أتركها تكمل خطابها هذا لأنني عرفت هدفه ( علما أن لباسي كان عاديا جدا ),وانفجرت في وجهها ,وقلت « هذه جرأة كبيرة منك ,ولماذا اخترتني أنا بالذات ؟ « فتلعثمت في الكلام ,ولم تعرف بماذا تجيب ,ثم تابعت كلامي قائلة لها « إن أردتم القيام بالدعوة فاعلموا بأنني مسلمة , مثلي مثل جميع النساء المارات الآن في هذا الشارع ,سواء اللواتي يضعن الغطاء على رؤوسهن أم لا .ثم إني أنا شخصيا لا أحتاج إلى دعوتكم ,لأنني أعتبركم من تجار الدين ,وأنا أعرف مقاصدكم ومقاصد الذين يحركونكم .لقد قرب موعد الانتخابات ولذلك فهم يطلقونكم مثل الكلاب المسعورة لاصطياد الغنائم ,ولكنك سيدتي قد أخطأت الاختيار ,فأنا جد محصنة من مثل تياراتكم ,ولتعلمي أنني بنت الزاوية التيجانية ونشأت وترعرعت في جو ديني ,ودرست من الابتدائي إلى الجامعة ,داخل أقسام ومؤسسات مختلطة ,وليس لدي عقدة الجنس الآخر .ثم إنني أعتبر الدين مسألة شخصية خاصة بعلاقة الإنسان بربه ,وأن الإيمان سلوك ومعاملة ولا يتحدد باللباس أو التقوقع داخل سجن من الثياب ,زيادة على كل هذا لا حق لأحد في التدخل في شؤون غيره .» فهربت مسرعة من أمامي خاصة بعد أن علا صوتي وتوترت أعصابي . ثم أكملت طريقي إلى أن دخلت إلى المحل التجاري الذي كنت قاصدة إياه ,والذي كان قريبا جدا من مكان الحادث ,وحكيت الأمر لصاحبه الذي أعرفه ويعرفني جيدا ,وأنا في حالة من الهيجان والغضب ,ودارت تعليقات بين الزبناء المتواجدين هناك شاجبين هذا الحادث . وعند رجوعي إلى البيت شعرت بحزن عميق من جراء تفشي مثل هذه السلوكات داخل مجتمعنا .وشردت أتأمل الحادث جيدا (على الرغم من أن البعض الذين تكلمت معهم اعتبروه بسيطا ولا يستحق كل هذا الاهتمام). وخلال تأملي هذا تساءلت : هل وصل الأمر إلى هذه الدرجة ؟ هل بدأ هذا الفيروس يتسرب بيننا نحن الذين نعتبر بلادنا محصنة ؟ وقلت مجيبة على ذاتي إن هذه الحادثة يجب أن تدعوني أنا وكل من يشاطرني أفكاري وتصوراتي وتوجهاتي ,إلى اليقظة والحذر ,من أجل التصدي لها واقتلاعها من الجذور. إن هذه السيدة التي لاحقتني وتطفلت وخاطبتني بمثل ذلك الخطاب تمثل بالنسبة لي انعدام الوعي الكلي ولذلك فهي مجرد أذاة مستلبة بشكل شمولي ,مستلبة من طرف الآخر القريب (أستاذها) والذي هو أيضا مستلب من طرف الآخر البعيد .وهكذا توجد سلسلة من المستلبين التي يجهل رأس الحربة المتحكم فيها بشكل دقيق ,أما على المستوى العام فهو معروف . هذه السلسلة المضللة تمارس بدورها نوعا من التضليل الإيديولوجي البشع وبدون أن تدري ,وهذا قمة التضليل والاستيلاب . وتساءلت مرة ثانية على من تقع المسؤولية إزاء مثل هذه الأحداث ؟وما العمل إذن ؟ وبدون تردد فرض علي الجواب نفسه بقوة : نعم نحن المسؤولون عن تفشي مثل الظواهر داخل مجتمعنا ,وما يجب أن نفعله إزاءها كثير . لكن من نحن ؟ -نحن المخالفون لهؤلائك المتزمتين , نحن الذين نختلف معهم في الرؤيا إلى الحياة ,في فهم الدين ,والنظر إلى الإنسان ,وفهم القيم ,قيم الحرية والحق والعدالة والمساواة ..وغيرها ,نحن المنفتحون على العالم, العقلانيون ,الحداثيون ,الملتزمون بقيم اليسار الديموقراطي ,المدافعون عن حرية المرأة ومساواتها للرجل في جميع المجالات الاجتماعية .ولذلك يجب أن نبرز التزامنا هذا بشكل فعال وإجرائي في الواقع ,ونمضي في مطالبتنا بتأسيس الدولة المدنية ,وفصل الدين عن السياسة,صيانة له من كل التشوهات التي يعمل الآخرون,المخالفون لنا في الرؤيا والفهم والهدف ,على إلحاقها به . إن المرأة بالنسبة لنا إنسان له كرامة وعزة وليست بضاعة ولذلك لا يمكن أن تختصر في الجسد فقط .ثم إن الطهارة هي طهارة النفس التي لا تحصنها الثياب بل يحصنها حسن السلوك واحترام الآخر والخضوع للعقل واستحضار الضمير وتقبل المخالف لنا في الرأي والعقيدة ,إنها المحبة والسلم والسلام . -من هنا فالمسؤولية تقع على كل من يؤمن بهذه القيم الإنسانية النبيلة ولذلك يجب أن يترجم إيمانه إلى أفعال وبكل الطرق المشروعة بدون ترهيب كي نصون هذا المجتمع من الانحراف والتزمت والانغلاق والعنف والفوضى و الإرهاب ، وحتى لا يتكرر مثل هذا الحادث المؤسف جدا .