نص الحوار الذي أجراه توماس لاميو، مع يمينة بنكيكي، ونشره موقع Périphérie.net سنة 2003، حيث تعبر المخرجة عن أفكار وهموم لها راهنيته اليوم بحكم النقاش الحاد الذي أصبح يثار من جديد بخصوص الهجرة والمهاجرين. o بعد عرض شريط « مذكرات مهاجرين « ، طفت العديد من المدن الفرنسية لحضور النقاش الذي كان يتلو العرض، حيث كان حضورك مطلوبا داخل القاعات، كان الجمهور يقف لشدة تأثره. أما داخل الأسر حيث كان المسكوت عنه مسيطرا، وحيث كان الصمت سيدا، فقد حرر الشريط الألسنة، سد فراغا في التاريخ، في الذاكرة وفي التمثل. n لم أكن أتوقع ما حدث بعد عرض الفيلم. كانت لدي شكوك كثيرة. ولا أزال أشك، حتى لو أنجزت شريطا من ستة أو ثمانية دقائق. كتبت « مذكرات مهاجرات « كما اتفق؛ فكرت فيه بالطريقة نفسها. قلت لنفسي سأقترب أكثر من تلك الكلمة، من أولئك الناس، من تلك الذاكرة. كنت أعرف أنني ألامس شيئا حساسا جدا. إنه جزء من تاريخ فرنسا لم أكن أعرف إذا ما كان الفرنسيون - « الأصليون « سيقول البعض - سيُصدمون. هل ستكون مجرد حكاية بيننا نحن، بين المهاجرين وأبنائهم؟ لم يكن ذلك بديهيا. إلا أنني لم أتخيل للحظة واحدة بأن هذا الشريط سيُحرر الكلمة إلى هذا الحد. في النهاية، اتفق الفرنسيون والمهاجرون حول الحكاية. الهجرة، الهجرة المغاربية تحديدا، إنه أمر لا يزال يؤلم حتى يومنا هذا. فسواء تعلق الأمر بآبائنا أو بنا نحن، الأبناء، كنا نحتاط دائما من فرنسا. حين نشرع في عملية التفكيك، نجد أن الجزائر حصلت فعلا على استقلالها، أن الآباء اختاروا - ولو أنه ليس اختيارا حقيقيا - البقاء في فرنسا، وأنهم ربونا في بلد لم يكن هو بلدنا. كيف أجرينا التركيب؟ للفيلم جانب عالمي، وقد لاحظت ذلك في الولاياتالمتحدةالأمريكية وفي جميع البلدان حيث عُرض؛ أن يكون الإنسان منفيا، مقتلعا من جذوره، أن يعيش في بلد ليس هو بلد آبائه... تترتب عن ذلك خسارات كثيرة. لا سيما في ثقافة حيث الناس لا يتكلمون. المتوسطيون يدردشون، لكنهم وخلافا للاعتقاد السائد، لا يعبرون عن أنفسهم بسهولة. هذه الرسائل كلها، توصلت بها اليوم فقط. « شاهدت مذكرات مهاجرين»، « أعجبني الشريط»، «هل بإمكانك الحضور ب...». لا زلت أتوصل بالعديد من الرسائل يوميا. خلال المناقشات التي حضرتها في جميع جهات فرنسا، وبعد وصولي إلى الفندق، كنت أجد العديد من الشباب في انتظاري. سيحضرون النقاش مساء، لكنهم يرغبون في التحدث إلي قبل ذلك. والتحدث إلي من قبل، يعني نقاشا قد يدوم ساعة معي في بهو الفندق. هناك الشريط، وهناك حضوري. بما أنني أنحدر أنا أيضا من هذه الحكاية، فإن إنجازي لهذا العمل يُضفي عليّ شرعية في اعتقادهم. إنه رابط. لدي دور أخت كبيرة - وأنا أخت كبيرة بالفعل: أقصد، نحن ستة إخوة وأخوات. لا زلت أضطلع بهذا الدور- في السينما في هذه الحالة. بالنسبة للنقاشات التي حضرتها، لم أتلق أبدا أي تعويض، طبعا. وأنا أصر على ذلك، لأن العديد من الكتاب الذين يتنقلون يتلقون تعويضا. بعد عرض «مذكرات مهاجرين»، الذي يستمر في حكايات حياة متفرجي القاعة، كان هناك دائما شخص ما، أب أو أم، يقف ويقول: «ما قلتِه هو الحقيقة يا ابنتي I». انطلاقا من هنا، يصبح بإمكانهم هم أن يتبادلوا الحكايات. كما هو الشأن بالنسبة للفرنسيين. كم مرة قال لي أساتذة ومحامون: « مررت أمام مدن عبور، إلا أنني لم أر، ذلك لا يعنيني «؟ ألححت، خلال المناقشات، على كونها حكاية مشتركة، مؤلمة للطرفين إلى حد ما. علينا أن نواصلها معا في كل الأحوال. لا يمكن لأي كان أن يقول: «ليست حكايتنا». سألوني إذا كان بإمكان فرنسي أن ينجز هذا الشريط، ولا أعتقد أنه يستطيع. ليس بهذه الطريقة في جميع الأحوال. لو لم أكن أمتلك الشفرات الثقافية للولوج إلى الداخل، لكنت أنجزت شريطا آخر. خلافا لبعض الصحافيين أو السينمائيين، الذين لديهم هذه المسافة ويتبجحون بأنه ينبغي دائما أن تكون هناك مسافة، كان مبدئي هو عدم إقامة أية مسافة. كان مبدئي: «أنا معكم». هناك حكاية شخصية وراء «مذكرات مهاجرين». حين يبكي شخص ما في الصورة، أبكي. حين يروي حكايته، أروي أنا أيضا حكايتي. سلوك القرب هذا هو الذي أعطى انطلاقة أمور كثيرة. في جميع الأحوال، أنا متأكدة أنه لم يكن بإمكان رجل مغاربي أن ينجز هذا الشريط. كانت هذه المقاربة ستتعذر عليه، طريقة التقاط الآباء. بدافع الحشمة، بسبب ثقل المسكوت عنه. في هذا الشريط، هناك أيضا قراءة هامة حول كيف هم نحن. لكي تتمكنوا أنتم أنفسكم من معرفتنا، لأنه صحيح أن ما ساد لمدة طويلة هو: « أسكت! لا تقل شيئا». o هل أخذت هذه الكلمة المحررة داخل الخلايا الأسرية تجتاح الفضاء العمومي تدريجيا؟ n فُتحت فجوة. أدرك الأستاذة أن بإمكانهم، بعد عرض هذا الشريط، أن يجعلوا الأطفال يتكلمون عن حكايتهم. في المدارس، يُدرس الشريط في حصة الاقتصاد، في حصة التاريخ. لقد توصلت برسالة من وزارة العدل تطلب مني المشاركة في نقاش مع متدربين. طلبت مني مستشفيات باريس كذلك الحضور للتحدث. لكن الآن، ليست لدي الإمكانيات لجعل الأمور تتحرك - أم أن علي تعاطي العمل السياسي. قلت لجان - بيير شوفينمون، يوم التقيته: «قد يكون ما أطلبه منك مثاليا، لكن اعمل على أنسنة ولايات الشرطة ! يستحيل أن أناسا يعيشون هنا منذ أربعين سنة لا يستطيعون تغيير رخصة السياقة». إنه الواقع الذي يعيشه آباؤنا مع المؤسسات، إنها حقيقة هذه النظرة. «محمد، ما الذي جاء بك إلى هنا ؟». كيف نستطيع تغيير هذه النظرة؟ قد يبدو شريط في مواجهة القوانين، في مواجهة الأفكار، أمرا هينا. لكن وقع الصورة والعرض مهم في نهاية المطاف. يحدث شيئ ما، ودفعة واحدة، لمجرد أن نظهر ونتكلم. لا يكون هناك رفض. الخطير هو عدم معرفة الآخر. أُبرز في « مذكرات مهاجرين» كيف عاش آباؤنا على الهامش. ما كان هو «لا تظهر»، «لا تتكلم»، لا تقل شيئا». أما ما أقوم به أنا، فهو العكس. o كيف يمكن أن يتطور كل ذلك في اعتقادك؟ إن شريط «مذكرات مهاجرين» مهم لنقل هذه الحكاية، لكن من يستطيع تغيير الأمور وحياة الآباء تقترب من نهايتها؟ n أثير في الشريط الشيخوخة هنا والموت هنا. سيكون علينا أن نعيش معا؛ ينطلق ذلك بالضرورة من: «سنقدم لكم آباءنا». إنه تجديد البداية. الشيخوخة في الهجرة شيء جديد كلية. « العمال المهاجرون «لا تتناغم و«الشيخوخة». ما كان بالإمكان التفكير في ذلك. إلا أنهم، هم، لا ينعكسون في شيخوخة الهنا. هناك الشيخوخة المحلوم بها وهناك واقع الشيخوخة. هناك اليوم عشرات الآلاف من الذين تجاوز سنهم الستين، لم يعد بإمكانهم أن يعودا وسيكون عليهم أن يشيخوا هنا. بكل صراحة، لم يتم التفكير في أي شيء يهمهم. هم دائما في الملاجئ. لهم حقوق عن التقاعد، لكنهم لا يعرفون أين سيتجهون. لهم حقائب ممتلئة بالوثائق الرسمية ولا يعرفون ماذا سيفعلون بها. كان الأمر بسيطا في السابق: العمل، البيت، الملجأ. حلت بهم الشيخوخة بشكل غير متوقع. يذهبون عند الطبيب ويقولون: «أنا مريض بالتقاعد»، كترجمة حرفية عن العربية. يعيشون التقاعد كما لو كان مرضا. صلتهم الوحيدة بالخارج، هي الطبيب. هل سينتهي الأمر بهؤلاء الناس في غرف الموتى هكذا؟ هل هناك أمل في أن تكون هناك نظرة مغايرة لهم؟ عدت لتحطيم مساكن. ينبغي أن نواجه شيخوخة المهاجرين، لأن الأمر لا يطاق إلى حد كبير. بعد حياة كلها تضحيات، ولا استراحة بعد الحصول على التقاعد. في لحظة معينة، سيتعذر علينا الحكي. لم يعش هؤلاء الناس أبدا في المدينة. إننا نستمر في نسيان واحد من مكونات المجتمع الفرنسي. إذا لم يكن هناك ما نتقاسمه طيلة أربعين سنة، كيف سنتصرف الآن؟ في ليون، أقدم شباب على تنظيم ندوة حول الشيخوخة والهجرة انطلاقا من « مذكرات مهاجرين». من يواصل موجود، وقد شرع في العمل. ومشكلة اللغة حقيقية. يلزمنا وسطاء لمهاجرينا العجزة. كل هؤلاء الشباب الذين يمارسون اللغة، الذين يتكلمون العربية، يمكنهم أن يكونوا وسطاء جيدين. ينبغي التدخل على مستوى القوانين كذلك: الشيوخ الذين يعيشون خمسة أشهر وتسعة وعشرين يوما في فرنسا، ستة أشهر ويوم واحد في الجزائر، لم يعد التقاعد من حقهم، بناء على قانون باسكوا - دوبريه -شوفينمون، ولو أنهم ساهموا ودفعوا الضرائب - كل هذا لأنهم قضوا ستة أشهر ويوم واحد في الخارج. أما بالنسبة لنا نحن، الأبناء، فإن المطالبة ببضعة أمتار مربعة في المقابر، يشكل علامة دامغة على الاندماج والتجذر. فدفن آبائنا في فرنسا، لم يكن مقبولا قبل خمسة عشر سنة. كان نظام ترحيل الجثامين هو السائد. وابتداء من اللحظة التي أدفن فيها أمي هنا - ألمس الخشب -، فأنا أرتبط بهذه الأرض بشكل نهائي. أرغب في إنجاز شريط قصير مدته ستة وعشرين دقيقة مع أمهات لم أتمكن من إظهارهن في «مذكرات مهاجرين». واحدة منهن كانت في التاسعة والستين من عمرها وكانت تقيم ببيتو. أتذكر أن السيدة كانت تتحدث بشكل رائع. كانت تقول: « الأبناء عصافير بلا أجنحة». كانت تحاول، منذ عشرين سنة، الحصول على رخصة السياقة. عادت إلى هناك ذات يوم؛ ماتت هناك؛ وأنا كنت بقاعة المونطاج حيث كنت أراها منذ أيام وهي تقول لي: «لن أسمح أبدا بأن أُدفن في الجزائر. حياتي، هنا. سأحصل على رخصة السياقة». يقترب المتقاعدون من الديانة بعض الشيء: ليست نزعة إسلاموية، فلن يتجرؤوا أبدا على المطالبة بفضاء يصلون به. هذا كله نقاش لم يتطرق له أي رجل سياسة. أنا متأكدة أن العديد من الجمعيات تفكر في الأمر. وبفضل الشريط، لم يعد هناك تقريبا خجل من الحديث عنه. علينا أن نستفسر المنتخبين اليوم، من غير عنف. لا يمكننا القول: «لاحظوا هؤلاء العرب، إنهم يطمعون اليوم في مقابرنا». أصبح عددنا يتزايد؛ إذا لم نتجذر هنا، فإن ذلك سيتحول إلى مشكل حقيقي. o تتحدثين عن الحيوات التي مضت على هامش العالم... هناك، في الهامش، في الأحياء، نلتقي شبانا، يتسمون بالحدة، أبناء وبنات المهاجرين، وهم يخرجون، يظهرون، حاملين خطابا صلبا. تعرفين حركة الهجرة والضاحية. n أنا والحركة نظرتان مختلفتان. الجيد هو أننا نتحدث عن الأمور نفسها وأننا لا نحمل الخطاب نفسه. إننا نلتقي بالضرورة، بما أننا نتحدث عن القلق نفسه. إلا أن طريقتي في العمل تختلف عن طريقة أعضاء حركة الهجرة والضاحية. بعثوا رسالة إلى « النوفيل أوبسرفاتور» يتحدثون فيها عن «مذكرات مهاجرين». ينبغي أن أُطلعكم على الرسالة... لم يكتبوا إلي مباشرة. كنت شرعت في كتابة رد، ثم رميت الرسالة في سلة المهملات، لأنه من غير المجدي أن نخوض في جدال. أما النقط التي يتطرقون لها - سبق للنقد أن تحدث عن الرجل الذي يبكي في «مذكرات مهاجرين»- فكانت «لنكف عن الحديث عن الهجرة بنبرة التباكي». أخذوا تعليق الشريط وكتبوا «سئمنا هجرة التباكي». كان بودي أن أقول لهم: «شاهدوا الشريط أولا، ولنتحدث بعد ذلك». لا نستطيع اليوم إنكار هشاشة هؤلاء الرجال. ألم يسبق لهؤلاء الرجال أن بكوا؟... يقول أعضاء حركة الهجرة والضاحية «نحن نزور الأحياء، ننظم حفلات رقص». إلا أنه ينبغي، في الوقت نفسه، أن نكف عن الاختباء حين نقول «نحن هكذا، لن نطأطئ الرأس أبدا». أجل، حين كان الناس يسألونهم في الطريق «كيف هي الأحوال أحمد؟»، كان آباؤنا يطأطئون رؤوسهم. أجل، لقد تصوفوا بهذه الطريقة، لكن ما هو السبب؟...