ليس غريبا أن يتعود الناس على طمس بداوتهم ودحضها على قرابين الحاضرة الحاضنة لهجرتهم وخروجهم تحت الإكراه، من سعة الهواء إلى شظفه ومن اتساع المنازل إلى ضيقها ومن بيولوجية صحية سليمة إلى متاهة بيئية خانقة. هؤلاء الذين هاجروا بلدانهم إلى غير رجعة، محملين بآمال عريضة وأحلام مديدة بحثا عن لقمة عيش وسقف يأويهم من رياح الزمن العاتية، تدحرجوا في أزقة وأحياء المدن الطويلة العريضة. لبسوا أثوابا ليست أثوابهم، وتكلموا لغة لا تمت للكناتهم المحلية بصلة. تمدرسوا مع المدنيين، وتعلموا طباعهم وتسلقوا جدران هويتهم واستووا على مباهج الحياة وعنفوانها، واقتعدوا كل مقعد، حتى صاروا أهل صنعة.. واقتدروا بمرور الوقت وصاروا جزءا من الثقافة المحلية. تداخلت الأنسجة الديمغرافية في عمق الوجود الإنساني للمدن المغربية، وصار الحديث عن الاندماج الاجتماعي ضرورة مواطناتية، بما هي قيم مشتركة لإنتاج ثروة مشتركة، من أجل الاستفادة من منافعها وحصائلها الثقافية والحضارية بشكل عادل ومنصف. هذا التراكم الإيجابي في تراثنا السوسيولوجي برر مستويات الكيانات الاجتماعية التي جانبت حقيقة ما سماه آلان تورين ب»الاندماج الديمقراطي»، وأضحى عائق التواصل والانفلات واقعا تدميريا لبنى المجتمع المندمج، أو المنسجم والمستوعب لدرجات التحصين القيمي والثقافي. وحصل أن تدافعت مسببات هذا الشرط المنسوخ من بيئات خارج السياقات الحضارية الأولى لإنسان المدينة، لتحدث خرقا في صميم «الاندماج الاجتماعي»، وتعلل انحلاله عن ضوابط التشارك والتعايش وانسحابه الكلي أو الجزئي عن فهم المحيط وتأثيراته في عمق عمليات البناء العمراني. إنها إشكالية عالمية أزلية تتحرر فيها الأوطان من تبعات الانتماء الفوق أرضي/ التراب، تذوب حدائقها الخلفية من مرجعيات العرق والنسب والشجر والحجر، وتصبح كياناتها المعزولة بؤرا للترسيب والتعرية. متناغمة مع طفرات المواطنة الواحدة والوطن الأم. ربما يكون في هذا الاختزال الضروري علاقة مباشرة بتمظهرات اتساع الهوة في الانتماء الثقافي والعرفي للجماعات والأفراد المهاجرة. ولكن محدداته السوسيوثقافية والنفسية تروم استقصاء تحولات البنية السلوكية والأفكار ذات الصلة بالممارسات والأفعال المنتوجة عبر حقب، تداخلت فيها القيم وانخرمت قوانينها وسلطها الرمزية. وانعرجت إلى مفاهيم أصولية، انتقائية، مستعيدة بذلك خميرة تجذرها في الرحم البدائي. هل يمكن تفسير هذا الحنين النوسطالجي للجذرية الأبوية، في بعدها الطوطمي للمدينة والإنسان المتحولين إلى التعارضات والتناقضات المتوترة في بنية العقليات؟ فقد تفردت المدينة العتيقة المكتظة بأسلوب عيشها المحافظ، الأقرب إلى نبض المجتمع المغربي الأصيل. وفي الوقت نفسه لبست فضاءاتها أثوابا متحررة ومنشقة عن مكانتها القيمية التي ترمز أفياء علاماتها المنسوجة بأنامل محلية إلى وجود خصيصات لا تستنسخ ولا تبلى ولا تموت. فماذا حدث حتى يتعثر إنسان المدينة القديمة ويصبح لبوس طوق مغلل بأبواق المادة وسحرها الفانتازي؟ تواتر الهجرة من وإلى المدينة يقيم سترات ثاوية من القطائع عبر أزمنة يستمد فيها معمار الحضر الإنساني وهج الانتماء ووقدة الاندماج. وفي أوار هذا التبدل الفجائي لأنماط وسلوكات العيش المشترك بين بنيات سكانية غير متواصلة، ومنقسمة كليا في مبادئ اختياراتها وطرق انشغالها، تقوم عناصر التشكل الجديد للقاعدة الحضرية المستنسخة. أولها الاحتلال المستبد للمعالم التاريخية للمدينة، وتحويل أغلبها إلى ماخور للتجارة والاستهلاك.ومن ثمة تفكيك ثقافة النسيج والعمران، بما هو معادلة لترسيخ التاريخ المشترك وتكريم إنسانه. وثانيها تكبيل سلطة التاريخ الرمزية حتى لا تتفاعل ومستحثات البناء من خلال المساهمة في تغير النمط الحضري التقليدي و إمكانية التوافق مع متطلبات روح العصر والحداثة. من هنا يمكن التدليل على مستوى تراجع الاندماج أو الدمج الاجتماعي في المدن العتيقة، التي أسست على وحدات معمارية متجانسة تقوم على قابلية الاستقطاب المندمج والمتكتل، الواعي بطفرات التوسع والتخطيط والتكافل. وهو مستوى أضحى على كف عفريت، بعد أن استأثر المعمار القديم لمدننا العتيقة برياح التغيير الاستثماري القادم من الغرب، ما مس مثالية الاندماج وراهنيته التنموية على أكثر من اتجاه. ففي حين تتقوى رأسمالية التضبيع، وتتحقق نواميسها الاستعمارية الجديدة لتحدد مستقبل المدينة حضارة وإنسانا، في تعميمها لأساليب وأنماط الحياة الجديدة، الغريبة والمدهشة في آن واحد. فإن ما تبقى من فورة الاستذكار لمعالمنا الغابرة الظاهرة، تنبئ بظهور أجيال مهاجرة لمدينتنا الفاضلة، تتفتت وتتكلس بسقوط مدخراتها الحضارية والعمرانية، وبتهاوي قيمها على حساب الوافد الجديد. وإذا كان موت المدينة سببا في تدمير روح إنسانها وتقديمه قربانا للأنظمة العالمية التسلطية، مع ما يرافق ذلك من تشكيم لقواها وتعويم لإرادتها في أن تختار وتقتنع وتعيش بحرية وكرامة، فإن تصادم الثقافات وتعاركها يجعل من الاستحالة بما كان التدليل على وجوب حماية تراثنا الإنساني والعمراني والثقافي من الضياع، ليس من طفرات الهجرات المتعاقبة التي حدثت بفعل الظواهر الطبيعية والبيئة ومشاكل التجسير الطبقي للبشر، ولكن أيضا، بسبب تضارب البنيات الاجتماعية والثقافية للإنسان. هذا التضارب الذي يسهم في تخلخل الأنماط واستدبارها، ويعزز من فرضية تآكل الوفرة الحضارية والمدنية، بل وتأخرهما عن مقابلة العصر بما يوائم نظرياته الديناميكية والمتحركة.