يعتبر رشيد الأندلسي واحد من المهندسين المعماريين المغارية ممن لا تخطئ العين لمستهم الجمالية على المجال. وهو، إلى ذلك، ينخرط، منذ سنوات، في مشروع يراهن على إعادة الاعتبار للإرث المعماري الكولونيالي، باعتباره إرث وطني وإنساني مشترك، يؤرخ لمرحلة تطور المدينة في المغرب الحديث. ومن موقعه هذا كمهندس معماري لا يتحرج من الإشادة ببعض ما أنجزه الماريشال ليوطي، المقيم العام بالمغرب في المجال العمراني حتى حدود سنة 1927. وبهذه الخلفية كان لنا معه الحوار التالي. في أحد حواراتك، وارتباطا بمجال التعمير، اعتبرت الاستعمار اليوم أكثر جاهلية، كما يتأكد ذلك في العراق، بدون أدنى خجل ، هل يمكن، في تقديرك، أن يختلف استعمار عن استعمار آخر؟ بالفعل هناك اختلاف للاستعمار حسب الزمان والمكان أيضا. الاستعمار يبدأ بالقوة، انطلاقا من طبيعة الانسان وطبيعة الحيوان أيضا، بمعنى أن الكبير يأكل الصغير. والأمر قد يأخذ حمولة دينية أو روحانية أو سياسية أو اقتصادية وما إلى ذلك. إن الأمر خضع لتطور التاريخ. حيث بدأ غريزيا إلى أن وصلنا إلى هيمنة المصالح. من هنا تغيرت أوجه الاستعمار. فالأفكار تؤثر في طبيعة الاستعمار تبعا للفضاء وتبعا للزمن. فحين كان الاتجاه الرومانسي في الفن وفي الأدب طاغيا، كان لهذا الاتجاه تأثير في الحياة العامة، في السياسة كما في السلوكات الاجتماعية. ونفس الشيء حدث مع قيام الثورات الكبرى في التاريخ، مثل الثورة الفرنسية أو الثورة البولشيفية أو الصينية، وأيضا لما أصبح الاقتصاد هو المهيمن على الأفكار الفلسفية، وظهور الفكر الشيوعي والاشتراكي وما إلى ذلك. وكمثال على تحول مفهوم الاستعمار من منطقة لأخرى ومن زمن لآخر، يمكننا أن نستحضر نموذج الاستعمار الفرنسي للجزائر ومقارنته مع استعمار نفس القوة للمغرب، حيث يظهر الاختلاف الواضح بين الاستعمارين. لذلك، أتصور - ارتباطا بالاستعمار الفرنسي في الشمال الإفريقي - لو أن الماريشال ليوطي سبق هيغل أو ماركس لتغير مفهوم الاستعمار في تصوره، ولما كان عسكريا بالشكل الذي عرف به تاريخيا. ألا تعقد أن ليوطي استفاد من أخطائه الجزائرية وقام بتجاوزها في تجربته المغربية، إلى درجة أنه أصبح يعرف، على الأقل في الجانب العمراني، بباني المغرب الحديث؟ بالفعل، لقد استفاد من التجربة الجزائرية ومن تجربة الهند الصينية ومن تجربة مدغشقر. كما استفاد كذلك من تجربة مدرسة الجنرال غالييلي في جانبها الثقافي، وهي تجربة كان لها تأثيرها الواضح بمنطقة الهند الصينية، التي ساهمت في تكوين نظرته كإنسان عسكري. وهنا تنبغي الإشارة إلى أن هذه الفترة شهدت كذلك ظهور وبداية تطور العلوم الاجتماعية، التي ساهمت في تطوير نظرة بعض القادة العسكريين إلى الآخر. فهذا النوع من القادة لم يكونوا مجرد عسكريين، بل كانوا أيضا رجالات ثقافة وأفكار، يستحضرون ضمن خططهم العسكرية الجوانب الاجتماعية والثقافية التي تراعي، بدرجات متباينة، الجوانب الإنسانية. وهذا الأمر يختلف كثيرا عما كان سائدا في الحروب التي كانت تنشب بين بعض الدول الأوربية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وما اتصفت به من بشاعة وهمجية، إلى درجة كان يعتبر فيها الفرنسي مثلا عدوه الروسي أو الألماني مجرد حشرة ينبغي أن تداس بالأقدام. أنت كمعماري، لديك ارتباط كبير بمدينة الدارالبيضاء، كيف تفسر إقدام الماريشال ليوطي على ابتكار نوع خاص من المعمار بهذه المدينة يختلف كثيرا عن المعمار الغربي ويجسد أوجها متقدمة من المعمار الإسلامي الأندلسي؟ بالفعل، حينما كان ليوطي بالجزائر، وجد نفسه أمام نمط عمراني غربي - فرنسي خالص، بل حتى الثقافة والعقلية الجزائريتين، رغم وجود هوية أصلية محلية، كانتا لا تختلفان كثيرا عن نظيرتهما الفرنسية، ونفس الشيء ينطبق عن جزيرة مدغشقر. هذا الأمر كان مختلفا بعض الشيء عن منطقة الهند الصينية، التي كانت تجر خلفها ثقافة تنتمي للبوذية، تعكس هوية البلد بشكل واضح. فحينما احتلت فرنساالجزائر تعاملت مع هذا البلد من منطلق المنتصر القوي الذي يحتل بلدا منهزما وضعيفا، على عكس ما حصل في المغرب، تحت مسمى الحماية ، على الرغم من أن الأصل واحد. وفي هذا الإطار، ينبغي التمييز بين فترة حكم ليوطي للمغرب والمراحل التي تلتها، خاصة مع فيشي، الذي أظهر فيها الاستعمار الفرنسي وجهة البشع. وهنا تنبغي الإشارة إلى أن ليوطي حينما حل بالمغرب بعد عقد الحماية، انتبه إلى أن هناك هوية وخصوصية حضارية قوية تميز المجتمع المغربي، من هنا تأسست لديه فكرة مغايرة عن المغرب والمغاربة، مما أثر على بعض قناعاته العسكرية السابقة، وهي القناعات التي جعلته يتعامل مع هذا الواقع يشكل مختلف. وهنا يجب التذكير بأن ليوطي حين حل بالمغرب، كان بالإضافة إلى كونه جنرالا عسكريا محنكا وداهية، كان يجسد كذلك كاريزما المثقف الذي يملك رصيدا من الفكر والمعرفة، وبهذه الصفة حاز عضوية الأكاديمية الفرنسية، وما ادراك ما الأكاديمية الفرنسية آنذاك. وقبل هذا وذاك كانت له ميولات ملكية. لذلك، حين عين مقيما عاما على المغرب، وجد أمامه قاعدة عمرانية قائمة الذات، تأسست عبر مراحل تاريخية طويلة. كما وجد مشهدا ثقافيا متنوعا، حيث يحضر الجبل بهويته وخصوصيته الثقافية، وكذلك الشأن بالنسبة للسهل ومدنه الساحلية العتيقة، كما وجد نشاطا حرفيا غنيا ومتنوعا، كما وجد تنظيما اجتماعيا، على الرغم مما كان يقال عن مظاهر الفوضى والسيبة وغياب الأمن، في ظل حكم مركزي ضعيف. من هنا قام بجلب العالمين الاجتماعيين الفرنسين الأخوين طارو، اللذين كلفهما بتهييء دراسات ميدانية عن عدد من المدن والمناطق المغربية المختلفة لفهم العقلية المغربية، وهذا الأمر يذكرنا بالدور الذي لعبه بعض الفنانين الفرنسيين لفهم الشخصية المغربية في فترات سابقة، أمثال أوجين دولاكروا في سنة 1832 وهنري ماتيس في سنة 1912 وغيرهما. وبقدر ما كان ليوطي يقف على هذا التنوع الذي يعرفه المغرب، سواء في المجال الحرفي أو العمراني أو الثقافي أو البشري، بقدر ما كان يزداد احترامه، أو على الأقل ما كان يبدو كذلك، لساكنة هذا البلد. وبما أنه كان ملكي القناعات والهوى، فقد أسهم في التأسيس لملكية جديدة في المغرب انطلاقا من قناعاته وتصوراته الشخصية. وبالعودة إلى مجال العمران، نجد أن ليوطي استفاد من هندسة بناء القصبات في المناطق الجنوبية، بأشكالها الشامخة وبعلو أسطحها، وباحترامها لخصوصية المنطقة المناخية والطبيعية، من خلال الاستعانة بالجوانب العلمية والمعرفية في تشييدها، وليس فقط التقاليد وأعراف البناء المتداولة. فقد وقف على مدن مثل مراكش وتطوان وطنجة وفاس ومكناس وورززات والجديدة والصويرة...، غيرها من المدن العظيمة التي شهدها المغرب من القدم، والتي كانت مهمة وتزخر بعنصرها البشري وطابعها الحضري المتمدن. ومن هذه النماذج، استمد أسس نظرته المعمارية، التي دعت إلى ضرورة وجود فئة اجتماعية مغربية داخل مدينة الدارالبيضاء، التي بإمكانها أن تدعم مشروعه المعماري الأصيل، الذي يحمل طابعا إسلاميا أندلسيا، إلى جانب البنيات والمرافق الإدارية ذات الطابع الغربي الحديث. من هنا، إذن، جاءت فكرة بناء حي الأحباس التقليدي الأصيل في مرحلة لاحقة. وقد استتبع هذا الأمر اقتراح عواصم مغربية جديدة، مثل الدارالبيضاء التي أصبحت عاصمة اقتصادية والرباط عاصمة إدارية عوض مدينة فاس، مما كان يتماشى مع مفهوم العواصم في التصور الحديث خاصة بأمريكا، وهو تصور متقدم عن فكرة العواصم التقليدية في أوربا، حيث كانت لندن أو باريس مثلا تجمع كل هذه الوظائف. وبالرجوع إلى مدينة الدارالبيضاء التي تعكس تصور ليوطي المعماري في امتداداته الدولية، نستحضر قوله الشهير، الذي كان يركز على ضرورة وضع المغرب على سكة الطريق السيار العالمي للاقتصاد ، بمعنى انفتاحه على المحيط الأطلسي وليس البحر الأبيض المتوسط، من خلال نموذج مدينة الدارالبيضاء الساحلية وانفتاحها على العالم الجديد، مما يمكننا اعتباره استشرافا متقدما لمفهوم العولمة. فحينما قام بتأسيس مدينة الدارالبيضاء كعاصمة اقتصادية عبر مينائها البحري، قام في خطوة أولى بإنشاء البريد المركزي، وهي مؤسسة كانت إمكاناتها اللوجستية التدبيرية ووسائلها الحديثة آنذاك، متقدمة عن مثيلاتها حتى داخل فرنسا نفسها وبعض الدول الأوربية القوية، مما اعتبر وسيلة لتقريب قنوات التواصل مع العالم الخارجي، وجلب المستثمرين الاقتصاديين الأجانب إلى المغرب. بعد البريد المركزي قام بإنشاء مقر المحكمة، في إشارة إلى تيسير سبل التقاضي في حالة وجود مشاكل قانونية بين المستثمرين. وفي هذا السياق، قام باستقدام الحرفيين والصناع التقليديين الذين وطنهم بمدينة الدارالبيضاء بخلفية غرس نواة للبورجوازية المغربية القادمة. من هنا جاءت، كما أسلفنا، فكرة بناء منطقة الحبوس، التي بدأ بناؤها في العشرينيات وانتهت بها الأشغال في سنة 1936، بغاية احتضان هذه الفئة من المغاربة، وجعل أفرداها يعيشون، جنبا إلى جنب، مع الأحياء الأوربية الحديثة، في نوع من الانسجام والتكامل بين ما هو تقليدي أصيل وما هو حديث مستجلب، ما خلق نوعا من التوازن المجالي العمراني المبتكر. ألا تعتقد أن المغاربة، بعد استقلال بلادهم، قاموا بالتفريط في هذا النمط العمراني الذي دشن له ليوطي في بداية القرن العشرين؟ وما نصيب المهندسين المعماريين المغاربة في هذا الخلل؟ وأيضا دور الدولة وغياب الحكامة. أحب الإشارة، في هذا السياق، إلى أن قدوم ليوطي إلى المغرب جاء بناء على عقد اتفاقية الحماية، بعدما أصبح المغرب يعيش فوضى كبيرة مع غياب شبه تام لسلطة مركزية قوية. وبالتالي، كانت مهمته تتجلى في إحلال النظام والاستقرار وإعادة بناء الدولة المغربية. لكن ما حصل أن فرنسا، بعدما انخرط هذا القائد العسكري في بناء ملامح المغرب الحديث، دخلت في غمار عدد من الحروب، وبدأت تطالبه بإرسال الجنود الفرنسيين لساحات الحرب في أوربا، بل طالبته بتجنيد المغاربة في هذه الحملات. هذا الوضع هو ما أدى إلى اقتصار التواجد الفرنسي على ما أصبح يعرف بمناطق المغرب النافع ، في حين بقيت مناطق المغرب غير النافع تحت سلطة قواد مغاربة، أمثال القائد الكلاوي والقائد الكندافي والقائد العيادي والقائد عيسى بن عمر. فما قام به ليوطي في المغرب حتى حدود سنة 1927، في المجال العمراني وإقامة المؤسسات والمصالح الاقتصادية والاجتماعية الخارجية وبشكل منظم لم يكن معروفا في فرنسا، كان قد أصبح يثير مخاوف الحاكمين الفرنسيين في المتروبول، الذين كانوا يميلون أكثر إلى ذلك النوع من الاستعمار التقليدي في بعده التحكمي المستنزف للخيرات أكثر من استثماره في البناء وتحديث المجتمعات الخاضعة له. حيث سيتم في سنة 1927 دعوته للرجوع إلى فرنسا بصفته خائنا للسياسات الفرنسية الخارجية، ولم يتم الاعتراف بخدماته إلا مع وصول الجنرال دوغول إلى السلطة في فرنسا. وابتداء من هذا التاريخ سيبدأ جيل جديد من القادة العسكريين الفرنسيين الديكتاتوريين في المغرب، من أمثال الجنرال فيشي، ممن عاثوا فسادا وقهرا في المغرب وفي المغاربة، وهو ما أفرز حركة مقاومة مسلحة سرعت باستقلال المغرب في سنة 1956. وما بين سنتي 1927 و 1956، لم نعد نصادف ذلك النمط في التعمير الذي يستحضر امتداداته من الخصوصية المغربية المحلية، بقدر ما أهمل هذا الجانب لفائدة النظرة العسكرية الاستعمارية الأحادية، وما كانت تفرزه العقلية المعمارية الفرنسية. لنبق مع الماريشال ليوطي. في أكثر من حوار لك تنسب إلى هذا الحاكم العسكري مشروعا عمرانيا وتنظيميا للمجال يسمى ب المتحف الاجتماعي ، ما المقصود بذلك ؟ إنها فكرة تشبه جمعية تجمع بين المهندس المعماري والصانع التقليدي والفقيه والمثقف وعالم الاجتماع، بغاية التفكير في المسألة العمرانية بنوع من تكامل الأفكار، على طريقة الباوهاوس الألمانية التي جاءت في مرحلة لاحقة. وتقضي الفكرة باستقدام مهندسين معماريين فرنسيين كبار، من أمثال هنري بروست ونيكولا فروستيي وغيرهما، من أجل بناء مشاريع عمرانية ذات بعد إنساني رفيع. إلى جانب اهتمامه بخلق المرافق الصحية والعناية بها وتعميم التلقيح. وخلق المذابح العصرية البلدية مثلا، التي بدأ بناؤها في سنة 1915، وتدشين سياسة التشجير، وخاصة بناء المجال الأخضر مثال ما يسمى اليوم حديقة الأممالمتحدة في قلب مدينة الدارالبيضاء، وأيضا حديقة ليرميتاج وحديقة مردوخ وغيرها من الفضاءات الأيكولوجية الكبرى. حيث كان الموقع الذي صار يعرف فيما بعد ب المدرسة العليا للفنون الجميلة هو مختبر التشجير العالمي الكبير داخل مدينة الدارالبيضاء. كل هذه المشاريع كانت تشرف عليها خلية المتحف الاجتماعي سالف الذكر. وبالتالي، لم يعد للعسكري فقط ذلك الطابع الشرس، وإنما أصبح يوظف بعض خبراته ومعارفه في ما هو اجتماعي وإنساني. كل هذه المشاريع تغيرت بعد سنة 1927، وفسحت المجال لديكتاتورية عسكرية جديدة، لم تكن تؤمن بالبناء ولا بالعنصر البشري. وربما لهذا السبب، اعتبر الحسن الثاني، في أحد حواراته، أن شخصيتين اثنتين كان لهما تأثير واضح في تاريخ المغرب الحديث، هاتان الشخصيتان هما السلطان المغربي محمد الخامس والماريشال الفرنسي ليوطي. هذا الأمر يقودني إلى الإشارة إلى أن نماذج من العمارة التي ساهم في وضع تصاميمها المهندسون الذين استقدمهم ليوطي إلى مدينة الدارالبيضاء، أو بعض الذين جاؤوا بعده إلى هذه المدينة، وأخص بالذكر المهندس الفرنسي المعروف إيكوشار، كانت تدرس في كبريات مدارس الهندسة المعمارية في أوربا وفي العالم، كنماذج معمارية جد متقدمة في حينها. لكن ما حصل بعد الاستقلال، هو أننا كنا نظن أن المدن والبنايات تورث كما تورث الأشياء الجامدة، والحال أنها كائنات حية وغير ثابتة، تحتاج إلى صيانة وإلى رؤية مستقبلية. فالمدن هي التي تقودنا نحو المستقبل، سواء في ارتباط مع متطلبات الأنشطة الاقتصادية أو المصالح النخبوية والمضاربات العقارية وغيرها. أكثر من ذلك، وهذا أمر طبيعي وعاد، أنه بعد الاستقلال، أصبح للمغاربة نفور من كل ما هو فرنسي، لكونه يذكرهم بمرحلة الاستعمار. النتيجة، أننا تخاصمنا كمغاربة مع كل هذا الإرث، تخاصمنا مع المدينة الأوربية، مع عمرانها مع هندستها، تخاصمنا مع الفضاء، بل تخاصمنا مع هويتنا، لأننا كنا نعتبر أن لدينا عناصر عصرنتنا الخاصة بنا والتي تعكس شخصيتنا، وهذا أمر مفهوم ويجد تفسيره في الجانب النفسي للمواطن المغربي البسيط. ما الذي بقي اليوم مما قد نسميه تجاوزا مدينة الدارالبيضاء الفرنسية ؟ أولا أنا لا أتفق على هذه التسمية. فالدارالبيضاء أكبر من ذلك. إنها أرض الجميع، أرض التلاقي والتسامح، أرض احتضان الغرباء. إنها تختصر الاختلاف والتنوع المغربيين، وهي اليوم بمثابة ملتقى طرق للحضارات والأفراد والطموحات. من هنا يبرز غناها، وهذا هو الذي ما يزال يمنحها روحا متجددة إلى هذه اللحظة. إن ما كان يجذب الأفراد إلى هذه المدينة هو طموحهم المتطلع إلى النجاح، إلى المستقبل، وهذا ما خلق دينامية الدارالبيضاء. أنتم في جمعية ذاكرة الدارالبيضاء، ما هو رهانكم لإعادة الاعتبار لهذا التراث العمراني والحضري الكولونيالي، مادام قد أصبح إرثا وطنيا؟ إننا نطمح، بكل بساطة، إلى تجميع شتات هذا التاريخ. نحاول توحيد قيم كل الذين وفدوا على هذه المدينة في مرحلة ما من تاريخهم واستقروا بها. نعمل على إعادة إحياء تراث كل ساكنتها، هذا التراث الذي اضمحل داخل ضجيج هذه المدينة. فلطالما وصفت مدينة الدارالبيضاء بكونها مدينة كريمة، معطاة، محتضنة للغريب وللمهاجر من القرى والبوادي المجاورة والبعيدة من أجل الاستقرار والبحث عن مورد رزق وعن حياة كريمة. لكن ما حصل أن سكانها لم يعودوا كرماء، على الأقل اتجاهها، واتجاه ذاكرتها الحضارية. فلا أحد أصبح يؤدي ما بذمته نحوها. لم نبادر، نحن ساكنة الدارالبيضاء، بتأسيس جمعيات تدافع عن هويتها. أين وصل طموح جمعية ذاكرة الدارالبيضاء، التي أنت واحد من أعضائها النشطين؟ الدارالبيضاء مدينة الجميع، مدينة كل قاطنيها، ولا أشكك في غيرة الجميع على حاضرها وعلى مستقبلها. شخصيا، وعلى الرغم من أنني ابن هذه المدينة، إلا أنني لا أميل كثيرا إلى حصر انتمائي إلى هذا المجال الضيق والمحصور جغرافيا. في المقابل، أعتبر نفسي إنسانا ينتمي إلى هذا العالم. لذلك، فما نقوم به داخل جمعيتنا هو امتداد لما قامت به الحركة الوطنية في الحفاظ على الذاكرة المغربية، وصون أصالتها وامتدادها المتنور والمشع بما يتصادى مع ما هو كوني. إننا نشارك اليوم في تدبير حكامة مدينة الدارالبيضاء عبر الأفكار والمقترحات البناءة والجديدة، ونحن نستعد لتنظيم تظاهرة كبرى تعنى بتراث المدينة. كما أننا نحمل طموحا كبيرا يتجلى في مطالبة منظمة اليونسكو بتصنيف الدارالبيضاء كتراث إنساني عالمي. ومن الأمور الطريفة أن هناك من كان يعتبرنا، في وقت من الأوقات، امتدادا للمعمر الفرنسي، بسبب دفاعنا المستميت على التراث العمراني الكولونيالي للمدينة. معروف عنك ولعك بالفنون، وبخاصة الفنون التشكيلية. كيف تستفيد كمهندس معماري من هذه الفنون بما يدعم تصوراتك وأفكارك المعمارية؟ أعتبر المعمار مجالا يجمع بين الفن والتقنية. فالجمالية، باعتبارها أخلاق ووظيفة وحقيقة وإعلاء من شأن الإنسان، تكمن في فعالية هذين العنصرين. قديما، وقبل انفصال الفنون، كانت الهندسة المعمارية تعتبر أم الفنون، إلا أنني أعتبر أن الفنان التشكيلي يتمتع بحرية أكبر في مجال الإبداع. فعلى الرغم من أنه يشترك مع المهندس المعماري في الاشتغال على الفراغ، إلا أن حركته، إذا ما شابها أي خطأ لا يمكنها أن تؤذي الإنسان أو تهدد حياته. وفي المقابل، يمكنني كمهندس أن أستفيد من حرية الفنان، من خلال منحي هامشا أكبر من التفكير ومن التأمل ومن المتعة البصرية، التي يمكنها أن تفتح لي أبوابا كانت تبدو لي مغلقة. فأنا أغبط الفنان على حريته، وقد أذهب إلى وصف بعض أفكاره بكونها مجنونة، وهو تعبير لا يمكن أن ينسحب على ما يبدعه المهندس من أشكال ونماذج معمارية. فليس من حق المهندس المعماري أن تكون له أفكار مجنونة.