فرانشيسكو روسي، سينمائي إيطالي ازداد عام 1922، أخرج العديد من الأفلام نذكر منها: «الهدنة»1996، «كارمن» 1984، «سلفاتوري جوليايو» 1961، «زوج» 1959، «التحدي» 1957... وفيلم « يد منخفضة على المدينة» 1963 الذي توج بجائزة الأسد الذهبي بمهرجان البندقية، كما فاز فيلمه «قضية ماتي'' بالسعفة الذهبية بمهرجان كان عام 1972.. توفي يوم 10 يناير 2015. تناول فرانشيسكو روسي قضايا الفساد السياسي في جل أفلامه لا سيما قضايا الجريمة ببلاده، وتأثر بأفلام الواقعية الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أنجز أفلاما مستوحاة من قصص حقيقية. في ما يلي درس سينمائي ألقاه المخرج فرانشيسكو روسي خلال إحدى دورات مهرجان كان، وهو درس من تسيير السيناريست والكاتب «جون كلود كاريير» حيث أجاب «روسي» على العديد من الأسئلة التي تدور حول بحثه المستمر عن الحقيقة والأصالة من خلال أعماله السينمائية، علاقاته بالممثلين سواء منهم المهنيين أو غير المهنيين، كيفية إدارة الممثل... قمت بإخراج فيلم «سلفاتوري جوليانو» (Salvatore Giuliano) تماما عشرة سنوات بعد موته.. توفي يومه 5 يوليوز 1950. وفي سنة 1960 كنت في صقلية قصد تصوير هذا الفيلم الذي يدور حول رجل عصابة مافيا، وكنت قد خلصت إلى أن الحصول على معلومات حول هذا الرجل، ومشاكله، وكل ما يربط بين السلطة السياسية والسلطة غير القانونية للمافيا، ووضع صقلية في أواسط سنوات الأربعينيات، ثم وضعها بالنسبة لإيطاليا... كلها أمور لم تكن ممكنة إلا من خلال إنجاز هذا الفيلم في المكان الحقيقي الذي جرت فيه هذه القصة عشرة سنوات قبل ذلك، وعلى نحو دقيق جدا.. بدأت، أولا، بكتابة القصة بمعية كاتب السيناريو «سوسو سيتشي داميكو»، تحدثنا مطولا حول الموضوع، وقد اقترح العاملون معي إدخال شخصية السارد- الصحافي في الفيلم، التي ستحيلنا على التحقيق، لم أفهم « لماذا الصحافي؟ أنا هو الصحافي، وأنا الذي أحقق، أنا الذي أحكي، وأنا الكاميرا !!». على المخرج أن يسمح لنفسه أن يكون منعزلا، وأن يتراجع عن عزلته.. على غرار «أكيرا كوروساوا» عندما يعد لقطة.. هي مسألة صعب تقبلها في السينما: مسألة عزلة الإبداع والخلق.. يجب قهرها إذن !! يجب على المخرج أن يدافع عن أفكاره.. انسحبت من عزلتي من أجل القيام بمعالجة أولى لما كنت أود القيام به، وأنجزنا الفيلم اعتمادا على تلك القاعدة التي تنتمي إلي تماما. كان علي تقديم تحدِ شرس لأستطيع التصوير في نفس الأماكن، في صقلية: أردت التصوير تحت أعين أم سلفاتوري جوليانو، أب سلفاتوري جوليانو، أخته، وكل الناس الذين عاشوا هذه التجربة.. كما لو كنت أحكي القصة من منظور الذين عاشوها قبل عشرة سنوات.. مشاهد عديدة كتبها هؤلاء، مثلا ذاك المشهد الذي يبين نساء يحررن الرجال في موتيليبري، وبالرغم من أن عدد النساء قليل لتأثيث المشهد، وكن يرفضن التصوير، قمت بإرسال حافلات للبحث عن بنات الهوى، وأحضرت نساء موتيليبري وعاهرات باليرمو من أجل تصوير المشهد. لتصوير الأم، كنت قد اخترت امرأة عجوزا، كانت أما لعشرة أبناء، توفي أحدهم كما توفي سلفاتوري جوليانو، وهو السبب الذي جعلني استعمل كلمة «بسيكودراما» لأصف هذا الفيلم.. في المشهد الذي وجدت فيه الأم نفسها أمام جثة ابنها، بحثت كيف لي أن أتتبع أحاسيسها.. كان ذلك بفضل كاميرا مجهزة بعدسة 75 مثبتة أمام وجه هذه المرأة، حين طلبت منها شيئا واحدا: «لا تتجهي بنظراتك نحو الكاميرا، بل صوب يدي التي ستدلك أين ستتقدمين أو تتراجعين، أو تقفين، ولا تلفتي الانتباه إلى أنك ترينني». كانت سيدة فلاحة من الذكيات القليلات في دورها، تنقلب نحو الجسد فجأة وتشارك في إخراج هذا المشهد الجنائزي، كانت متأثرة جدا ومرتجة.. وكنت أحس أني قاس.. غير أنني لم أكن لأهتم للأمر: كانت النتيجة هي ما يهمني أولا.. إن المخرج قادر على خداع الأب والأم للحصول على مبتغاه.. بدأت السيدة العجوز تشحُب، تبحث عن سند بين المحيطين بها، تقترب من الجسد، تلمسه، تضعط عليه، تبكي.. أمر مؤلم جدا !!.. لم تنس تتبع يدي التي تدلها إلى أين تتجه.. في الأخير أجهشت بالبكاء مثل خروف صغير، وكل من في بلاطو التصوير بدأ يبكي وأنا في مقدمتهم.. قمت بتصوير المشهد ثلاث مرات واكتفيت، خشيت على المرأة أن تموت. أحب فكرة أن السينما وُجدت لتوثيق مثل هذا النوع من الاختبار: عندما تكون الحقيقة هنا، ملموسة ومجسمة.. هو أمر يعطيني طاقة للعمل. أذكر أيضا تلك المرحلة التي عقبت إنجاز فيلم «يد منخفضة على المدينة» (Main basse sur la ville)، بعد مضي ثلاث سنوات، حينما كنت مستنزفا تماما.. كنت قد توجت للتو بجائزة برلين عن فيلم «سلفاتوري جوليانو»، وبعدها جائزة الأسد الذهبي بالمهرجان الدولي للفيلم بفينيزيا عن فيلمي «يد منخفضة على المدينة».. لم أكن أعلم ما العمل، كنت خائفا.. المنتج العجوز ريسولي – الذي علي أن أذكره بامتنان- كان رجل سينما وازنا، أعطى الفرصة لروسيلليني، وأنطونيوني، وفيلليني، لينجزوا بعضا من تحفهم.. هو الذي وقع معي عقدا، وطلب مني أن أشرفه.. لم أكن أعلم ماذا أفعل فأنا متعب ومستنزف.. لكن ذات صباح وأنا أحلق ذقني ألقيت نظرة على مجلة إيطالية حيث ضمت صفحة كبيرة لصور بمعرض بنبلونة، معرض سان فيرمينو بإسبانيا بجولاته المشهورة. كنت دائما معجبا بهمنغواي، حذوت حذوه، وغامرت بالذهاب إلى معرض بنبلونة الذي نُظم ... الأسبوع الموالي، وقد وضع ريسولي ثقته فيَ فأعددتُ الفيلم، «لحظة الحقيقة» (Le moment de la vérité)، خلال أسبوع واحد فقط، وكان الأمر بمثابة حرب صاعقة: تعرفت على مدير التصوير جياني دي فينانزو، بعدها عثرت على عدسة داخل صندوق خشبي مُلمع تبلغ من طول المسافة 300، في جناح من معهد الضوء بروما.. من هنا أتت الفكرة.. أثناء تصوير مصارعة الثيران، وجلب الثور إلى الجمهور، وليس الجمهور إلى الثور.. بعدها ذهبنا إلى بنبلونة حيث قمنا بالتصوير ليل نهار، التقيتُ ميغالان، الذي أعجبت به، والذي كان يقوم بثورة في مجال مصارعة الثيران، وقد سمح لي بتتبعه في هذا العرض.. أراد أن يكسر الانصياع لتقاليد المصارعة، وأن يتحدى الثيران دون أن يأبه للوجوه التقليدية للمصارعة، والأسلوب المرجعي الكبير على الطريقة المانوليتية «La Manolete ».. ولهذا، فقد كان مكروها ومحبوبا على حد سواء في إسبانيا. لما عدت إلى روما، قمت بتوضيب كل ما صورته باستعمال الموسيقى: أسطوانتان لباسو دوبلي، أسطوانتان لموسيقى الفلامينكو، بعدها وضبت ثلاث أرباع ساعات للعجوز ريسولي الذي كان متحمسا مما جعلني أتابع.. كان الأمر أشبه برقصة للثيران: أصعد بالكاميرا من أرجل الثور إلى الذراعين، كنت أتتبع العصي (ذات الأنصال الحديدية) المنغرسة في ظهره، السباق الصغير لمصارع الثور، وطريقته في غرس تلك العصي.. كل هذا بفضل عدسة 300 من مكان جمهور المصارعة.. إنها ذكرى مبهرة بالنسبة لي، كبحث مطلق عن الأصالة. بالنسبة ل «كارمن» (Carmen)، فبعد مضي عشرين سنة، استمعت إلى موسيقى بيزيت شهورا وشهورا، عشت معها أنا وآلة الوولكمان، وبيزيت لا تفارق أذني.. بعدها ألهمني كتاب دافيليي حول إسبانيا البلد الذي أحب، وهو كتاب «إسبانيا مصورة من طرف كوستاف دوري». إنه كتاب رائع!.. بدأت أتصفح مسار ذاكرتي بالإسبانية، حاملا هاجس استعادة العالم الذي استلهمه دوري.. ووجدته – وكان إحساسي كثيفا- في « La sierra de Ronda ».. كان من الصعوبة بمكان التصوير هناك في أعالي الجبال، حيث كان من الضروري الذهاب إلى هناك بواسطة هيليكوبتر، ووضع أسلاك، ومتابعة السير – ساعة كاملة كل يوم- على متن البغال رفقة المغنيين !! تخيلوا الممثلين والمغنيين وهم يمتطون ظهور البغال !.. اكتشفنا أثرا رومانيا. قادتنا أحجار رومانية من روندا « Ronda » إلى جبل طارق، وهو الشيء الذي ساعد المهربين.. أردت أن أصور في فضاءات هذا المكان.. وقلت لدانيال توسكان دو بلانتييانني لن أصور هذا الفيلم إن لم أتمكن من تصويره هنا، الطبيعة كانت ديكورا فوق الديكور.. على المخرج أن يحصل على كل ما هو ممكن من الممثل المهني، وإذا اختار غير المهني، فلأنه مقتنع أنه بإمكانه الحصول من خلاله على شيء إضافي.. ومن الواجب إذن، التعامل معه برقة أو عنف.. أحيانا قد تصل درجة الغضب أو الصراخ، أو حتى الصفع أحيانا أخرى.. هو أمر يحدث حتى مع المهنيين ! ومع الممثلات ! لا يمكنكم تخيل عدد المخرجين الذين صفعوا ممثلاتهم !!، لكن هذا الشكل من القسوة، أقول- قسوة اهتمام.. اشتغلت مع العديد من الممثلات الشهيرات كجيان ماريا فولونتي على امتداد خمسة سنوات، ومع رود ستيجر في فيلمين، ومع صوفيا لورين وعمر الشريف وألان كوني في ثلاثة أفلام، ومع فيليب نواري في ثلاثة أفلام، ومع فيتوريو كاسمان وماكس فون سيدو... أظن أنني ساعدتهم جميعا لأنني أحبهم جميعا.. إذا لم أحب الممثل الذي اخترته فمن غير الممكن بالنسبة لي أن أنجز فيلما. اشتغلت أيضا مع ممثلين شباب: روبيرت إيفيريت، أورنيلا موتي، جيمس بيلوشي في فيلمي الأخير « Oublier Palerme » سنة 1990، إنه ممثل أمريكي رائع ذو شخصية قوية جدا: كان يتبع بالحرف كل ما أطلبه منه، لكن في الوقت نفسه، كان يجيد كيف يخدم شخصيته، بالإحساس بها، والشعور بها، وإعطائها أحاسيس خاصة.. وهي المسألة التي – غالبا- ما يتجادل حولها المخرج والممثل: عندما يريد أحدهما أن يحمل أحاسيسه الخاصة إلى الشخصية. هؤلاء الممثلون، الشباب والعجزة.. أحببتهم جميعا لكن بالمقابل أقمت معهم علاقات جدلية.. إذ يحدث دوما مع الممثل صراع منتج، فيصبح عمل المخرج مع الممثل محفزا .. وهو عمل صعب للغاية يغدو أحيانا قسوة جسدية وذهنية مرهقة، كما لو أن الأمر يعني الاستيلاء – ولو لبعض الوقت- على كل إمكانية للتفاعل مع الآخرين. لماذا أنا سينمائي؟ لماذا أريد أ أخرج أفلاما؟ هل أنا بحاجة إلى ذلك؟ هل هناك أي ضرورة مادية؟ لذة؟... كلها أمور واردة.. إنها ضرورة مالية، إنها لذة.. ومن حين لآخر لا تكون كذلك !! لكنها ضرورة ركزت عليها مبكرا: ضرورة كنت أتطلع لتحقيقها منذ سنة الرابعة عشر من عمري، كنت دوما أحلم أن أصبح مخرجا، كان أبي يصطحبني كثيرا إلى السينما، وفطنت مبكرا أنها قد تصبح حياتي.. تدريجيا، ومن خلال أفلامي، خلصت إلى أن السينما ملأت وجودي تماما.. لا أظن أننا نستطيع أن نكون مبدعين إذا لم يكن يتملكنا شيء ما، لدرجة أن الفن يكون مرفوقا دوما بمعاناة.. فهو، في ذات الآن، ألم أكثر منه فرحة.. نمر بشكل سريع وقوي بلحظات فرحة ونشوة، لحظات انهيار وشك باستمرار.. لا يقين لدينا أننا امتلكنا حقيقة ما أردنا قوله، لن نكون متأكدين أننا قادرين على تحمل العلاقة بيننا وبين الآخرين.. لن نستطيع أن نعيش في عزلة.. الإبداع هو في حقيقته وأصله فعل عزلة، غير أنه فعل ينتمي لكل من في هذا العالم.. هو عنصر اجتماعي.. أن نكون مبدعين معناه أن نكون مرتبطين بهذا الشرط: نخلص إلى أننا مسؤولون تجاه الكل، و هي مسؤولية علينا تحملها رغم الشكوك ورغم المحن.