إن المتتبع لما يجري في عالمنا من تجادبات إيدولوجية يختلط فيها التمييز بين البيئة المنفتحة التي أفرزت ظواهر غريبة كالتطرف و العنصرية، وبين البيئة المتطرفة التي اصبحت تنشأ فيها تيارات تدافع عن قيم التسامح و الحرية و الإنفتاح ، هذا يعني أن كلاهما يجعلان من مجتمع ما يعيش تناقضات فكرية تنعكس إما سلبا أو إيجابا على الفرد . ولا شك أن للهجرة بأنواعها عاملا حاسما في ذلك التدافع المجتمعي، فالتنوع أو التحريف الذي قد يشمل نمط عيش مجتمع ما هو نتاج لتلك الهجرة التي لم تبنى منذ بدايتها على أساس تعايش الفرد و إنصهاره في المجتمع ، فالإدماج أصبح مطلب، و الإندماج أصبح مطلوب ، والنقاش حول الهوية دون المواطنة أصبح الهاجس الوحيد التي يؤثر في تصرفات الفرد داخل المجتمعات والغربية منها على الخصوص، وإذا أخدنا مثال في ذلك سيكون هو هجرة المغاربة منذ مطلع القرن الماضي للدول الأوربية التي كانت في حاجة إلى سواعد مهمتها إعمار تلك البلدان التي أنهكتها الحرب العالمية ، فغاية الفرد في تحسين وضعه الإجتماعي و المادي إنسجمت مع أهداف تلك البلدان التي سارعت الزمن في تحقيق تلك الفطرة الإقتصادية المزدهرة وهنا نرجع لنظرية المفاهيم المهمة في الفكر الماركسي التي تتحدث عن « المستغل و المستغل والذي درج ماركس على تقديمه في تحليلاته التي تنهض على التميز بين نظم فعالة: ومسيطرة وأخرى مترتبة ومستجيبة في البنية الاجتماعية في مرحلة تاريخية معينة و منه تمثل الهجرة نوعا من الاستغلال الذي تمارسه الدول الصناعية عبر عملية التحفيز و تشجيع الأفراد على الهجرة من اجل تحريك عملية الإنتاج و أيضا إشكال القهر الني تسببها للبلدان الغير صناعية من اجل ضمان تبعيتها .حيث أن فعل الهجرة لما يتحول إلى ظاهرة اجتماعية بالمعنى السوسيولوجي , أي عندما تصبح فعلا شاملا ممتدا في الزمان والمكان فان من غير المفيد دراسته على مستوى الوحدات المكونة له أي الأفراد. بل ينبغي البحث عن تلك التنظيمات التي تمارس سحرها على الأفراد وتقنعهم بالهجرة» . غير أن تناسي وعدم الإكتراة بتحولات وتطور الظاهرة أثرت سلبا على البنية السوسيولوجية و حتى الفكرية والعقدية لتلك المجتمعات بإعتبارها دول إستقرار، و لأن عامل الدين أو الهوية بشكل عام بالنسبة إليها ليس هو الغاية للدعوة إلى الاندماج حيث أن المجتمع الغربي قائم على أسس علمانية أي فصل الدين عن السياسة هذا يعني أن العلمانية لا شأن لها في من يحمل هوية أو ينتمي إلى دين ما، ألعكس فهي تضمن حرية الرأي والاعتقاد أي ممارسة الشعائر الدينية لكل من يرغب في ذلك . هذا يعني أن نصف قرن من محاولات الإندماج داخل المجتمع الغربي قد أعطت نوعين من النمادج الأولى كفاءات أصبحنا نراها تقفز إلى مراتب و مراكز القرار في مجتمعات لا إيمان لها سوى بالكفاءة والقدرة على الإنتاج والبناء وهي الفئة التي حسمت مع نفسها في ذلك النقاش المضحك حول الإختيار بين الهوية أم المواطنة . وفئة ثانية دخلت نفق مظلم من خلال نقاش مبالغ فيه هو الحفاظ على الهوية العقدية و الدينية والدفاع عنها بكل الوسائل المشروعة و الغير مشروعة من أجل البقاء. هنا أطرح السؤال حول ما إذا كانت مجتمعاتنا التي أضحت تنفتح على ظاهرة الهجرة لديها قابلية في إنحاج إندماج القادمين من مجتمعات أخرى؟ إن الأمر يتطلب نشوء ثقافة جديدة ، تقبل الأجنبي المستقر ، لتحل محل ثقافة البلد ذي اللسان الواحد ، و الدين الواحد، و اللون الواحد ، أي " المواطنة الثقافية " ، التي تعني حق الجماعات الفرعية و الأقليات في الاحتفاظ بهويتها الثقافية الخاصة حتى لا يتم احتواؤها و دمجها قسراً في الثقافة العامة الرسمية السائدة في المجتمع ، و بما يفتح الأفق أمام انتشار " ثقافة الاختلاف" ، بشرط ألا يترتب على ذلك عدم المشاركة بشكل ايجابي و فعال في مختلف أنشطة الحياة والالتزام التام بالقوانين و القواعد الأساسية المنظمة للحياة العامة في الدولة . و المهم هنا ، هو أن الاعتراف بهذا التميز الثقافي و قبوله و احترامه قد يكون عاملاً ايجابياً في إثراء الثقافة الوطنية ، كما قد يحل كثيراً من المشكلات الاجتماعية التي تعانيها المجتمعات المستقبلة للأعداد المتزايدة التي تفد إليها من الخارج ، و التي تنتمي إلى ثقافات مختلفة تريد الاحتفاظ بها إلى جانب تمتعها بحقوق و التزامات المواطنة السياسية . أقول إن إستنساخ التجارب حول الإدماج أو الإندماج ليس بالعيب ، لكن العيب هو إختزالها في منطق إجتماعي معيشي و إنساني يصبح فيه الحديث عن الشفقة تجاه الآخر أكبر من الحديث عن الكرامة و الحرية و الكفاءة ، هاته الأخيرة ستكون المفتاح الأول لتوازن المجتمع المضيف و إستقراه .