محمد المستاري إن من ضمن الإشكالات التي تطفو عالقة إلى السطح فيما يخص الارتباط القوي بموضوع الهجرة، إشكالية الهوية، وذلك حيث غذت في العقود الأخيرة تؤرق العديد من المهتمين بقضايا الهجرة، باعتبارها مدخلا أساسيا لمجموعة من المشكلات الأخرى التي تترتب عنها. إذن، فما المقصود بالهوية، وكيف تطرح كإشكالية في علاقتها بقضية الهجرة؟ يمكن تحديد الهوية في كونها رديفا لفئة انتماء، أي إلى تلك الخصوصيات الثقافية والقيمية والاجتماعية وغيرها التي يكون قد تلقاها الفرد عبر تنشئته الاجتماعية في إطار ثقافة ما. وأشكال وتجليات الهوية متعددة ومتنوعة، حيث ترتبط أساسا بشكل وثيق بالتاريخ والتراث بوصفهما المكونان الأساسيان للذاكرة المحددة في سياق تجلياتها المجتمعية، غير أن هناك من الآراء من ترى بأن الهوية بشكليها الذاتية والجماعية لا تبقى حبيسة ومرتكنة إلى التاريخ أو التراث أو كلاهما معًا، بكونهما المحددان الوحيدان لتجليات مستوياتها وأشكالها كافة. ومرد ذلك حسب تلك ذات الآراء إلى أن الهوية بمستويات معينة تتأثر بشكل ملحوظ في سياق تناميها وتطورها المتغير والمتبدل بالشرط العام المستغرق لجملة العوامل الذاتية والموضوعية الخاصة. وفي هذا المحل، يرى أحد الباحثين أن الهوية، (غير ثابتة وغير مغلقة، بل تخضع كأي ظاهرة اجتماعية للتغيّر في سياق التطور الاجتماعي، وهذا لا يعني على سبيل المثال لا الحصر انتفاء صفة معينة كالعروبة مثلا، عن الإنسان العربي لأي سبب كان، لأن الهوية بهذا المستوى تمثل حالة انتماء لا مجال فيها للتحول، ذلك لجملة من الأسباب تتعلق بالتاريخ والتراث والثقافة والأصول القومية والعرقية...، حيث يمكن للفرد أن يكون مثلاً: عربياً، عراقياً، كردياً، ماركسياً، يتكلم اللغة العربية والفرنسية والإنكليزية...، مدافعاً عن حقوق المرأة، ويمكن بذات الوقت أن يكون عربياً ويحمل الجنسية الأمريكية، ويمكن أن يكون من أصحاب الرساميل ومدافعاً عن مصالح الطبقة العاملة في أحد الأحزاب الشيوعية....) 1. ولعل أشياء كهذه، تبين بأنه ليس من الصعوبة بمكان تحديد أو ضبط شكل تجليات الهوية الفردية المحكومة بالتطور والتغيّر في إطار أو سياق ما. ولذلك فإن موضوع الهوية بهذا التلون يطرح عدة نقاشات علمية، ومنهجية، دقيقة في مجال العلوم الاجتماعية بفعل التباين الحاصل في مقاربة المنظورات. وحسبنا أن نستحضر في هذا الصدد رأي عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين، إذ يقول فيه: «لا أضع تفكيري في عالم الهوية، فهذه الكلمة تخيفني أكثر مما تجذبني؛ فالذات نقيض للهوية»2. وإن كان لهذا التصور في سياقه من مضمون وتفسير فأولهما دلالة على انبثاق لزعزعة طارئة على عالم الهوية وفكرتها، وقد يتضح هذا الطرح جليا من خلال اعتبار ذات الباحث، تورين، بأنه: «من المهم أن نفهم أن الحقوق الثقافية هي امتداد للحقوق السياسية، على اعتبار أن هذه الأخيرة يجب أن يتمتع بها كل المواطنين، في حين أن الحقوق الثقافية، تحمي جماعات معينة أو أقلية»3، كأن يكون الشأن بالنسبة إلى الجالية العربية عموما القاطنة ببلاد المهجر كما يطلق للدلالة. غير أنه يمكن تسجيل ملاحظة أساسية، وتتجلى في المطالبة بالحقوق الثقافية باعتبارها أصبحت مهددة بالتهميش والعنصرية، ولتوضيح هذه الفكرة أكثر، نُذكِّر بأنه طالما ترددت على أسماعنا في تقارير عدة، عبر وسائل الإعلام بشتى أشكالها، ما يتلقينه الشابات العربيات، ومن ضمنهن المغربيات، اللاتي تطالبن بحمل الحجاب بالثانوية، بهاجس يردن به الحفاظ عن مقاومة ثقافتهن الدينية وهويتهن الأصل. وذلك لأن المطالبة بالحقوق الثقافية، يمكن أي يترتب عنه تشكل شرائح من المجتمع (جماعات إثنية) بسبب اشتراكها في سمات ثقافية تميزها عن الآخرين من أعضاء المجتمع الذي تعيش فيه. ومن ها هنا، فإن الهوية تشير إلى مجموع الفوارق الثقافية التي تفصل بين مجموعة وأخرى. ومن أبرز هذه الخصائص نذكر: اللغة بدرجة أولى، بالإضافة إلى التاريخ؛ أو النسب السلالي؛ والدين؛ وأساليب اللباس؛ والزينة؛ وغيرها من الخصائص. ورغم أن فوارق الهوية تعتبر طبيعية في بعض الحالات، إلا أنها تدخل برمتها في عداد ما يتعلمه المرء ويكتسبه المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه. وفي ظل هذا التميز الجديد الوافد الذي يدل عن هوية ثقافية هجينة بالنسبة إلى البلد المستقطب، تطرح إشكالات أخرى، كالتهميش والعنصرية في حالات صمود جماعات إثنية، أو تفاديا لذلك يكون الاندماج والتجنيس، لكنه لا يكاد يكون في صالح الحفاظ عن الهوية بالنسبة إلى البلد الأصل. ولعل هذا هو الإشكال الذي أصبح مطروحا بعمق وحدة في السنوات الأخيرة، حيث يتجلى في تهديد أو انتفاء الهوية عن العديد من المغاربة المقيمين بالخارج، إذ تضيع منهم هويتهم شيئا فشيئا ابتداء من اللغة والسلوك والتعامل إلى أن تنتهي أحيانا بالمرة حيث يبقى منها الاسم ليس إلا. ويأتي هذا الحكم ضمن ما أفادته مجموعة من التقارير المرتبطة بموضوع الهجرة الخارجية، حيث تذكر أن هناك العديد من المغاربة لم يعودوا يتمسكون بهويتهم المغربية، وذلك لأنهم لم يعودوا يحافظون بشكل كبير على مواطنتهم داخل البلدان التي يعيشون بها. ومرد ذلك حسب ذات التقارير إلى عدة اعتبارات تستدعي بالضرورة الدراسة التحليلية المعمقة، على غرار الأجيال المهاجرة الأولى التي يُذكر بأنها كانت تقوم بتلقين أبنائها التربية وتضمن لهم الحفاظ عن الهوية المغربية، بكل أبعادها الثقافية والدينية والسياسية واللغوية، غير أن هذا الوضع الإيجابي والمحافظ غذى يتراجع بشكل ملحوظ، نظرا لما يستدعيه من مستلزمات، تتشابك فيها عدة عوامل. وحسب تقديرنا، يمكن أن يكون مرد هذا التراجع، على مستوى الحفاظ عن الهوية، بكون بعض الأفراد الذين حصلوا على الجنسية في البلد غير بلدهم الأصل (البلد المستقطب)- متعلق بما يتاح لهم فيه من إغراءات، كتسوية أوضاعهم ومنحهم امتيازات مرتبطة بالتساهل والولوج المباشر إلى الإدارات، لأن الكثير من التصاريح تفيد بأن الجالية المغربية وبخاصة غير المحصلة على الجنسية تواجهها الرشوة والتماطل والبيروقراطية والمبالغة في الكلام إذا لم نقل العنصرية. ومن ثمة يكون القبول بالاندماج والتجنيس، في نظر العديد هو الحل. أما فيما يتعلق بالحفاظ عن الهوية الثقافية في هذه الحالات، الاضطرارية، فيبقى أمرا معلقا، حيث يعرف نكوصا كبيرا ليس إلا. وقد نلامس ذلك من خلال عدة مسلمات كلجوء العديد من المهاجرين إلى الزواج من المرأة الغربية كمنفذ للحصول على «فيزا الهجرة»، ناهيك عن المدن الغربية المضيفة التي لا تتواجد بها مؤسسات تربوية في مجال التعليم تعمل على تلقين اللغة العربية، ومن ها هنا، اندثار الثقافة والتقاليد المغربية، أو أخرى، فضلا عن فقدان عبارات الحنين إلى الوطن وما كانت تلعبه في امتداد الثقافة الأم4. غير أن في هذه الأخيرة بكل موضوعية اختلاف كبير، لأن في بعض الأحيان تتدخل عوامل أخرى متداخلة مرتبطة بوضعية الفرد السابقة، وإذا كانت قليلة، فإنها موجودة، وقد تكون الإجابة المحتملة انطلاقا من بعض المقيمين خارج الوطن يعزون الأمر إلى الماضي المعطوب والمأزوم إلى حيث لا شيء يتذكر، حيث التعطيل والرشوة والزبونية والتفقير5. غير أن هذا الافتراض يحتاج إلى دراسة علمية. وبالإضافة إلى التجنيس في مقابل عدم الاحتفاظ عن الهوية، يمكن ملامسة ذلك انطلاقا من الاغتراب الذي يزيد في الحد من الفردية، وبالحالة هاته، يبحث المهاجر عن اندماج له يخلصه من ذلك. والذي يكون غالبا انصهارا لخصوصياته الثقافية وهويته عامة بكل أبعادها. هذا وبالإضافة إلى الليونة الحاصلة بفعل التحولات الثقافية العميقة نتيجة للإعلام الذي انصهرت بفعله الخصوصيات الثقافية على أن أصبحت تروم التنميط الثقافي الأحادي6. ما غدى يسمح عنه بالحديث عن عدة توصيفات وعبارات لم تكن معهودة في ذي قبل، من قبيل: «ازدواجية الهوية»؛ «تفتت الهوية»؛ «أزمة الهوية»؛ «انصهار الهوية»؛ «انقراض الهوية»؛ «احتضار الهوية»؛ وغيرها كنتيجة لا سببا عن ظاهرة الهجرة الخارجية. 1– معتز حيسو، كاتب وباحث سوري ، مهتم بالقضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. (موقع خاص في الحوار المتمدن). 2- Alain Touraine, Un nouveau paradigme : pour comprendre le monde d'aujourd'hui, Fayard, 2005. 3- مجلة إضافات: المجلة العربية لعلم الاجتماع، ملف خاص بالهجرة، العدد: 2. ربيع 2008. 4- أنطوني جيدنز، علم الاجتماع، ترجمة وتقديم: فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، مؤسسة ترجمان، مركز دراسات -الوحدة العربية، الطبعة: الرابعة، بيروت، 2005، ص: 326-327-341. 5- أحمد الجلالي، الحراكَة: الموت لمواجهة الحياة –محكيات من صميم الواقع- منشورات: غرب ميديا، القنيطرة، الطبعة: الأولى، 2003. 6- (بتصرف) عن: أنطوني جيدنز، علم الاجتماع، ترجمة وتقديم: فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، مؤسسة ترجمان، مركز دراسات -الوحدة العربية، الطبعة: الرابعة، بيروت، 2005، ص: 326-327-341.