الضوء الآسر الذي يأتي من الخلف. الولع القديم بالقاعة المظلمة. غواية السينما التي جعلتنا شديدي الارتباط بالصور، وجعلتنا نحلم ونهزم الأشرار، كما ساعدتنا على مقاومة الضجر. في ذاكرة كل واحد منا فيلم شاهده وتأثر به، بل أصبح جزءاً رئيساً من كيانه الروحي والعاطفي. فيلم يقع خارج التقييم الفني، ولا يخضع إعجابنا به لأي منطق، لأن العلاقة معه مبنية على العاطفة أساسا.. في هذه السلسلة التي نبدأ بنشرها اليوم، حكاية كاتب أو مثقف أو فنان مع الفيلم الذي كان له وقع عليه.. علاقتي بالسينما بدأت باكرا. كنت ما أزال طفلا لم أتجاوز الحادية عشرة من عمري. وكانت المناسبة عيد الفطر، والعديد من أطفال الحي قرروا الذهاب إلى السينما. لم يكن معي إلا خمسون فرنكا عبارة عن قطعة نقدية نحاسية كبيرة.وهي القطعة التي كان يمنحها لنا الوالد (أنا وأخي) في كل الأعياد، بينما كان ثمن تذكرة السينما في ذلك الوقت من بداية السبعينيات من القرن الماضي هو درهم واحد، أي مائة فرنك. أبي بسبب عقليته المحافظة لم يكن يسمح لنا بالذهاب إلى السينما. لكن في ذلك اليوم رجوت أمي الله يرحمها، حتى رق قلبها، فأكملت لي ثمن التذكرة من عندها متواطئة معي على اقتراف أول خطوة نحو الدهشة والسحر والإدمان الجميل. أذكر أن الفيلمين الذين شاهدتهما تلك العشية، لم يكونا متكافئين من حيث ذائقتي الطفولية البريئة، لكنهما ظل عالقين في ذاكرتي إلى االآن. الأول كان غربيا مخيفا بعنوان «دراكولا»، مصاص الدماء، لم أفهمه ولم أحبه البتة. فيلم مليء بالظلام والسواد والدماء والرعب. والثاني هنديا رائعا بعنوان» منكالا البدوية» سحرني بقصته وفنتازيته وتنوع مناظره وبساطة وشموخ أبطاله وكثرة أغانيه، لدرجة بقيت لوقت طويل تحت وقع الدهشة أحكي مع أصحابي عنه. وفي مراهقتي بسب دينامية اليسار وتغلغه في المجتمع، وجدتني أحمل بطاقة لأحد أنديته السينمائية، التي كانت تقدم لنا صبيحة كل يوم أحد فيلما تتلوه نقاشات لم أكن أستصغها، فأنسحب بمجرد ما ينتهي الفيلم. والحقيقة أنني لم أحب يوما ولا فيلما واحدا من تلك الأفلام البئيسة التي كانوا يعرضونها علينا. أفلام هادئة مليئة بمشاهد الحيطان والعمارات والإدارات والمصحات وبثرثرات كثيرة بلغة غالبا لا أفهمها أولا أتقنها. لذلك انقطعت عن النادي وعن سينماه. لقد كانت أفلام الكراطي والأفلام الهندية والمصرية وأفلام رعاة البقر، أكثر إثارة ومتعة بالنسبة لي، ربما لواقعيتها ولقرب قصصها ومناظرها وفضاءاتها من قصص ومناظر وفضاءات بيئتي الاجتماعية والطبيعية. ولكي أكون صريحا، فأنا لم أومن يوما بتأثير عمل إبداعي واحد علي، سواء كان كتابا أو فيلما أو قصيدة. لقد قرأت المئات من الكتب وشاهدت الآلاف من الأفلام واستمعت للمئات من القصص والأحاجي والأزليات، وعشت أنواع شتى من التجارب، وهي ربما ما يشكل مرجعيتي الثقافية والفكرية، لكن للتاريخ والحقيقة أيضا، يمكن القول أن ثمة دائما أعمالا إبداعية تظل ، للسياق الذي جاءت فيه، عالقة بسويداء القلب والوجدان. ومن هذه الناحية يمكنني أن أشير في مجال السينما، إلى رسوخ عنوان فيلم مصري في ذاكرتي للسياق الذي شاهدته فيه. وهو فيلم «الرصاصة لا تزال في جيبي» الذي كتب قصته إحسان عبد القدوس و أخرجه حسام الدين مصطفى ولعب دور البطولة فيه الممثل القدير والمحبوب، محمود ياسين، إلى جانب الكبار، حسين فهمي ويوسف شعبان وصلاح السعدني وآخرين. وهو فيلم عالج موضوعة حرب أكتوبر ونجح إلى حد ما في تقديم صورة مِؤثرة وحماسية مدغدغة للمشاعر، عن عبور قناة السويس ورفع العلم المصري خفاقا على ربوعها. وحسين فهمي يصيح بأعلى صوته:» تحيى مصر ..تحيى مصر...». بالطبع في أواخر السبعينيات، الوقت الذي شاهدت فيه الفيلم، لم أكن أعي جيدا ظروف تلك الحرب وملابساتها، ولم يكن لي من الأدوات النقدية والتحليلية ما يمكنني من قراءة الفيلم قراءة واعية والتفاعل معه بخلفية قومية أو إيديولوجية. لكن كان يكفيني أن يتطرق الفيلم إلى وجود حرب بين عربي مسلم وعدو يهودي صهيوني محتل، كي أتموقع في خندق العربي المسلم وأحمل البندقية وأخوض تلك الحرب إلى جانبه بكل بسالة ولو في خيالي ووجداني. لقد شاهدت الفيلم أكثر من مرة وصار حلمي أن ألتحق بالجندية لأحارب... فبسبب ذلك الفيلم، أحببت الحرب وأحببت الجندية. لأن الفيلم نجح بشكل كبير في تصوير جندي يحارب بشراسة ويحقق نصرا عظيما، لأنه يحمل في قلبه وطن وقضية. وفي تلك الفترة كان باب التجنيد مفتوحا في وجه الشباب المغربي الذي يريد أن يلتحق بالجيش والذهاب إلى الحرب المندلعة في الصحراء المغربية. ولولا المعارضة التي لقيتها من أخي الذي كان انخرط في الجيش قبل مني بسنتين، وكذلك بعض أفراد أسرتي وأصحابي، ونصحوني بمواصلة دراستي، لكنت كالعديد من أصحابي انخرطت في الجندية. ولما تركت ثكنة التجنيد بمدينة القنيطرة في آخر لحظة. لقد أثر في الفيلم بشكل كبير لدرجة أنني لم أنس يوما عنوانه. بل لازلت حتى الآن أتذكر تفاصيل بعض المشاهد منه وخصوصا تلك المتعلقة بلقطات الحرب. وكذلك لا زلت أذكر كما لو كان البارحة، وقت المشاهدة ومكاني بقاعة السينما ورفاقي في ذلك اليوم وتفاصيل أخرى كثيرة.