كتابنا سيقبلون على النشر الرقمي حين يأنسونه على غرار ما فعلوا مع الإنترنيت الأديب المغربي مصطفى يعلى من مواليد سنة 1945 بمدينة القصر الكبير، حاصل على دكتوراه الدولة في الأدب العربي الحديث، حول موضوع : «القصص الشعبي بالمغرب - دراسة مورفولوجية»، تحت إشراف الدكتور محمد السرغيني. وهو عضو في اتحاد كتاب المغرب، ورئيس سابق لفرعه بمدينة القنيطرة ومديرتحريرمجلة (المجرة) الثقافية وعضو العديد من الهيئات الأدبية ومجموعات البحث والدراسات السردية. نشرالعديد من إبداعاته القصصية ومقالاته النقدية بمختلف المنابر والملاحق الثقافية المغربية والعربية منذ أواخر ستينات القرن الماضي. صدرت له أولى باكورته القصصية (أنياب طويلة في وجه المدينة) سنة 1976 وإصدارات هامة جدا في مجال القصص الشعبي منها (امتداد الحكاية الشعبية) ضمن سلسلة (موسوعة شراع الشعبية) وآخرها (نحو تأصيل الدراسة الأدبية الشعبية بالمغرب) ضمن إصدارات إتحاد كتاب المغرب. نتشرف بإجراء هذا الحوار معكم باعتباركم أحد الأصوات الرائدة في الكتابة القصصية المغربية منذ أربعة عقود ونيف، وإذ نشكركم على تلبيتكم دعوتنا، بداية دكتور مصطفى يعلى أنتم من مواليد مدينة القصر الكبير، كيف تورطتم في كتابة القصة القصيرة في مدينة هادئة تختلف بنيتها الاجتماعية البطيئة مع بنية المدن الكبرى المصطخبة التي تدعي أنها مهد الكتابة القصصية؟ شخصيا أعتقد أن مدينة صغيرة عتيقة، هي فضاء جد مناسب لكتابة القصة القصيرة. إن ما أشرت إليه من صعوبة، يرتبط في الحقيقة بالرواية التي تعتبر صورة عن الحياة، وفق نظرية الرواية لدى هنري جيمس، إذ تتطلب فضاءات متشعبة معقدة، في المدن الضخمة. بيد أن القصة القصيرة هي فن المهمشين، كما يذهب فرانك أوكونور في كتابه الفذ (الصوت المنفرد)؟ وانطلاقا من هذا المنظور، أسأل: أليست المدن الصغرى مثل مدينة القصر الكبير مهمشة أصلا، وغاصة بالشخصيات المغرقة في التهميش؟ أضف إلى هذه الحقيقة، كون هذه الفضاءات التقليدية المستقرة، هي مستنبت نموذجي لتداول الحكايات الشعبية، علما بأن العلاقة الأسرية وطيدة بين القصص الشعبي والقصة القصيرة. لكل هذا لا نستغرب إن ولد قصاصون في هذه البيئات الضيقة عمرانا ومعاناة. ألا ترى معي أيها الصديق، أن القصة المغربية قد نشأت في المدن الصغيرة بأحيائها العتيقة المنغلقة من مثل فاس مولاي إدريس وتطوان الترنكات وأصيلة باب الحمر، بينما لم تنتج العاصمة الرباط وفيما بعد سوى قصاصين اثنين، أعني المرحومين عبد العزيز بنعبد الله وعبد الجبار السحيمي؟ من هنا كانت القصر الكبير بالنسبة لي حاضنة لموضوعات وفضاءات وشخوص عدد من قصصي، مثلما يتجلى من مراجعة مجموعاتي الأربع. وأكيد أن هنالك عدة روافد وحوافز لهذا الاختيار، أوجزها في النقط الموالية: المناخ المفعم بالأجواء الأسطورية والخرافية، في الدروب الضيقة الملتوية، والأزقة المغلقة؛ حيث كانت تكثر رواية الحكايات في ساحة (الحلاقي) وفي المنزل وفي الدرب ولدى الجيران. تدعيم هذه الأجواء بالقراءات المبكرة لمتون السير الشعبية في طبعاتها الصفراء، من مثل (حمزة العرب) الهوس بالسينما، التي كانت تعرض أفلاما مأخوذة عن الأعمال السردية لكبار المبدعين أمثال فيكتور هوغو وشارل ديكنز وتولستوي ودسويفسكي ونجيب محفوظ. أثر الدراسة الثانوية على يد أساتذة البعثة التعليمية المصرية الرائعة مطلع الستينيات. فإذا كانت القصة القصيرة قد سكنتني في المرحلة السابقة المبكرة بصورة عفوية غير واعية، فإن مرحلة الثانوي جعلتني أمتلك وعيا نظريا مبدئيا بها، ووجهتني لقراءة أهم النصوص لدى شوامخ كتابها كلاسيكيين وحدثيين، أجانب وعربا ومغاربة. سحر النشر في الصفحات الثقافية للجرائد الوطنية بداية الستينات، حيث كانت الكتابة امتيازا، لا يجترحه سوى كبار الكتاب في المرحلة. مما حرضني على إدمان القراءة في السرد أكثر، توقا لامتلاك سلطة الكتابة وفرض الذات في مدينتي الصغيرة أولا، ثم في الساحة الثقافية المغربية الفقيرة ثانيا. هذا بعض من كل، وإلا فإن التكوين العام للشخصية في رأيي، هو الذي يصنع نوعية الأديب قصاصا أو روائيا أو شاعرا أو مسرحيا، في المدن الصغرى كما في المدن الكبرى. هل اهتمامكم بالقصص الشعبي ينم عن دور الحلقة وحكايات الجدة والأزليات وغيرها، في توريطكم في الكتابة القصصية بشكل عام، أم هناك عوامل أخرى؟ صحيح كما قلت سابقا إنني قد تشبعت منذ الطفولة بالقصص الشعبي، لكوني كنت مطوقا بالحكي الشعبي من كل جهة؛ في الحلقة والبيت والدرب والجيران كما ذكرت سالفا. الأمر الذي كون لدي دربة خاصة على استيعاب هذا المتخيل الشعبي المدهش. وربما من هذا الهوس كان الانتقال إلى كتابة القصة القصيرة. وإن كانت هناك دوافع أخرى وقفت وراء هذا التوجه. أذكر منها نهم القراءة المبكرة بالعربية والإسبانية، مما مكنني من الاطلاع على أعمال كثير من كتاب القصة القصيرة من الشرق والغرب، أمثال تشيكوف وإدجار آلان بو وجي دي موباسان و أو هنري وإرنست همنغواي وفرانز كافكا وخورخي لويس بورخيس ويوسف إدريس ونجيب محفوظ وعبد الكريم غلاب وعبد المجيد بن جلون واللائحة طويلة. بيد أن هناك كما سبقت الإشارة، تأثير السينما. فقد كانت مدرسة حقيقية لجيلي يوم كانت أهم وسيلة للفرجة والانفتاح على الآخر. فبما كانت تقدمه من أفلام روائية رائعة، أمكنها أن تزرع في ذهنيتي مزيدا من النزوع نحو الحكي وتداول ملخصات الأفلام المشاهدة بين الأصدقاء والزملاء. نظرا للدور المحوري الذي كانت تلعبه السينما خلال طفولة جيلي، إن على المستوى الفرجوي وإن على المستوى التثقيفي، في غياب مؤسسات مماثلة. وما دمت قد ربطت أنت في السؤال بين الاهتمام بالقصص الشعبي والتورط في كتابة القصة القصيرة، يمكنني أن أؤكد العلاقة الأسرية الرابطة بين الاثنين، حتى تتبين مرونة الانتقال من الأولى إلى الثانية. فكما ذهب إنريكي آندرسون إمبريرت في كتابه العميق (نظرية وتقنية القصة القصيرة ، إن القصة القصيرة قد تناسلت من القصص الشعبي. لهذا ليس غريبا أن يكون التزود بالمأثور القصصي الشعبي مبكرا، قد خلق في ذاكرتي هذا النزوع الفطري نحو كتابة القصة القصيرة فيما بعد. وإلا فلماذا لم أكن شاعرا أو مسرحيا مثلا؟. هل تتذكرأول نص قصصي خرجت به إلى العلن في سيرتك الأدبية قبل خمسة عقود ؟ أذكر أن أول نص قصصي نشرته، وأنا ما أزال طالبا، أتابع دراستي بالسنة الجامعية الأولى، في كلية الآداب بفاس، كان تحت عنوان (سأبدأ من الصفر). وذللك سنة 1966، على الصفحة الثقافية لجريدة الأنباء، التي كان يديرها الكاتب والشاعر محمد الطنجاوي. حصلت على الإجازة في الأدب العربي سنة 1968، حدثنا عنها وعن قيمتها الأدبية والرمزية؟ كانت الإجازة في الأدب العربي سنة 1968، حدثا مائزا له قيمته المادية والاجتماعية المعتبرة. فأولا، كان منصب السلم العاشر لأستاذ بسلك التعليم الثانوي في الانتظار، مقابل راتب شهري كان له بال في الفترة. وثانيا، كان لوقع الإجازة على الأسماع أثر خاص، في وقت كانت الشهادة الابتدائية والبروفي ينظر إليهما بكثير من التقدير. بيد أنه كان للحاصلين على الإجازة في تلك الفترة، اعتبار آخر يتجلى فيما تمتعوا به من كفاءة معرفية ودراية تربوية وسلوك أخلاقي مثالي، فحققوا بهذا مكانة مرموقة بين الناس. وللتدليل على هذا، يكفي أن أستدعي هنا للتمثيل وليس الحصر، بعض الأسماء المعروفة، أمثال: محمد الخمار، محمد الميموني، محمد أنقار، إبراهيم الخطيب، محمد بوخزار، إدريس الناقوري، أحمد المديني، أمين الخمليشي، محمد السولامي، محمد عنيبة الحمري، محمد الكغاط، محمد بنعمارة وأضرابهم. ولا غرو، فإن معظم هؤلاء كانوا ينشرون كتاباتهم وإبداعاتهم بالمنابر الوطنية وهم ما يزالون بعد طلبة في الجامعة، بل إن كلا من المرحوم محمد بندفعة ومحمد عنيبة الحمري قد نشرا دوانيهما الشعريين خلال فترة الدراسة الجامعية. لو أردنا أن نؤسس للكتابة القصصية بالمغرب، فمن هو الجيل الأجدر بذلك؟ هل جيل أحمد اشماعو والقطيب التناني وعبد المجيد بنجلون؟ أم جيل الستينات، مثل عبد الكريم غلاب وعبد الجبار السحيمي ومحمد برادة ؟ في البحث العلمي لا نتعامل مع الظواهر بمثل هذه العقلية التي سادت خلال السبعينيات على وجه التخصيص، مستندة إلى الابتسار والاجتزاء عن حسن نية أو سوئها. انطلاقا من هذا المبدأ الأكاديمي، يمكن الذهاب إلى أن كل من ذكرتهم وغيرهم قد ساهموا جميعا في إدخال هذا النوع السردي إلى دائرة الاهتمام، لدى المغاربة إبداعا وتلقيا، بعد أن كان الشعر هو سيد الساحة الأدبية الوطنية. ذلك أننا وجدنا كتابا مغاربة قد نشروا نصوصهم القصصية، في ثلاثينيات أو أربعينيات أو خمسينيات القرن الماضي. نذكر منهم علال الجامعي، مليكة الفاسي، عبد الرحمن الفاسي، أحمد بناني، عبد المجيد بن جلون، عبد الكريم غلاب، أحمد عبد السلام البقالي، محمد الخضر الريسوني، آمنة اللوه. بل يمكن الرجوع إلى فترة ما قبل الثلاثينيات مع المقامات والقصص الشعبي، كإرهاصات لاستنبات الكتابة القصصية المعاصرة في حقلنا الإبداعي. أما في مرحلة الستينيات والسبعينيات، فقد عرفت هذه الكتابة تطورا كميا ونوعيا ملحوظا، من غير أن يعني هذا أنها قد تأسست في هذين العقدين حصرا. إذ لكل مرحلة من مراحل مسار قصصنا العربي بالمغرب، أسماؤها ونوعيتها وإضافاتها ومستويات تطورها. وهكذا كانت القصة القصيرة التي تهمنا في هذا الحديث، عبارة عن حكاية أو مقال قصصي أو صورة قصصية أو قصة تيمورية متشبثة بالأضلاع الثلاثية الموباسانية المعروفة (مقدمة عقدة خاتمة). ثم انتقلت إلى التجريب في العقد السبعيني كما هو معروف. عرفت القصة القصيرة ازدهارا على مستويات عدة، تتعلق أساسا باقتحامها عوالم التجريب في السبعينات. ماهي العوامل التي ساعدتها على ذلك مع قلة المنابر الصحفية وعوائق النشر؟ فعلا، كانت القصة القصيرة تستأثر بالساحة الإبداعية المغربية بجانب الشعر، خلال الستينيات والسبعينيات، لعاملين اثنين أساسيين من بين عوامل التأثير في الظاهرة، وهما: كون القصة القصيرة كانت نبتا جديدا على حديقة الأدب في المغرب. فبعد أن استنبتت بشكل أولي في التربة المغربية خلال العقود الثلاثة السابقة على الستينيات، توسع لدى المثقفين التعاطي الواعي لهذا النوع السردي، نتيجة توفر المتون المهمة منها، المتمثلة في النماذج المنتثرة في المجلات العربية والمغربية، وفي مقدمتها مجلة المجلة والكاتب والطليعة المصرية، والآداب البيروتية والأقلام العراقية وآفاق المغربية. فضلا عن المجاميع القصصية الواردة من الشرق العربي لكبار الكتاب، خصوصا من مصر، التي كانت تموج بكتابات من سموا نقديا بجيل الستينات. دون أن ننسى الترجمات المتوالية للقصص العالمي في المنابر الوطنية والعربية المختلفة. العامل الثاني، يتجلى في ارتفاع مستوى التعليم بدرجة ملحوظة، بعد فترة الاستقلال، حيث واصل أبناء الطبقة الوسطى دراستهم العليا، وتمكنوا من استيعاب النظريات والمفاهيم الخاصة بالقصة القصيرة. كما تأثروا بقراءاتهم الواعية للنصوص الجيدة منها عربيا وعالميا، مثلما هي لدى يوسف إدريس ويحي حقي ونجيب محفوظ وهمغواي وكافكا وألبرتو مورافيا وغيرهم. مما ساعد على ظهور اتجاهين بارزين في القصة القصيرة المغربية خلال ربع قرن التالي على فترة الاستقلال؛ هما الاتجاه الواقعي النقدي من جهة، مستفيدا من مدّ الفكر الماركسي وموجة الالتزام المهيمنين خلال الستينيات، ومن الانفراز الطبقي، بعد تواريه طيلة مرحلة مقاومة الاستعمار. ويتعلق الأمر من جهة ثانية، بالنزعة التجريبية المحتشمة، وخاصة خلال السبعينيات، وفق تحديدك في هذا السؤال، متأثرة بما قرأه أصحابها لفرانز كافكا وأمثاله، لا سيما وأن أصداء موجة الرواية الجديدة للثلاثي آلان روب غرييه ونتالي ساروت وميشيل بوتور، كانت تتردد بقوة بين المثقفين الطليعيين بمغرب هذا العقد. أصدرت في هذه الفترة،مجموعتك القصصية البكر «أنياب طويلة في وجه المدينة»، البيضاء، مطبعة الأندلس، 1976. كم كانت التكلفة المالية حينها، وما هي أصداؤها؟ كان إصدار مجموعة (أنياب طويلة في وجه المدينة) مغامرة لذيذة، رغم أنها كلفتني الكثير. فقد وصلت الكلفة المادية إلى ثلاثة آلاف درهم لألفي نسخة. وكان لهذا المقدار المالي قيمة كبيرة في ذلك الحين. كما كلفتني هذه المجموعة القصصية، جهدا استثنائيا خلال الطبع والتوزيع. ولا أترك هذه المناسبة تمر من غير أن أذكر هنا حدثين طريفين حصلا معي خلال عمليتي الطبع والتوزيع. الأولى، أنني والصديق محمد بنيس، ظللنا خلال أسبوع تقريبا، نساعد في تصفيف الأحرف الرصاصية بالمطبعة البدائية في الدارالبيضاء. وعندما أوشكنا على الانتهاء من المهمة، رجعنا إلى المطبعة بعد تناول الغذاء، ففوجئنا بأحد العمال قد بعثر على الأرض برجليه، ودون انتباه منه طبعا، صندوق الأحرف الرصاصية المصففة. فكان علينا أن نبدأ عملية التصفيف الشاقة من البداية. والثانية، حدثت عند التوزيع الشخصي للمجموعة على المكتبات بأهم المدن المغربية، وبمساعدة عدد من الأصدقاء. ذلك أنني قصدت مكتبة ذات فضاء شاسع، في حي الأحباس بالدارالبيضاء، وطلبت من صاحبها عرض المجموعة القصصية الصغيرة الحجم في مكتبته. لكنه اعتذر بأنه لا يوجد في مكتبته مكان فارغ ! كان للمجموعة صدى طيب لدى الأصدقاء والمعارف وكثير من القراء، فقد كان نشر كتاب آنئذ في حد ذاته أمرا غير عادي، بالساحة الثقافية عموما والإبداعية تخصيصا. كتب عنها بعضهم، وأهملها آخرون، لكون صاحبها كان يغرد خارج السرب. وتلك قصة أخرى. انشغالك بالإبداع القصصي، قادك من دون شك إلى الاهتمام بل التخصص الأكاديمي بالنقد والدراسات القصصية، مما يشكل لديك رؤية متكاملة إبداعا ونقدا؛ حدثنا عن مختبرك السردي، ولماذا القصص الشعبي بالذات؟ ذكرت سابقا بأن الارتباط بالحكي، قد انطلق منذ الطفولة. هذا سبب. والسبب الثاني، يندرج ضمن انشغال جيلي بتسليط الأضواء الكشافة على الحركة الأدبية المغربية، قديمها وحديثها، نظرا لما كانت تلاقيه من إهمال لدى الأشقاء المشارقة. وكذا، نظرا لغياب المعرفة الكافية به. وهناك سبب ثالث، ويتعلق بالقصص الشعبي المغربي. فقد بدا لي من التعاطي مع هذا القصص، أنه قد ظلم كثيرا، رغم ما يمتلكه من بلاغة وروعة فنية. ثم إنني وجدت فيه إضافة إلى الدافع الذاتي، أرضا بكرا غير مطروقة، يمكن للباحث الأكاديمي والناقد الأدبي أن يجترح من وراء التخصص فيه كثيرا من الإضافات النظرية والإجرائية المهمة. يعتبر الدكتور مصطفى يعلى، إلى جانب الدكتور عبد الرحيم المؤذن والدكتور أحمد المديني والدكتور حميد الحميداني، من الأسماء البارزة التي اشتغلت على الدرس السردي القصصي، باختصار كيف تقيم هذه المختبرات؟ وما السبيل إلى إثراء حقل الدراسات السردية في هذا المجال؟ تلك مرحلة مرت، حيث كان الباحثون المغاربة يشتغل كل واحد منهم على انفراد رؤية ومنهجا، من أجل الكشف عن هذا الجانب أو ذاك من جوانب تراثنا الأدبي القديم والحديث بما فيه المعاصر. في حين كان غيرنا في الأمم المتقدمة يشتغلون ضمن خلايا بحث، وفي نكران ذات، وفي ظل ظروف مواتية، لذا تمكنوا من تقديم كثير من المنجزات النظرية والمنهجية المعتد بها عالميا. ومع ذلك، يمكن القول إن تلك الجهود الفردية للباحثين المغاربة، قد تمكنت بالنسبة للتراكم السردي في المغرب، أن تنزع الغطاء عن متونه، وتعين مراحل تطوره، وتحدد لوائح مبدعيه، وتكشف أسرار جمالياته، وتصنف اتجاهاته. وهذا ليس بالأمر الهين، بل على أرضيته تنهض الأبحاث والدراسات المنشغلة بمختلف الملامح والظواهر الأدبية الجديدة. أما راهنا، فنحن بصدد مرحلة ثانية تشتغل على التجربة السردية المغربية والعربية، بواسطة نظريات ومناهج أكثر حداثة وجد متطورة. وهذا أمر طبيعي للمسار التطوري للدراسات الأدبية أكاديمية ونقدية حرة. خصوصا وأن الساحة الجامعية قد اغتنت بالمختبرات السردية، إلى جانب انتشار الجمعيات والمنتديات المخصوصة بالسرد ودراسته ونقده. ألا ترون أن التجربة القصصية الثمانينية في المغرب، قد شكلت قطيعة مع الأجيال السابقة، بارتيادها لعوالم التجريب، والانكفاء على تقليب الهموم الذاتية بدل القضايا الاجتماعية، التي عرفتها قصص الواقعية الاجتماعية في السبعينات مع زفزاف والخوري وشكري وغيرهم؟ لا أعتقد أن هناك قطيعة جيلية جذرية، في الكتابات الإبداعية، أحرى النقدية. إذ ثبت بفعل نظرية التناص، أن ما يحكم مسار الأدب هو التأثر والتجاور والتساند والتكامل في سياق تطوري متماسك، رغم ما قد يبدو على السطح من اختلاف وتفارق. إن التفسير الذي أعتقده هنا، يتجه نحو اعتبار مرحلة الستينيات والسبعينيات كانت قد استنفدت ظروفها الإيديولوجية، التي أنتجت ما سبقت الإشارة إليه من استيحاء للصراع الطبقي وهيمنة الواقعية النقدية، حيث ذابت الذوات الفردية في الذات الجماعية المهيمنة. أما ابتداء من الثمانينيات، فقد اختلفت الظروف وتشعبت العلائق وتراكمت المستجدات، مما عزل الفرد في هموم ذاتية تتعلق بمصارعة الواقع اليومي من أجل الوجود. وهو ما انعكس على الكتابة الإبداعية. وبذلك تكون مرحلة مختلفة عن التجربتين الستينية والسبعينية حياة وإبداعا، قد انطلقت مع جيل جديد له معاناته الخاصة ومفاهيمه الجديدة ورؤاه إلى الحياة. لكن من غير قطع حبل السرة، الممتد من أجيال ما قبل الثمانينيات وخلالها وما بعدها إلى الآن. ألم يبدأ التجريب في السبعينيات؟ ثم هل انقطع كل كتاب ما قبل الثمانينيات عن الإبداع السردي؟ وبالنسبة لتمركز النصوص حول ذات الكاتب، ألم تستمر خناثة بنونة بكتابتها المتمحورة حول ذاتها حتى في هذا العقد وما بعده؟. إلى ما يعزى شبه غياب الصوت النسائي إلى حدود أواسط التسعينات، وانفجار النشر الرقمي والإنترنت؟ أولا، دعني أن أوجز خطا بيانيا، يرصد تواجد المرأة المغربية إبداعيا. حتى الآن إن ما ندريه كون الصوت النسائي الذي اقتحم مبكرا عالم الأدب سرديا، هو صوت مليكة الفاسي. فقد انطلق نشر قصصها القصيرة خلال الثلاثينات من القرن العشرين. وكان علينا أن ننتظر إلى الخمسينات لنلتقي مع آمنة اللوه في روايتها القصيرة (الملكة خناثة) الحاصلة على جائزة (جوائز المغرب ومرويكوس). ولم يعل صوت المرأة في الإبداع القصصي، إلا مع خناثة بنونة ورفيقة الطبيعة وفاطمة الراوي بالنصف الثاني من عقد الستينات. وثانيا، لفهم الظاهرة على ضوء التفسير الاجتماعي، ينبغي أن نستحضر وضعية المرأة المغربية حتى فترة الاستقلال. إذ لم يكن لها حضور في الواقع الاجتماعي، لأنها كانت حبيسة البيت، وغارقة في الأمية، ومكبلة ماديا. ولم تبدأ في الانخراط في الحياة العامة، وفي الحركة الثقافية سوى بعد تلك الفترة، حيث دخلت المدارس واقتحمت الجامعات، واحتكت بالتجربة الحياتية خارج البيت. أما في الثمانينات والتسعينات، فقد كانت المرأة المغربية قد أصبحت عنصرا فاعلا في كل الميادين، واحتلت مكانتها في كل مراتب الحياة، لهذا يلاحظ أن تجربتها أكثر غنى، وروافد إبداعها أغزر تنوعا وخصوبة. ظاهرة قصصية فرضت صوتها كجنس قصصي له خصوصياته البنيوية والجمالية والسردية، يتعلق الأمر بما يسمى بالقصة القصيرة جدا؟ كيف تنظر إلى تراكمها الآن وكيف تنظر إلى مستقبلها؟. القصة القصيرة جدا، فن سردي جديد بمعنى الكلمة. فقد أفرزه القرن العشرون على احتشام، لكنه أخذ يستفحل في الألفية الثالثة. ولعلك تذكر أننا في مجلة «مجرة» التي تصدر عن دار البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع بالقنيطرة، كنا قد خصصنا ملفا واسعا بعدد مزدوج للقصة القصيرة جدا، ترك أثرا طيبا لدى القراء. وإذا كان الكثيرون راهنا، قد شرعوا يركبون موجة القصة القصيرة جدا، طمعا في سهولة تناولها كما يظنون، فإن القلة القليلة من كتابها هم من يستوعبون شروطها وضوابطها. ويمكنني أن أزعم بالمناسبة، أن هذه القصة من أصعب الأنواع السردية. فهي تجمع في كلمات وجمل محدودة، بين التجربة الحياتية العميقة، ومنتهى التكثيف البليغ، والشاعرية المدهشة، والمفارقات المعجزة، وما إلى هذا من عناصر التحدي لقدرات المبدع. أما بالنسبة لمستقبل القصة القصيرة جدا. فيمكنني الذهاب بعيدا، فأعتقد أن المستقبل ليس للرواية ولا للقصة، بل للقصة القصيرة جدا. وذلك بسبب روح العصر، المتسمة بالسرعة المتناهية والتخصصات الدقيقة. إذ لم يعد الزمن يسمح بالتعاطي للنصوص الطويلة وفق ما كان عليه الحال في القرنين الماضيين. كما أن أدوات التواصل الفكري والإبداعي، أصبحت تتحكم في أحجام وأشكال الأعمال الأدبية، مثلما يتجسد في سلطة التغريد بالتويتر، والتواصل الفيسبوكي. وما رأيك في القصة القصيرة التفاعلية، التي ترتكز أساسا على التشعبية، أو ما يسمى بالنص المترابط؟ بصراحة، لم أتعرف على هذه التجربة بعد. فتعاملي مع الإنترنيت جديد ومحدود. ولا عجب، فأنا من الجيل الذي تربى على الكتاب. وليس تعاملنا مع الإنترنيت إلا محاولة منا للحاق بمنجزات العصر المستجدة. تشرفون على إصدار المجلة الورقية (مجرة)، وهي مغامرة في ظل انحسار المقروئية وتراجعها، حدثنا عن آفاق هذا المشروع الأدبي والثقافي الهام في زمن الإنترنت؟ كان تأسيس هذه المجلة في التسعينات، مشروعا مشتركا بين ثلة من الأسماء (محمد البوكيلي، بشير القمري، مصطفى يعلى، محمد زفزاف، محمد الكغاط، مبارك الدريبي، محمد سعيد سوسان، محمد واحمان). على أن تتولى دار البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع بالقنيطرة، نشرها وتوزيعها. وكانت الفكرة التي وقفت وراء إصدارها، أن يتاح لكل الأقلام الكفأة المجال الذي تنشر به في استقلالية عن أي تبعية لهذه الجهة أو تلك. فضلا عن هدفية ربط المجلة بمحيطها الجامعي، من حيث توفير منبر جاد يتسع للكتابات الأكاديمية، على اعتبار (مجرة) تصدر في دائرة وجود جامعة ابن طفيل. وككل فعل ثقافي حر في العالم الثالث، عانت المجلة من كثير من عوامل التثبيط، التي كان من الممكن أن تتسبب في إيقافها منذ صدور أعدادها الأولى. لكن الإيمان بجدواها، وتضحيات مديرها الصديق محمد البوكيلي، ساعدا على مغالبة تلك العوامل السلبية. وهاهي بصدد إغناء رصيدها الطويل العريض، بإصدار العدد الرابع والعشرين قريبا. فيما يتعلق بتلقي «مجرة» من لدن القراء، يمكنني أن أؤكد لك بأنها قد كسبت الرهان، بمثابرتها وملفاتها الأدبية النوعية الجادة. إذ أضحت شريحة مهمة من القراء تنتظر باهتمام صدور أعدادها المتوالية، والإقبال عليها بكثير من التقدير، والسؤال عنها باستمرار. لاسيما وأن هناك خصاصا حادا يعاني منه المغرب بالنسبة للمنابر الأدبية. وأقول لك عن آفاق هذه المجلة، إنها مستمرة على المدى المنظور، في نشر الملفات الضافية عن مختلف الظواهر الأدبية الحاضرة في الساحة الثقافية. إلى جانب فسح المجال لكل الكتاب الجادين من مختلف الأعمار والاتجاهات، لأن ما يهمها هو الفعل الثقافي وما يحققه من تراكمات خصبة ومخصبة. أيضا، إن هيئة تحريرها تفكر دوما في اعتماد صيغ جديدة لتقديم المادة الثقافية لقرائها، وتطوير نوعية مواضيعها، بعد أن غطت ملفاتها السابقة معظم الأجناس الأدبية المعروفة تقريبا. لو طلبنا من الدكتور مصطفى يعلى انطباعا سريعا، وهو يعيش بين عصر الورق وعصر الرقمية، ما هو إحساسك؟ إنها معادلة صعبة. ذلك أنني متعود على التعامل مع المكتوب ورقيا، والتركيز على العبارات والفقرات والصفحات، باستعمال قلم الرصاص تلخيصا وتعليقا وإصلاحا ونقدا. وهو الأمر الذي يجعل الأفكار تترسخ جيدا في الذهن أكثر. لهذا فالكتب التي قرأتها بهذه الطريقة، من الصعب أن يتعامل معها غيري من القراء بارتياح، بسبب تشويش قلم الرصاص. لكن من ناحية أخرى، وجدت أن الفضاء الرقمي يقدم إمكانيات هائلة للمتلقي، لا تفلت أي شيء. بحيث أصبح مرجعا مسعفا في أي موضوع، وبأكثر سرعة وأقل جهد. لهذا صار من غير الممكن الاستغناء عنه. وأذكر في هذا الصدد، أنني قضيت أواخر السبعينات سنتين كاملتين في جمع المادة الخام لبحث دبلوم الدراسات العليا، في حين يمكنني الآن أن أحصل على نفس المادة وأكثر في دقائق. ولعل أهم ما يروق لي على هذا المستوى الرقمي، هو توفر المصادر والمراجع قديمة وحديثة، صادرة عن دور النشر المعتد بها علميا في هذا القطر أو ذاك من الأقطار العربية، ما كنا نحلم أن تصلنا في الماضي. وفي انتظار أن تسفر المنافسة بين الإمكانيتين الورقية والرقمية، عن نتيجة ما مستقبلا، سأظل أفضل الكتاب الورقي، (وكل فتاة بأبيها معجبة) كما يقول المثل المأثور. وإن كنت أود لو يظل الورقي والرقمي يخدمان معا ثقافة الإنسان بنوع من التكامل. أصدرت مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة عدة كتب رقمية، تتنوع بين الدراسات والسرد، آخرها إصدار الأعمال الكاملة في ثلاثة أجزاء للشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة؛ ألا ترون أن الكاتب المغربي لم يملك بعد الشجاعة لكي يدخل تجربة الإصدارات الإلكترونية؟ وإلى ما يعزى هذا التوجس؟ إنها ظاهرة جديدة، لم تتأصل بعد في ثقافتنا. وأكيد أن كتابنا سيقبلون على النشر الرقمي، حين يأنسونه ويلمسون فائدته، على غرار ما فعلوا مع الإنترنيت عموما عند ظهوره. وينبغي أن نستحضر أن عددا غير قليل من مثقفينا لا يحسن حتى الآن التعامل مع الحاسوب أصلا، أحرى الاستفادة من الإصدار الرقمي. أخيرا تعيش كل الدول العربية ثورات وانتفاضات ما يسمى بالربيع العربي، الذي تحول إلى جحيم عربي، أنتم سيدي الدكتور مصطفى يعلى ككاتب ومثقف عربي، كيف تنظرون إلى هذه النار التي أشعرتنا بالخيبة واليأس، أكثر مما أشعرتنا بالأمل؟ أظنك الأستاذ عبده حقي تقصد الخريف العربي؟ إن من عاش شبابه ورجولته في سياق وطني عربي قومي، ممتلئا بالآمال العريضة والتوقعات الفردوسية، خصوصا بعد الحصول على الاستقلال عن الاستعمار الغربي المقيت؛ لا يمكنه إلا أن يشعر بوجع الحسرة، أمام ما حاق بالشعوب العربية من ويلات. وفي اعتقادي أن المؤامرات الدولية والصهيونية ما كانت لتتوفق فيما خطط له، لولا التواطؤ العربي، وتهميش المثقفين الشرفاء، وصمت رجال الدين الحقيقيين المتنورين، وكبح عجلة التطور. ومع ذلك، فإن التاريخ ليس أعمى أو أعرج، بل إنه يرى ويتحرك. ولعل الغد يأتي بما هو أفضل.