كان الفندق الصغير يطل مباشرة على ال «فونتانا دي تريفي» نافورة العشاق التي كان من يقذف فيها بعملة نقدية تتحقق أمنيته مهما كانت العملة صغيرة ومهما كانت الأمنية كبيرة. كانت أمنية ضحى منذ زمن أن تنزل في هذا الفندق الذي لم يكن مثل فنادق الخمسة نجوم التي اعتادتها، خاصة في رحلاتها مع زوجها، وكان من الصعوبة بمكان أن تجد غرفة خالية في هذا الفندق الصغير الذي يأتيه السواح من جميع أنحاء العالم في رحلتها الأخيرة مع زوجها إلى روما، أعطت ظهرها للنافورة وقذفت من وراء ظهرها بعملة في الماء، نظر إليها زوجها في دهشة، ضحكت وقالت له «تمنيت أن أنزل يوما ما في هذا الفندق الصغير المليء دائما عن آخره» قال «في بعض الأحيان يخيل إلي أنك ما زلت في سن المراهقة لم تبرحيه إن أردت أن تجدي غرفة في الفندق فما عليك إلا أن تحجزي فيه مقدما». أرادت أن تقول له إنها لم تدخل سن المرهقة أصلا كي تبرحه، وأن بسببه حرمت من تلك السن التي تسمع أنها أجمل مراحل العمر حيث المرح والإقدام وغياب المسئولية، لكنها صمتت.. زالت الابتسامة من وجهها وقالت «إذن فلنحجز من الآن للعام القادم حين أجيء لصالون الربيع في ميلانو» قال زوجها «هل تتصورين أنك ستنعمين بدقيقة نوم واحدة في هذا الفندق؟ إن نوافذ الغرف كلها تطل على الميدان، والسواح لا يتوقفون طوال الليل عن زيارة النافورة واللهو حولها بضجيجهم الذي لا ينقطع» قالت له «أعرف كل ذلك ومن أجل هذا أريد أن أنزل بهذا الفندق الذي يشعرني أنني نزيلة بالنافورة نفسها وليس بالفندق» قال «إنك لست فقط مراهقة أنت مجنونة أيضا» حكت كل ذلك لأشرف الزيني في الطائرة بعد أن توثقت العلاقة بينهما خلال الرحلة، وأضافت »أنا لن أمضي في روما إلا ثلاثة أيام سأطير بعدها إلي ميلانو لحضور صالون الأزياء، فلماذا لا أمضي هذه الأيام بعيدة عن الرسميات الخانقة التي لم أعد أطيقها؟« قال لها »معك حق أما أنا فقد أمضي في روما أسبوعا كاملا؛ لدي اجتماعات مع أساتذة كلية الهندسة بجامعة روما حيث نعد اتفاقية لتبادل الأساتذة والطلاب بين جامعتينا بمجرد أن انتهى منها سأتوجه إلى پالرمو عاصمة صقلية لحضور المؤتمر السنوي لمنظمات المجتمع المدني« »في أي فندق تنزل بروما؟« سألته بعد لحظة تردد أخرج من حقيبته رسالة إلكترونية وقرأ لها اسم الفندق المدون بها قالت »ألا تعرف أين هو؟« قال »أنا لا أعرف روما، كما قلت لكِ، والزيارة كلها معدة لي، فأنا مدعو، وإلا لما وجدتني معك هنا في الدرجة الأولى على فكرة أريدك أن تدليني على مطعم لطيف يمكنني أن أدعو فيه الليلة أحد أساتذة الجامعة هو وزوجته« قالت على الفور »اذهب إلى حي »تراستفري« القديم الواقع على الضفة الغربية للنهر ستجد هناك أجمل مطاعم روما« قال لها »دليني على مطعم محدد هناك« دلته على مطعمها المفضل قالت إنه في شارع غاريبالدي، وأن تاريخه يعود إلى القرن ال 17 حين كان مجرد حانة تقدم النبيذ والخبز للفلاحين الذين يأتون إلى روما لدفع الضرائب المستحقة على غلالهم. وما إن خرجا من مطار روما حتى افترقا، ومضى كل منهما إلى حال سبيله لاحظت عند خروجها قبله وجود شخص في انتظاره في الخارج يحمل لافتة صغيرة عليها اسم »البروفيسور أشرف الزيني« تعجبت من أنها في صباح اليوم ذاته لم يكن هذا الاسم يعني لها أي شيء، وها هو صاحبه الآن رجل سعدت بمعرفته وتشعر أنه إنسان صادق. كانت في بداية الرحلة تنوي أن تتصل بزوجها من روما لتخبره بوصولها، وتشكو له من موظفيه الذين لم يلتزموا برغبتها في إبقاء المقعد المجاور لها شاغرا ابتسمت وهي تتخيل الصدمة التي لابد سيصاب بها إذا عرف أن جارها كان أحد ألد أعداء الحزب، وأنهما لم يتوقفا عن الحديث طوال الرحلة. دخلت إلى الفندق واتجهت مباشرة إلى موظف الاستقبال وقالت له »لقد حجزت غرفة عندكم منذ العام الماضي، ثم أكدت الحجز منذ أسبوع عن طريق الإنترنت« خشيت ألا تجد الغرفة، لكن كل شيء كان كما توقعت، والغرفة كانت في انتظارها لابد أن العملة التي ألقتها في العام الماضي في النافورة أحدثت مفعولها. صعدت إلى غرفتها بالدور الثاني على السلم لم يكن هناك مصعد، وما إن دخلت الغرفة وفتحت النافذة المطلة على النافورة حتى امتلأت الغرفة بأصوات السواح وكأنهم قد صعدوا جميعا إلى غرفة نومها ارتمت على السرير وأخذت تضحك مما فعلت بنفسها، كيف ستبيت ليلتها هكذا وكأنها في الميدان؟ بل كأنها داخل النافورة ذاتها؟ كان مشهد النافورة مختلفا تماما من نافذة غرفتها، فالناس جميعا يشاهدون التماثيل الرخامية المنحوتة على الحائط الخلفي للنافورة من منظور سفلي، أما المشهد الذي تبدى أمامها من النافذة، فكان مشهدا علويا أحست معه أنها تشاهد هذه النافورة الرائعة لأول مرة وجدت في الغرفة منشورًا ملونًا عن الفندق والنافورة يقول إن الذي نحت تماثيلها هو المثال الشهير جيوسبي بانيني عام 1762 كان إله البحار المنحوت في القبو الأوسط للنافورة عملاقا والمياه تتدفق من تحت قدميه، لكن من نافذة غرفتها كان وجهها على نفس مستوى وجهه أحست لوهلة بأنها في حجمه وأنها مثله تملك القدرة على تطويع مسارات حياتها لتتدفق في الاتجاه الذي تريده. كانت على موعد مع صديقة لها، هي زوجة أحد نواب البرلمان من معارف زوجها، كانا قد زارا مصر واتفقت الزوجتان على أن تلتقيا عند زيارة ضحى لروما ليتناولا العشاء معا قبل سفرها إلى ميلانو كان أول ما قالته لها جابرييلا حين حضرت إلى الفندق لتصحبها إلى العشاء »كيف ستنامين الليل في هذا المكان؟« ضحكت ضحى، وقالت لها »لا يبدو أنني سأنام الليل ولا النهار، فالسواح لا يتوقفون عن زيارة النافورة لا في الليل ولا في النهار« ثم سألتها جابرييلا أين تريد أن تتناول العشاء؟ فقالت ضحى على الفور »في مطعم أنتيكا بيزا في حي تراستفري«. وفي المطعم القديم جاء النادل فأشعل الشمعة الموضوعة وسط المنضدة، ونظرت ضحى إلى حوائط المطعم التي تزينها صور كبار الشخصيات العالمية ممن زاروا هذا المكان؛ من ممثلين ورجال سياسة وأدباء، وقالت لجابرييلا »أشعر بألفة في هذا المكان« فردت عليها بابتسامة »هل لأنك بين أقرانك من مشاهير العالم؟« قالت »بل أشعر بالألفة بالرغم من هؤلاء المشاهير إن ما يشعرني بالراحة هنا هو تاريخ هذه الحوائط وليس الصور التي تزينها« قالت جابرييلا »مع ذلك أعتقد أن مدير المطعم لو اطلع على تصميماتك التي شاهدتها في القاهرة والتي لابد ستلقي نجاحا كبيرا في ميلانو سيسارع بوضع صورتك إلى جوار هذه الصور« شكرتها ضحى وقالت لها »الحقيقة أنني سأقدم هذه المرة مجموعة جديدة تماما من التصميمات تختلف عما أطلعتك عليه في مصر أهم ما يميزها أنها كلها مستوحاة من الفراشة، فبعض الفساتين تتدلى أكمامها كالأجنحة، والبعض الآخر لها ذيول تتهادى خلف الفستان، وكلها تستحضر بألوانها الصيفية ألوان الفراشات الزاهية« ثم قالت »أنا في الحقيقة مهتمة جدا بالفراش إن للفراشة الواحدة أكثر من حياة، فهي تتحول من دودة محبوسة داخل شرنقة إلى فراشة جميلة ذات أجنحة تطير بها في الهواء لتستنشق عطر الأزهار إن الفراشة بالنسبة لي رمز لميلاد حياة جديدة« ثم ضحكت وقالت »يخيل إلي في بعض الأحيان أنني خلقت لأكون فراشة« قالت جابرييلا »للحكيم والفيلسوف الصيني تشانج زي الذي عاش قبل الميلاد بحوالي سنة مقولة يتساءل فيها »لست أعرف إن كنت آنذاك إنسانا يحلم أنه فراشة، أو أنني الآن فراشة أحلم أنني إنسان؟ « جاء النادل يعرض قائمة الطعام قالت ضحى إن بها رغبة اليوم لمأكولات البحر، فأشارت جابرييلا بأصبعها إلى طبق ما إن رأته ضحى حتى ضحكت هي وجابرييلا معا كان هو سمك السردين المقلي المفتوح من جانبيه وكأن له جناحين وكان يحمل اسم »سردين بترفلاي« أثارت ضحكتهما المشتركة انتباه الحضور. نظرت ضحى حولها، فإذا بها تجد على بعد طاولتين الدكتور أشرف ومعه أستاذ الجامعة الذي حدثها عنه وزوجته لاحظها فأشار لها محييا فردت تحيته، وقالت لجابرييلا »هذا أحد أقطاب المعارضة في مصر كان معي على الطائرة هذا الصباح« فقالت لها جابرييلا »والشخص الذي معه هو أحد قيادات الحزب الشيوعي الإيطالي« فردت ضحى »أعوذ بالله « فنظرت إليها جابرييلا غير فاهمة تعليقها قالت ضحى »هل لا يزال عندكم شيوعيون؟ ألا يكفي ما تسببوا فيه من مآسٍ في العالم؟« فردت جابرييلا »إن زوجي كما تعلمين في الحزب الحاكم وهو أبعد ما يكون عن اليسار، لكن الشيوعيين والاشتراكيين لهم دور كبير في الحياة السياسية عندنا، وفي بعض الأحيان تتحالف أحزاب اليمين معهم لتشكيل الحكومة« فاكتفت ضحى بالقول »الوضع عندنا مختلف« تطرق الحديث مرة أخرى إلى تصميمات ضحى، فقالت جابرييلا »أشعر مما وصفته لي أن أزياءك ستكون مريحة جدا لمن ترتديها« قالت ضحى »تلك من الأشياء التي حرصت عليها، فمعظم مصممي الأزياء في العالم من الرجال، والمرأة للكثيرين منهم مجرد شماعة يعلقون عليها أزياءهم، أما حين تكون المصممة امرأة فإنها تشعر بجسد من ترتدي الزي بشكل مختلف، وعندئذ تدخل الراحة كاعتبار أساسي في أزيائها، فما فائدة أن يكون الزي مبتكرا لكنه غير مريح؟ إن هدف الأزياء في رأيي ليس مجرد أن تجعل المرأة أكثر أناقة، إنما أن تجعلها أكثر سعادة« ضحكت جابرييلا وهي تقول »لقد شوقتني يا ضحى أن أطلع على أزيائك السعيدة« كان عشاءً جميلاً يمثل بداية موفقة لرحلتها التي كانت تتطلع بشغف لنتائجها النهائية بعد أيام في ميلانو شكرت جابرييلا وهمت هي وصديقتها بالنهوض حين فوجئت بأشرف الزيني يقبل عليها بابتسامة عريضة هو وضيفاه الإيطاليان. وقفت ضحى مع أشرف الزيني أمام النافورة الكبيرة يراقبان السائحين وهم يقذفون فيها بالعملات المعدنية كانت الإضاءة الليلية تزيد من روعة التماثيل الرخامية التي تزين النافورة. قالت ضحى »يخيل إليك وأنت تشاهد هذا المنظر أن العالم لا مشاكل فيه ولا أحزان الكل سعيد يستمتع بوقته حتى هؤلاء الفقراء الذين يبيعون التذكارات السياحية« ولأول مرة لاحظ أشرف منذ التقى ضحى في الطائرة ذلك الحزن الدفين الذي يسكن عينيها أحس بأنه يقترب منها وأنها تقترب منه أحس بأن القدر يدفع بهما في مسار لا يملكان إزاءه خياراً. كان الدكتور أشرف قد علم من صديقه الدكتور جيوفاني فرانكو وزوجته أثناء عشائهم في المطعم أن ابنهما ماريو يعمل في واحد من أكبر بيوت الأزياء الإيطالية، وأنه في ميلانو الآن يشرف على إعداد صالون الأزياء السنوي الكبير، فقال لهما إن السيدة الجالسة هناك مع صديقتها الإيطالية مصممة أزياء كبيرة من مصر، وأنها جاءت لإيطاليا خصيصا للمشاركة في هذا الصالون، فذهبا إليها مع الدكتور أشرف وأعطياها اسم ابنهما ورقم تليفونه لتتصل به في ميلانو إذا ما احتاجت أية مساعدة. تأثرت ضحى لذوق الدكتور فرانكو وزوجته وعرفتهما بصديقتها جابرييلا فوقفوا جميعا يتجاذبون أطراف الحديث لدقائق، قال فيها الزوجان الإيطاليان إنهما يتطلعان لمشاهدة أزيائها المصرية فهما سيحضران الصالون هذا العام بدعوة من ابنهما قالت ضحى ضاحكة »ها قد ضمنت أول متفرجين من الجمهور«. وسرعان ما تفرق الجميع كل إلى طريق، وقالت ضحى إنها ستسير إلى فندقها فالجو جميل وهي بحاجة للحركة قليلا بعد أن أمضت الصباح جالسة في الطائرة والمساء جالسة في المطعم فقال أشرف إنه يسعده أن يصحبها إلى الفندق ثم يستقل تاكسي من هناك إلى فندقه. هل كان أشرف يبحث في قرارة نفسه عن فرصة للقاء آخر مع ضحى؟ وهل كانت ضحى تبحث هي الأخرى عن لقاء ثان مع أشرف حين أعطته اسم المطعم الذي كانت ستذهب إليه في المساء؟ كان يمكن ألا يلتقيان ثانية في روما، ولا حتى في مصر فمدار تحرك كل منهما كان مختلفا عن الآخر كأن كلا منهما نجم في مجرة غير المجرة لكن ها هو اللقاء يتجدد فهل كان ذلك بفعل القدر؟ وهل ما نسميه قدرا هو ترتيب خارج على إرادتنا، أو أننا قد نوجهه دون أن ندري في الاتجاه الذي نريد؟ »هذا هو إله البحر الذي تتدفق مياه النافورة من تحت قدميه، هو الذي يوجه مياه البحار كما يشاء« قالت ضحى لأشرف وهما جالسان على حافة النافورة الرخامية، فرد عليها »كنت أظن أن مياه البحار تخضع لعوامل ثابتة تتحكم فيها دورة الأمطار وثلوج القطبين الشمالي والجنوبي« قالت له »هذا ما نظنه جميعا لكن الحقيقة غير ذلك، وها هو الدليل أمام عينيك« قال »إن ما أراه أمام عيني هو أجمل ما شاهدته في حياتي« قالت »والآن أعطِ له ظهرك« لم يفهم ما تقصده ضحى فشرحت له طقوس نافورة العشاق حيث يجب على المرء أن يعطيها ظهره وأن يقذف فيها بثلاث قطع من العملة بيده اليمنى من خلف كتفه الأيسر، فإذا استقرت العملات داخل النافورة كان له حظ وفير قال أشرف ضاحكا »يبدو لي أن الحظ الوافر هو لمن يحصل في النهاية على كل هذه العملات الراقدة في قاع النافورة« قالت »هل تعرف كم من العملات يقذف بها في هذه النافورة؟ إن التقدير الرسمي يشير إلى آلاف يورو في اليوم الواحد وهي تذهب بالكامل إلى »سوبر ماركت« مخصص لتلبية احتياجات الفقراء، فيما عدا ما يتم سرقته بالطبع في الساعات المتأخرة من الليل« قال »لعلك تتمكنين من ضبط هؤلاء اللصوص من نافذتك في الساعات المتأخرة من الليل« قالت »ولم لا؟ فأنا لن أنام طوال الليل« ثم اعتدلت في جلستها على السور الرخامي للنافورة وهي تتأهب لإلقاء العملات الثلاث التي في يدها »الآن اتركني أركز على التصويب وإلا ضيعت علّي الحظ الذي ينتظرني في ميلانو« أخذ يرقبها وهي تقذف بالعملة الأولى من خلف ظهرها، ثم الثانية، والثالثة، وقد استقرت جميعا في قاع النافورة قال »مبروك عليك ها قد ضمنت النجاح الأكيد لعرض أزيائك« ثم أضاف بعد لحظة تفكير »على فكرة لقد سألني الدكتور جيوفاني فرانكو وزوجته عن نوعية الأزياء التي تصممينها، وقالوا إنهم لم يشاهدوا تصميمات مصرية من قبل« قالت »ومن قال إنها تصميمات مصرية؟ إنني أسعى لأن تكون تصميماتي عالمية بحيث لا تفرق بينها وبين تصميمات بيوت الأزياء الأوروبية قال »سيصابون بخيبة أمل لاشك، فهم يتصورون أن أزياءك القادمة من مصر ستكون مميزة، أو أنها ستحمل بشكل ما عبق حضارة عريقة وعطر ثقافة مختلفة« قالت »لم أفكر في هذا على الإطلاق، بل على العكس كنت أفكر في مصدر إلهام عالمي يروق للناس في جميع أنحاء العالم، لذا استقررت في النهاية على الفراشة وصممت أزياء مستوحاة من هذا الكائن الجميل بألوانه الزاهية لم أفكر في الأهرامات وأبو الهول والنخيل والجمال فهي لا تصلح للأزياء« أحس أن الهوة التي تفصل بين مدار كل منهما قد ظهرت من جديد بالرغم من التواصل الإنساني الذي جمع بينهما طوال اليوم وعلى مسافة آلاف الكيلو مترات من القاهرة إلى روما، فلم يرد. قالت ضحى »كثير من الناس لا يقدرون قيمة ذلك المخلوق الجميل الذي رغم ضعفه استأثر باهتمام البشر جميعا على مر العصور« ساد بينهما الصمت تأمل أشرف ضحى وهي تنصت لصوت خرير الماء وقد أغمضت عينيها لاحظ لأول مرة قوامها الملفوف كانت ممتلئة بعض الشيء، مما أكد استدارات جسدها كان يتصور أن عينيها هما أجمل ما في وجهها بنظراتهما الحزينة رغم البريق المتوهج الذي يشع منهما كلما تحمست في الحديث لكنهما الآن وقد أغُمضتا، فقد تركتا الصدارة لشفتيها المكتنزتين تحت أنفها الدقيق أحس أنه يتلصص على ما لا يخصه، فأشاح بوجهه بعيدا إلى المياه المتدفقة من النافورة. تذكرت ضحى المشهد الشهير في فيلمLa Dolce Vita أو »الحياة الحلوة« لفلليني حين نزلت أنيتا إكبرج بطلة الفيلم إلى النافورة بثيابها كاملة بعد سهرة صاخبة حكت للدكتور أشرف أنها شاهدت صور النافورة في الصحف الإيطالية وقد اتشحت بملاءة حداد سوداء يوم وفاة بطل الفيلم ممثل إيطاليا الشهير مارتشيللو ماستروياني عام 1996 قالت »من الأشياء التي تعجبني هنا اهتمام الإيطاليين بالفن والثقافة بقدر اهتمامهم بالاقتصاد والسياسية، فلو حدث عندنا أن أعلنا الحداد على أحد الآثار بسبب رحيل فنان ارتبط بهذا الأثر لخرج أحد المعارضين وقال من ذاك الذي من أجله نغطي آثارنا بالسواد؟ « قال »بعض الناس أفقهم ضيق في الحكومة والمعارضة على حد سواء إن الشعب المصري هو الأكثر وعيا من رجال السياسة، وهو يقدس فنانيه وكتابه كأنهم قادة سياسيون، فحب المصريين لأم كلثوم مثلا أو لنجيب محفوظ لا يقل عن حبهم لسعد زغلول أو جمال عبدالناصر إن من لا يفهم هذا لا يجب أن يعمل بالسياسة« أعجبها كلامه؛ فنظرت إليه في صمت دون أن ترد. مرت بائعة زهور تحمل طفلا صغيرا في يد وباقة ورد أحمر في اليد الأخرى، عرضت الزهور على الجالسين حول النافورة لم يشتر منها أحد سألها الدكتور أشرف باللغة الإنجليزية من أين أتت؟ لم تفهم قالت ضحى »ربما كانت من الغجر الجائلين« كانت تغطي شعر رأسها بوشاح أبيض خفيف نطق أشرف باسم البوسنة فأشارت الفتاة له بالإيجاب أخرج من جيبه بعض العملات وأعطاها لها دون أن يأخذ منها زهوراً، لكن الفتاة لم تشأ أن تأخذ النقود بلا مقابل كالشحاذين، فقدمت وردة حمراء يانعة إلى ضحى ومضت. نظر الدكتور أشرف إلى ساعته وقال »لابد أنك متعبة، فيوم السفر دائما شاق ثم ودعها وهو يقول »أشكرك على كل شيء على هذه الجولة السياحية الرائعة، وعلى اقتراحك الممتاز بالنسبة للمطعم لقد أعجب به ضيوفي الذين لم يكونوا يعرفونه رغم أنهم من أهل البلد، ثم أشكرك قبل ذلك وبعده على الصحبة الجميلة لقد سعدت جدا اليوم بمعرفتك« أحست بأنه يودعها، وأن هذا هو اللقاء الأخير في تلك العلاقة التي بدأت صباح ذلك اليوم، وها هي تبدو وكأنها انتهت في المساء مد لها يده فصافحته وأحست بالصدق ينساب من يده الدافئة إلى أناملها التي كانت قد بدأت تشعر ببرد الليل، ثم استدارت متجهة إلى الفندق وفي يدها الوردة الحمراء. بمجرد أن دخلت غرفتها ملأت أحد كوبين وجدتهما في الحمام بالماء ووضعت فيه الوردة بعناية، ثم وضعت الكوب على المنضدة الصغيرة إلى جوار سريرها.