من نصف قرن انتصارا للقصيد العذب و اللحن الممتع المحتفي بجمال الطبيعة وهيبة الحب ونعمة الحياة . حمل هذا النضال المستمر الذي تحول إلى شعلة ثقافية تتلاحم الأجيال المتعاقبة من أجل إدامة نورها ، اسم عبد الله الشليح الذي لا يستطيع أي محب للملحون شعرا وغناء ببلادنا ، إلا أن يقف إجلالا له وعرفانا بعظيم صنيعه في سبيل الحفاظ على هذه الثروة الثمينة . الأستاذ عبد لله الشليح كان عنوان احتفالية باذخة في الأسبوع الأخير من السنة التي ودعناها، بمسرح دار الثقافة بالداوديات بمراكش بمبادرة من مدير المركز الثقافي الأستاذ الشاعر حسن بن منصور و جمعية هواة الملحون بمراكش ، حيث امتلأت جنبات قاعة المسرح بمئات من الشخصيات الأدبية والفكرية والفنية و السياسية والأكاديمية الحقوقية ، التي حجت من خارج المدينة الحمراء ومن داخلها ، لتقديم التحية المستحقة لهذا الرجل الذي لم يعرف طيلة حياته سوى نبل العطاء من دون انتظار مقابل ، فتحول بحق إلى إيقونة ثقافية كبرى بعاصمة المرابطين ، ومجد من أمجادها العظيمة بحجة القيمة التي رسخها بتفانيه وإصراره و كفاحه نصرة لاستدامة حضور الوجه الجميل لثقافتنا في حياتنا اليومية ومواجهة الإعصار المدمر الذي يهددها ، و النابع من الإهمال والاستصغار والنسيان . «هو الأب الروحي لجمعية هواة الملحون بمراكش ( يقول الأستاذ مولاي إدريس الجبلي الأكاديمي بكلية الحقوق بمراكش وعضو الجمعية المذكورة ) مارس بنزاهة واقتدار مهنتي التدريس الجامعي و المحاماة ، وظل عبر مساره الطويل الزاخر بالعطاء مرتبطا بقضايا شعبه وأمته ، متشبثا بنزاهة القول وثبات المبدأ . هو ابن مدرسة الحركة الوطنية . لم يُضع بوصلته ، خلافا للكثيرين .. يصعب اختزال عطائه الغني الذي دام بدون انقطاع لأزيد من سبعين سنة « إدريس الجبلي ، الذي كان يمارس استفزازا جميلا لذاكرة المحتفى به عبر مناوشته بأسئلة تنصب على تفاصيل بعينها من حياته ومساره ، نبه بذكاء إلى أن عطاء عبد الله الشليح كان متعدد الواجهات من دعم الكفاح الفلسطيني إلى العمل الخيري و النضال الحقوقي .. لكن الاحتفاء سيقتصر على جزء من كفاحه والمتعلق بالحفاظ على أدب الملحون و تعميق حضوره . فالرجل ولد سنة 1931 بدرب سيدي بوعمر بزاوية الحضر بعمق مراكش العتيقة . و تلقى تعليمه بجامعة ابن يوسف ، والتحق سنة 1957 بالرباط لدراسة الحقوق ، وتخرج سنة 1960 ضمن أول فوج من خريجي هذه الشعبة بالمغرب ، حيث استقبلهم الراحل محمد الخامس وأطلق عليهم اسم فوج محمد الخامس . وفور عودته إلى مراكش، أنشأ قسم الكفاءة في القانون الذي كان المدخل الذي ولج منه عدد كبير من قضاة المغرب ورجالات المحاماة إلى عالم القانون . هذا الاستفزاز الشيق الذي مارسه الأستاذ الجبلي لذاكرة المحتفى به ، مضى بعيدا في سفر جميل تظهر تفاصيله العمل الهائل الذي قام به الأستاذ الشليح على امتداد عقود متواصلة في سبيل قضية بعينها هي حفظ أدب الملحون . فقد دارت عقارب الساعة سريعا في فجر الاستقلال ، وبدأ النسيان والإهمال يهمش مقومات هامة من المخزون الثقافي الذي يلحم الحياة اليومية للمراكشيين، ويعبر عن صيغة فريدة لديهم في التدبير الجمالي لفنهم في العيش ، ومن ذلك تقاليد أدب الملحون الذي لاحظ بعض الشيوخ أن الاهتمام به تراجع كثيرا ، في بداية الاستقلال ، وخاصة لدى الشباب ، ولم تعد هناك سوى قلة من الحرفيين ، التي تحفظ بعض قصائد الملحون ، وقليل من الشيوخ . كان في هذا الوضع ما ينبئ بحدوث دمار حقيقي في الهيكل الكبير لثقافة المغاربة ، وهو ضياع رصيد قوي من ثقافتهم و أدبهم الشعبي . فبدأ الشيخ بن عمر الملحوني والد الباحث المعروف عبد الرحمن الملحوني ، في تأطير بعض الشباب من المولعين بفن الملحون . و التأمت حلقة من هواته في لقاءات منتظمة تعقد كل يوم جمعة ، حول ثلاثة أشخاص هم حمان بن عجيلة وقزبور والشيخ بن عمر الملحوني. و كانت هذه هي النواة الأولى من مؤسسي جمعية هواة الملحون ، وأغلبهم من الصناع التقليديين باستثناء شخص واحد كان يعمل كممرض . درهم واحد كان هو واجب الانخراط في الجمعية التي أخذت تتوسع بالتحاق عدد من شيوخ الملحون و المولعين به . لكن عودة الأستاذ الشليح إلى مراكش في بداية الستينيات من القرن الماضي ، مثلت منعطفا حقيقيا في مسار هذه الجمعية ، وعتبة تاريخ جديد لها . إذ كان حضوره إلى جانب هؤلاء وولعه بفن الملحون ، بالوعي الذي اكتسبه كمثقف بقيمة الأدب الشفهي ، إيجابيا مشحونا بالقوة الموصوفة للشخصيات التي تتمتع بقدرة كبيرة على تنسيق الإرادات و حشدها من أجل قضية معينة . بل كان عبد الله الشليح نموذجا للمثقف الفاعل في وسطه ، حيث أن لم يستسلم لغواية التعالي المرضي الذي يفصل بعض المثقفين عن محيطهم ، فحافظ على قربه من الوسط الشعبي ، ووضع ثقافته و كفاءته في خدمته . كانت نتيجة كل ذلك تمكن الأستاذ الشليح ، الذي سمحت له ثقافته القانونية من إدراك أهمية استغلال ظهير 1958 للحريات العامة ، من إقناع أعضاء الجمعية ، من عقد جمع عام تأسيسي لها ، لتنتقل من مرحلة العفوية إلى مستوى التنظيم القانوني . فكان ذلك في يوم عزيز على المغاربة ، وهو 18 نونبر الذي يصادف ذكرى الحصول على الاستقلال ، من سنة 1964 . أما المكان فكان بحي باب دكالة ، ببيت يسمى « دار حيدة ولد ميس « الذي كان معروفا لدى المراكشيين باعتباره ناديا ثقافيا تعقد فيه المحاضرات والانشطة الثقافية . وبانعقاد الجمع العام التأسيسي للجمعية التي حملت حينها اسم « جمعية هواة طرب الملحمون «، أعلن عن ميلاد أول جمعية تعنى بفن الملحون بالمغرب . اختار المؤسسون الشيخ الحاج محمد بن عمر كأول رئيس للجمعية، لأن القانون الأساسي كان يفرض أن يكون الرئيس شاعرا . بل وضع المؤسسون قانونا داخليا من أغرب القوانين الداخلية التي يمكن تصورها لجمعية ثقافية ، حيث قسموا الأعضاء الى طبقات و اشترطوا لكل طبقة شروطا صارمة كحفظ عدد كبير من القصائد و السرابات .. تفاصيل أخرى لا تقل إثارة ، تهم مواعيد مفصلية في تاريخ الثقافة المغربية المعاصرة ، كشفتها المحادثة التي فتحها مولاي إدريس الجبلي مع الأستاذ الشليح، خلال هذا الحفل . من ذلك مثلا مراسلته باسم الجمعية للحكومة المغربية في شخص المرحوم محمد الفاسي ، سنة 1966 ، يطالبه فيها بفتح كرسي لدراسة أدب الملحون و الأدب الشعبي بكلية الآداب بالرباط . و استلزم اتخاذ قرار بخصوص هذا الطب انعقاد مجلس للحكومة رفض فيه أغلب الوزراء حينها مقترح الاستاذ الشليح ، و لم يحظ بتأييد سوى وزيرين اثنين، هما المرحومين باحنيني ومحمد الفاسي . فترجم بذلك ، وعيا متقدم ، بقيمة و أهمية الثقافة الشفهية و الأدب الشعبي ، أكثر تقدما حتى على مدارك المسؤولين الحكوميين . أما الموعد الثاني فكان انعقاد أول مؤتمر وطني للملحون سنة 1970 بمدينة مراكش ، على عهد الوزير محمد الفاسي ، وهو الموعد الذي لعب فيه الأستاذ الشليح دورا حاسما ، حيث حضره أزيد من 100 شاعر ومنشد ، مشكلا بذلك لحظة مفصلية في تاريخ الوعي بقيمة هذا الأدب وطنيا . مثلما شكل منعرجا في تاريخ الجمعية بتحولها ، عقب إعلان المؤتمر عن تأسيس الجمعية المغربية لهواة الملحون ، إلى مجرد فرع محلي لهذه الجمعية الوطنية ، و هو ما أدى إلى حدوث انشقاق بها من خلال انصراف الشيخ بن عمر الملحوني ، إلى تأسيس جمعية الشيخ الجيلالي المتيرد ، تعبيرا عن رفضه لهذا القرار . ليخلفه على رأسها الشيخ الشاعر بلكبير . حيث عادت الجمعية مرة أخرى إلى وضعها السابق لكن باسم جديد هو جمعية هواة الملحون . واصل الأستاذ الشليح نضاله بدون انقطاع من أجل أدب الملحون ، إلى جانب أعضاء الجمعية . فقد تمكن من استقطاب شرائح مختلفة لصالح هذه القضية . و فعل الحضور الحي لهذا الفن في الحياة اليومية للمراكشيين ، عبر لقاءات الجمعة التي دامت لعقود من دون توقف ، حيث عقدت الجمعية أزيد من ألف لقاء للملحون ، وأعاد الإعلام والمثقفين إلى الاهتمام به و إنشاء خطاب عالم حوله ، ومنح للخزانة المغربية رصيدا جد هام ، عبر جمع كنانيش ومخطوطات شعراء الملحون ، حيث تبنت الجمعية هذا الورش الضخم ، الذي كان من المفروض أن يكون مشروعا للدولة ، فنشرت دواوين عدد منهم ، حامية هذا الرأسمال من التبديد و الإتلاف . حفل التكريم الذي شكل تتويجا لاحتفلات انطلقت منذ شهر برياض دار» حيدة ولد ميس «أعاد ذاكرة أهل مراكش إلى هذه المقاطع الطريفة من تاريخ مجهود شخصي ، لرجل قاده وفاؤه ونزاهته إلى الانتصار للعمل الإيجابي لصالح موروثنا الشعبي من أدب وغناء ، تميز بتقديم عدد من الشهادات في حق الأستاذ عبد الله الشليح ، من قبل شخصيات ، جايلت نضاله و كانت شاهدا يقظا عليه ، من مثل الأستاذ عبد شقرون الذي تحدث بلغته الجميلة والمبسطة عن المكرم والأستاذ أحمد سهوم الذي تميز بملحونية في القائه ليذكر الجميع ببرنامجه الرمضاني حول فن الملحون وبإلقاء غاية في الجمال وعبد الرحمان الملحوني رئيس جمعية امتيرد والذي دون كعادته شهادته في حق المحتفى به بذات الاتقان والدقة في المعلومة كما عودنا دائما .. وقد أبت فرقة الدقة إلا أن تحتفي بطريقتها بالاستاذ عبد الله الشلييح من خلال وصلات ايقاعية الهبت حماس الجمهور المتنوع والوازن. وابت عدة فعاليات ثقافية وفنية الا ان تكريم الاستاذ الشلييح من خلال هدايا رمزية .. مثلما تميز الحفل ، بعرض شريط فيديو من إعداد الدكتور عبد المجيد لكريفة ، بمثابة توثيق بصري لهذا المسار حفل بوجوه و لحظات نوستالجية مؤثرة ، و بمساهمة جوق الجمعية بأداء مجموعة من قصائد الملحون ، بمساهمة منشدين شباب يمثلون إشارة قوية من مستقبل مشرق غني بالعطاء والاستمرارية .