العتبة كثيرا ما أولي أهمية كبرى للمشهد الأول في الأفلام المغربية لأنها مدعاة للتحليل وكثيرا ما تحمل في داخلها الفكرة المركزية أو هي ما يمكن أن نسميه ميكرو فيلم/فيلم مصغر. المشهد الأول كالبصمة التي تؤشر على صاحبها. أقفاص طيور معلقة على جدار في السطح، تدخل شخصية لا نتعرف عليها لأنها مأخوذة من الخلف، تتبع الكاميرا هذه الشخصية في تحركها ويظهر خلف هذا الجدار الذي تحول الى تنصيب من نوع خاص العمارات الشاهقة والتي تتبدى من خلال نوافذها مثل أقفاص عمياء، يضع قفصا اخر في مكان خال ليدير وجهه ونتعرف على سعيد. بعد ذلك يليه مشهد كما لو كان يحلق في سماء المدينة، السيجارة بين الأنامل وهاتف على الطاولة. أشبه بلحظة انخطاف. التحليق يتوقف فجأة، يأتي ضجيج المدينة وينغمر سعيد في سباق عارم في الشوارع عبر دراجته النارية، يجمع الإتاوات من حارسي السيارات. هكذا نجد أنفسنا وقد ولجنا عتبة فيلم «أياد خشنة». دعوة للسقوط الى العالم السفلي. عالم الأحياء البسطاء الذين يبحثون عن مكان تحت الشمس. حلاق درب الأغنياء سيفقد سعيد (عبد الصمد مفتاح الخير) مكانه حينما يظهر مصطفى (شخصية يجسدها المرحوم محمد البسطاوي) المعلم الحلاق، هو فقط تابع، يقوم بدور المساعد والسكرتير الخاص لهذه الشخصية «الحلاق» التي لم تستثمر بشكل عميق داخل السينما المغربية. فمثلا في «حلاق درب الفقراء» للمرحوم الركاب تمكن هذا المخرج الذي يتميز بعين نافدة وقراءة متفحصة للهندسة الاجتماعية في بلد كالمغرب أن ينجز فيلمه على الحضور الرمزي لها في فضاء الحي أو الدرب، بحيث تمر من تحت يديه كل رؤوس الرجال، يعرف ما يجول في دواخلهم. دكان الحلاق هو فضاء بامتياز للبوح والأسرار والمكائد. لا ننسى أن الفيلم تم انجازه انطلاقا من مسرحية الكاتب يوسف فاضل بنفس الاسم. لكن حلاق محمد عسلي لا دكان له. انها شخصية لا مكان لها. انها تحلق في الأعالي. شخصية حركية. اذ منذ اللقاء الأول بها، يتم رصد هذه الشخصية الغريبة من خلال لقطة موسعة للشارع الذي يفضي الى الدرب الذي يقيم به، يبدأ كنقطة صغيرة تتحرك في الفضاء، يقترب شيئا فشيئا ليحتل اللقطة وهو لا يزال يمشي في اتجاه بيته، حيث يجد في انتظاره جارته المعلمة زكية (هدى الريحاني) وأمها في انتظاره. اختيار المخرج لهدا التأطير الأولي هو ما يشكل الوضع الاعتباري لهذه الذات التي ستصبح محورية، كما أن ايقاع الفيلم سيخضع لتحركاتها. رجل أمي يتابع دروس محو الأمية يتكلف بأمه العمياء التي يعيش معها وحيدا. برنامجه اليومي الذهاب في سيارته برفقة مساعده وعازف القانون كي يحلق رؤوس الأعيان في فيلاتهم وقصورهم. من خلال علاقته بهؤلاء سيمتهن حرفة الوسيط الذي يتدخل من أجل الحصول على عمل أو الحصول على شواهد مزورة أو انتقال سجين من مدينة بعيدة الى أخرى قريبة. الا أن مقاربة المخرج لهذه الشخصية من هذا الجانب، نجدها لا تحاور منطق الرشوة. كما لو كان يقوم بعمل خيري.. مكانه في الحي عبارة عن طاولة أمام بيته برفقة مساعده، يحل مشاكل الناس عبر التوسط لهم بالمقابل لدى الشخصيات النافدة والتي يحلق لها رأسها. حلاق معاصر في زمن آخر. هذا الانتقال من الأحياء الفقيرة إلى الأحياء الراقية من خلال الحلاق يعتبر حالة قصوى للهوة التي تفصلهما. ليس هناك سوى المصالح والرابح الأكبر هم الأعيان. لهذا التحول من فضاءين بعده الجمالي داخل الفيلم وأثره النفسي لدى المتلقي. أياد خشنة «أياد خشنة» هو العنوان الذي ارتآه المخرج عنوانا للفيلم، لذا فالمتفرج انطلاقا من العنوان ينغمر في البحث عن أثره داخل المنظومة الحكائية. إلا أن محمد العسلي يفصح منذ البدء عن ذلك. حينما تطلب المعلمة زكية (هدى الريحاني) وجارة مصطفى أن يحصل لها على شهادة زواج كي تلتحق بخطيبها الذي هاجر إلى اسبانيا بشكل سري. موافقة مصطفى للتوسط لها أمكنها أن تبدأ عبر خلطة غريبة عملية تخشين يديها بغية توهيم المسؤولين الاسبانيين عن العمل في الحقول المغطاة بانها من العاملات الكادحات. إلا أنه رغم حصولها على ذلك لم تنطل الحيلة على هؤلاء الاسبانيين الذين يبحثون عن نساء انمحت من وجوههن ملامح الظل. هذه النهاية الصغرى للحكاية الصغرى لم تكن مفاجئة للمتفرج النبيه الذي يتتبع مسار المعلمة زكية، بحيث يظهر جليا أن المخرج يضعها منذ البدء وراء القضبان. فهي محاصرة في القسم مع الأطفال وحينما تخرج لتتكلم في الهاتف مع خطيبها المفترض تتجول في إطار قفص يتسع فقط لحلمها المسيج بدوره. هناك دائما نية مبيته لدى المخرج خاصة حينما يتعلق بمصير الشخصيات، إذ تنفلت بعض الإشارات التي تومئ بالضرورة لمآلها. هذه الحكاية يمكن اعتبارها ثانوية، رغم أن الفيلم يبني أساسا على هذه الفكرة المركزية، والا فما محل العنوان من الاعراب. الا أن السيناريو لم يتمكن من جعلها تشكل لحمة الحكاية الأساسية. اذ أصبحت ذريعة للنسج على منوال حكاية أخرى. فما حضور مشاهد نسج المرأة للزربية الا استعارة جميلة لهذه المهنة النسائية بامتياز والتي كانت تتحول فيها الزربية إلى فضاء أيقوني للحكايات. تنسج المرأة في صمت عبر رموز وصور وحكايات العزلة والصمت والأغاني التي اختنقت في داخلها. هكذا تبدأ قصة حب صامت من طرف مصطفى الذي لم تظهر عليه بوادر الحب إلا بعد أن فشلت في الذهاب إلى اسبانيا. لم تكن هناك علامات تدل على ذلك رغم اشارة يتيمة في مشهد الطلب، حيث مصطفى أخد يد زكية وهو يتحسر عن مصير يديها القادم. فقد ظل يتحرك كما لو أن هذا المصير لا يعنيه. ليس هناك طفرة أو تصاعد في الأحداث. نتتبع الحياة اليومية عبر طريقة الكليب من خلال عزف القانون ونسج الزربية والعمل اليومي للحلاق. نوع من الانفلات من مأزق الحكي مما أفقد الفيلم رصانته ليسقط في نوع من الكوميديا السوداء، والتي لو وظفت مند البدء في تشكيل شخصيات هذا الفيلم لأمكن من اقناعنا بهذا التحول. نهاية سعيدة تأتي قصة حب مصطفى لزكية، كي تجد لها منفذا آخر، يطلب الحلاق من جارته المعلمة زكية أن تكتب له رسالة يشرح فيها وضعه للمرأة المفترضة والتي يطلب يدها. يلتقيان في مشهد مرتبك بسيط في مقهى، كي تقرأ له الرسالة. يأخذ الرسالة ويضعها في ظرف ويكتب في ارتباك اسم زكية، لتعرف بعد ذلك أنها المعنية بالأمر. حالة اضطراب وتوجس. لكن كي يستحقها لابد من أن يحملها كعروس في سيارة مكشوفة وأن تقوم فرقة أحواش بالرقص في زفافها. كل هذه الأشياء سيحققها في خطية بسيطة وبدون معاناة كثيرة بعدما أمكنه أن يقترض المال الكافي من زوجة أحد الأعيان التي يعمل معها في قضاء مصالح الناس. في هذا الموضع بالذات نتساءل إن كان المخرج يستدعي منا اعتبار ذلك أسلوبا باروكيا في التناول أم أنها نهاية سعيدة لقصة حب بسيطة في زمن اخر. هوامش هناك شخصية تثير الجدل. يمكن اعتبارها ذلك المنسي في الفيلم. سعيد شخصية تحضر في صمت. لا تتكلم الا لماما. تحمل سرا ولكننا لا نعرف كنهه. له علاقة مع البوليس لا نعرف الى أي مدى ستنتهي إليه في علاقته مع الحلاق. أسئلة كثيرة تحوم حول هذا الشخص الذي يفتتح به فيلمه. أسئلة لن نجد لها إجابة في السيناريو، اذ ظلت حبيسة الظل ولم يتمكن المخرج من الافصاح عنها وعن دورها في تطور الأحداث. شخصية عالقة في أفق قصة تحولت الى أسهل الطرق كي تجد لها منفذا للنهاية. رغم المجهود الذي بذله المخرج في فيلم «أياد خشنة» كي يضع الأحداث داخل المدينة وان يضعنا في بعض المشاهد داخل دينامية وحركية الوجود الإنساني، الا أن أغلبية شوارعها كانت خالية. مدينة فسحت لشخصيات الفيلم المجال لتتجول وتجد طريقها في صمت. إذ تم تصوير المشاهد الخارجية في الساعات الأولى من الصباح مما جعل المشاهد تفقد حيويتها وعفويتها. يبقى فيلم محمد العسلي «أياد خشنة» بالمقارنة مع فيلمه الأول «الملائكة لا تحلق في البيضاء» أقل قوة وعمقا. يبدو أن مقاربته لواقع المدينة لم يجد طريقه الى وضوح الرؤيا والبناء الرصين لفيلم يستحق المشاهدة.