هو ذا دور الذاكرة حين تكف الأشياء عن الاستعمال المادي النفعي المباشر، وتتعطل وظيفتها لأعطاب تقنية، أو لطوارئ مقنعة أو غير مقنعة، إنها تتحول في المعنى الثقافي والوجداني الجمعي، رموزا وأيقونات تراثية، تصنع التميز، وتبني الخصائص المرتبطة بكل مدينة. ومن هنا، أهمية الحفاظ على الذاكرة. سيرة مكان .. سيرة إنسان. من مكان بلقع.. عنيف الطقس والمناخ والتضاريس، إلى "فدَّانْ الجْمَلْ".. إلى مَرَاعٍ.. إلى قرية صغيرة، فقرية كبيرة ضمن دواوير مشتتة ثم متقاربة، إلى بلدة، فإلى مدينة. هكذا تحولت جرادة،، وتغيرت حتى أصبحت ما أصبحت. توافد عليها البشر من كل فَجَ وصوب وحدب... فتشكلت، وارتقت، في نظري، من مدينة بمفهوم "Ville" إلى مدينة ب مفهوم "cité"، ذلك أن المدينة cité على عكس ville هي تجمع بشري ضمن رقعة جغرافية، يستهدف مصلحة عامة تسمى في السوسيولوجيا ب : "الخير الأسمى" -تجمع اقتصادي / اجتماعي / ثقافي / سياسي / سلالي متنوع، ومتعدد، وفسيفسائي، وليس فقط تجمعا جغرافيا وسكانيا، ذلك أن المدينة بمعنى " ville" لا تتعدى هذا التوصيف، بينما "la cité" تتجاوز التجمعات الجغرافية والسكانية التي تربط الحاجة والضرورة المعاشية، إلى روابط أخرى أسمى وأبعد وأعمق، إلى صلات روحية تنهض بها الوحدة والتوحد، والتنوع الثقافي بالمعنى الأنثروبولوجي فضلا عن التربية والتعليم، والمصلحة العامة التي تفترض الدفاع الجماعي عن الأمن والأمان، والحق في التعليم، والسكن، والصحة، والتنقل، والتعبير والتفكير،والعيش الكريم، والرفاه إن أمكن، وبهذا تعني المدينةُ المدنيَّةَ، وأن سكانها مواطنون بالأساس بالمفهوم التعاقدي الحقوقي الإنساني الكوني، ذلك التعاقد الذي تبلور في الشغل والتشغيل، وفي تلاقح وتفاعل وتعايش مجموعات بشرية متنوعة جاءت إلى المدينة من كل أنحاء الوطن ومعها ثقافتها وتقاليدها وعاداتها، ولهجاتها، وطقوسها، وهو ما كان وراء الغنى البشري، والغنى الثقافي بالمعنى الأنتروبولوجي كما أسلفنا. علاقات إنسانية طبعها التضامن والتكافل والتضحية والتآزر الاجتماعي. وفجأة، ولأسباب يطول شرحها - منها هبوط جودة "الأنْتَرَسِيتْ"، ونضوب الاحتياط الفحمي.. الخ.. الخ، أعلنت الشركة انتهاء الإنتاج وإغلاق المفاحم ما تسبب في انكماش سريع، وتدهور اقتصادي واجتماعي، وتفكك أسري، وانكسار نفسي، وشعور بالنفي والتشرد والاقتلاع. وحتى تلك التجهيزات والآليات والمآثر المنجمية التي صنعت الفرق والتميز الذي عرفته جرادة كمدينة منجمية ذات خصوصية، عرفت إهمالا ولا مبالاة عن قصد، وعن غير قصد، وتعرضت، من ثم، للنهب والسرقة والإتلاف في عملية "إجرامية" وسرقة موصوفة عملت على طمس الذاكرة المنجمية المنتجة، الذاكرة التي لابد أن تحيا من خلال آثار، وتجهيزات، وشواخص تتحدث عن ماضيها "الذهبي" المُعَمَّد بالمحن والعذابات والمعاناة، والاستغلال، ولكن المنشرح والمقبل على الحياة على رغم كل ذلك. ذاكرة من صنيع الإنسان في تعدده، وتآلفه، واختلافه إثنيا وعرقيا، وسلاليا، وجغرافيا، وثقافيا ولغويا، وعادات وتقاليد، وهو ما منح لجرادة معنى : "la cite" كماض وتاريخ وذاكرة، تميزها، وبَصَمَهَا بالمدينة المنتعشة المفارقة. نعم، لم تعد تلك المآثر والتجهيزات والآليات في معظمها وظيفية، ولكنها ترمز إلى ما كانت عليه المدينة، أي إلى ما ضخ دماء وحياة في شرايين المدينة، ونشط الدورة الاقتصادية، ومن ثم الاجتماعية والتعليمية والسكانية. هو ذا دور الذاكرة حين تكف الأشياء عن الاستعمال المادي النفعي المباشر، وتتعطل وظيفتها لأعطاب تقنية، أو لطوارئ مقنعة أو غير مقنعة، إنها تتحول في المعنى الثقافي والوجداني الجمعي، رموزا وأيقونات تراثية، تصنع التميز، وتبني الخصائص المرتبطة بكل مدينة. ومن هنا، أهمية الحفاظ على الذاكرة. فكيف نجرؤ على اغتيال هذا الحق، الحق في الحفاظ على هذه الذاكرة التي صنعت "مجد" المدينة، ورفعت في العالمين ذكرها؟ - ما دور النسيج الجمعوي بمختلف أطيافه ومشاربه ومنازعه؟ - ما دور النقابات، والهيئات السياسية؟ - ما دور الحكومة في إطار موقف رسمي جماعي معلن تتداخل فيه كل القطاعات، من ذاكرة جرادة المنجمية؟ - ما هي إسعافاتها للذاكرة في الحال والمآل، وهل للحكومة من خلال مؤسساتها المختلفة، مخطط واضح المعالم، بيِّن الأهداف، بارز المقاصد إزاء مدينة جرادة من خلال ذاكرتها المنجمية، وكتاريخ وحاضر بَاكٍ آسِن، ومستقبل غائم؟ - وما دور الباقي، ما دور المجالس المنتخبة المختلفة من حيث المبادرة والحركة والتحسيس، والمطالبة الملحاحة من أجل إنقاذ الذاكرة المنجمية من التلف، وبالتالي إنقاذ جرادة إنسانا، وساكنة وعمرانا، وإعادة بعض الإشراق إلى حاضرها من خلال الاعتناء بماضيها، ورسم تباشير مستقبل خَيِّر لأبنائها مما يرسخ حضورها في المشهد المديني العام، ويثبت موقعها الذي كان، ويطمئن أبناءها على مستقبلهم؟. هذه حقوق لا مناص منها ولا مجال فيها للأخذ والرد، والتفكير المتراخي والإبطاء. -الحق في حفظ الذاكرة حية منتعشة بما يتطلب الانكباب الفوري والسريع على إعادة الآليات والتجهيزات إلى أماكنها وتصليح المعطوب منها والمتلاشي، وصونها لتعود إلى سابق عهدها مذكرة بسيرة عمالنا آبائنا وأحبابنا الذين صنعوا مجد جرادة، وصنعوا عبرها مجد الوطن. وهو حق حياتي وثقافي من دون شك، ذلك أن إحياء الذاكرة المنجمية والحفاظ عليها هو إحياء لسياقات ثقافية واجتماعية واقتصادية، وإنتاجية وراءها العمال بمختلف رتبهم ومستوياتهم وبلداتهم. فجميع العمال الذين حجوا إلى جرادة ذات تواريخ ممتدة منذ أربعينيات القرن الماضي، وانتهاء بنهايته، تركوا مساقط رؤوسهم واختاروا مصهرا واحدا انصهروا فيه وذابوا : [Melting Pot]، فإذا هم عنصر واحد، ومكون بشري متعاون ومتكافل يُكَوِّنُ رأسا واحدا يعمل، ويشتغل، وينتج من أجل هدف واحد: الإقامة في المدينة التي اختاروا، وبناء الأسر، والتفاني في العمل على حساب صحتهم، من أجل عيش كريم، وكرامة موفورة، غنى بشري، وثراء سوسيولوجي أعطى لجرادة بعدا مدينيا ثقافيا بمعنى (cité) كما سبق، أفرز ثقافة منجمية بما لا خلاف حوله، ومنح المغرب طاقات فكرية ومعرفية مختلفة من خلال أبنائه وبناته الذين انتشروا في البلاد، واحتلوا مواقع ومناصب مختلفة رفيعة وسامية ومحترمة، وهو الأمر الذي ينسحب أيضا على أبنائنا وبناتنا في المهاجر والشتات. هذا الإرث الثقافي الحي هو ما ينبغي أن يستمر حيا ومشعا في عقول ووجدان الجيل الحالي والأجيال القادمة حتى تدرك بأنها تعيش في فضاء مدني له خصوصياته ومميزاته، إذ له ذاكرة تكاد لا تتكرر إلا خارج الشمال الإفريقي، وهذا ما يعطي لجرادة زخما معنويا آخر، وتاريخا تأسس على الاقتصاد والاجتماع والثقافة. ومن ثم فهذا حق من حقوق الإنسان، حق وجب أن يجري دافقا في وجدان الجيل الجديد، ويصل إلى مداركه ووجوده، ليحسسه بانتمائه وارتباطه بمدينة تعتز بسيرة رجالها، وعمالها ونسائها الذين صنعوا وجودها وتاريخها ومجدها. فحماية هذا الإرث والدفاع عنه بكل الوسائل والوسائط المتاحة، حق مشروع ومكفول لجرادة سكانا وعمرانا من خلال الذاكرة الفردية والجماعية المشتركة على حد سواء. وقد انتبهت بلادنا من خلال أعلى سلطة في البلاد، إلى أهمية هذا الحق الإنساني الذي كرسته وتكرسه المواثيق الدولية، والعهود الأممية، والأدبيات الحقوقية، والسياسية والفكرية، ألا وهو حق الحفاظ وحماية التراثات المادية واللامادية، أوما يسمى بالرأسمال اللامادي في عالم معولم يسعى إلى اختراق السيادات الوطنية، وطمس الهويات والرؤى المختلفة، والثقافة المتنوعة التي لابد منها، إذ في التنوع والتعدد، غنى وتخصيب للأفق الإنساني والاختلاف، وفي دعم الهويات الثقافية واللغوية إعمال لحق الاختلاف والتكامل أيضا، علما أن الهويات متحركة ودينامية تغتني من بعضها البعض، وليست استاتيكية أبدا. إن الثقافة من العوامل الأساسية التي تساهم في تحقيق التنمية المستدامة التي تتطلبها مدينة جرادة، وتطوير الاقتصاد بكل قطاعاته، والرفع من الإنتاج والإنتاجية، وتحقيق الاستقرار أو -في الأقل- العمل على توفير مناخه وشروطه. فالتراث المادي واللامادي والذي هو جزء من الثقافة العامة الشاملة والمركبة بمفهومها الأنثروبولوجي، "ليس شيئا جامدا بل هو نتاج وثمرة لتجاوب الإنسان مع محيطه الاجتماعي والثقافي، إنه المشخص المجسم في المآثر والآليات والأسوار والمباني والمرتفعات المشكلة من الفحم الحجري ك :"الرمبلي" وف 1 وف2 وف3 وف5 و"سيدي أحمد بن الشيخ"، وحاسي بلال، و150، و"الصّبيطَارْ الفوكاني" و"la maison des mineurs" و"la piscine" وB12، والمبنى السينمائي المغتال.الخ.. الخ. وهو أيضا مجموع التقاليد والعادات والمهارات اليدوية المتوارثة ضمن كل قبيلة قبيلة على حدة، لا ننسى بأن الفسيفساء الجرادية، شكلتها مدن وبلدات وقرى ومداشر وسلالات وإثنيات وأعراق كبني يعلى، وأولاد سيدي علي بوشنافة، وبني كيل، وأولاد الحاج، وبني مطهر، وأولاد سيدي حكوم، والزكارة، وأولاد عمر، وبني بوزكو، والدبدابة، وبني وكيل، ولمهاية، وكافيات: حمامزة ولبخاتة، وأهل أنكاد، من دون أن ننسى التسول ولبرانس وغياثة ولحيانية، وبني وارين، وبني ملال، وتيزنيت، وسواسة بصفة عامة... الخ. ما يجعلنا نتحدث بكل ثقة عن غنى العادات والتقاليد والأعراف، وأشكال التعبير الشفوي، والمرويات الصوتية، والموسيقية والغنائية، والأمثال الشعبية، والحكايات الخرافية، وفنون الطبخ واللباس، والاحتفالات الخصوصية بالأعياد الدينية والوطنية، والكرنفالات المبهجة : سونة / عزونة / الحلقة / الشيوخ / أولاد سيدي أحمد وموسى/ مرويات عنترة وعبلة، وحمزة البهلوان، وذات الهمة، والظهير بيبرس، وسيدنا علي ورأس الغول... الخ .. الخ. كما أن هذا التراث الثقافي الغني والمبتغى والمطلوب استعادته والعمل على إحيائه وتوصيله إلى الجيل الحالي والأجيال الآتية، يتجسد في الفضاءات الاجتماعية والثقافية التي ارتبطت بمختلف هذه المناشط الاحتفالية، ومنها الساحة الكبرى التي تتوسط المدينة والتي كانت بساطا ترابيا واسعا مُتَراميا لسيرك عمار، والسينما الشعبية المتجولة، والحفلات الدينية والوطنية المختلفة، كانت "إغُورا" بالمفهوم اليوناني الذي يتزاحم فيه المواطنون والمواطنات من أجل التعبير عن فرحهم الجماعي في الساحة. ولا أعرف إلى ماذا صارت "لاَجُومْ" و"L'économat" هنا وفي حاسي بلال. إن هذا يستدعي الإلحاح على صون الذاكرة وحماية أماكن اشتعالها، ما يعني إعادة الاعتبار المادي والرمزي لتلك الأماكن بما يربط الحاضر بالماضي والمستقبل. فإذا حولنا نظرنا إلى التراث الثقافي المادي المرتبط بماضي وذاكرة المدينة، محسوسا ملموسا، فيتعين الإبقاء عليه حيث هو، أي في تلك النقاط المجالية التي كانت مصدر الإنتاج الفحمي، والدورة الاقتصادية والدينامية الاجتماعية، والتجارية المتصلة به والتي نهض بها عمالنا. فهو حق واجب يتعين بلورته وتظهيره على أرض الواقع، وإلا فالمتحف الذي هو مطلب كل الأطياف والحساسيات والمواطنين، المتحف المنجمي تحديدا، ينبغي إخراجه إلى الوجود، والحفاظ عليه، وصيانته بما يندرج في ما يسمى بتدبير التراث الثقافي أي ما يفترض ويفرض إقرار سياسة ثقافية إقليمية وجهوية في مجال التدبير إياه، وما يفيد تخصيص ميزانية أو اعتماد لإدارة المتحف، وإحداث مصالح مختصة في عين المكان، وفي الأطراف تعمل على تأطيره وتدوينه وترتيبه وحمايته، وإدماج تدرسيه ضمن مختلف أسلاك التعليم. وهذا ما يجرنا إلى الكلام عن دور الأدب والفن بعامة في الحفاظ على الذاكرة المنجمية، وذاكرة جرادة بمشمولاتها كاملة، ونحن نعلم أن العلاقة بين الكتابة والذاكرة، هي علاقة مركبة ومستعصية على البسط والتفكيك والتوضيح. إنها إشكالية مفهومية ومعرفية قائمة. فالأمر يكون سهلا إذا ما تعلق بالنصوص السردية والمرويات التاريخية المكتوبة والمدونة التي تحكي وقائع حدثت كما هو الشأن بالنسبة إلى السير الذاتية: (الأتوبيوغرافيات)، والمذكرات، واليوميات، والشهادات، والرحلات. فهذا النوع من الكتابات السردية ضرورة وجودية وحياتية لحماية الذاكرة وإنعاشها، إذ أنها تنتعش بالرواية، والقراءة والتداول والتلقي، وبغير هذا فهي تموت. بينما يعسر الأمر فيما يتصل بالكتابة التخييلية (Fictionnelle)، شعرا وسردا، وتشكيلا تجريديا، وإن كنا نؤمن بأن الكتابة بشكليها وصنفيها المذكورين، تعتمد في معناها ومبناها، ونمو دلالاتها على مخزون سابق، ومرجعيات سالفة، ومصادر ومنابع مادية ولا مادية. فالعلاقة بين الكتابة والذاكرة علاقة تفاعلية معقدة يتعين الوقوف على ترابطها وتعالقها بالواقع والماضي والتاريخ المتحرك للإنسان، والمجال، والمتغيرات الطارئة، على تشغيل عُدَّة نقدية تفكك الرموز، وتزيل الأقنعة والحجب عن الرؤية والمنظور العاري. وغني عن البيان أن "الأثر المكتوب : سردا / رواية / قصة- أقصومة أو شعرا لا يمكن أن يتحول إلى ذاكرة إلا بمقتضى قرار مؤسسي أو بالأحرى سلطة تنيط به مجموعة من المقاصد، وتفرض عليه حزمة من الإكراهات، ذلك أن المؤسسة تنهض بدور الوساطة بين الكتابة والذاكرة تقتضي التحرر من الفضاء الخاص، والانفتاح على الفضاء العمومي. ويعني هذا أن الكتابة التي تدخل مجال الذاكرة هي التي تخدم أغراض المؤسسة بترميز السلوك من خلال ما يُنْتَقَى من أخبار". إن المراد من هذا الكلام هو أن الذاكرة منجمية أو غير منجمية، لا يمكن أن تصبح حية متحركة تربط الأزمنة الثلاثة فيما بينها بطريقة محسوسة اندماجية، إلا إذا احتضنتها المؤسسات. ذلك أن المؤسسة هي التي تضفي عليها طابعا "رسميا" نفعيا فيه متعة وفائدة، ما يعني أنها تعمل على نشر الإبداع سردا، أو شعرا، أو فنا، أو أغاني، أو تشكيلا، أو مسرحا، فتجعله رهن فئات واسعة في طول الوطن وعرضه، مقروءًا متداولا، يربطه التلقي بالخصوصيات المكانية، والزمانية، والفنية، والتاريخية، ويجعله حيا يتجدد عبر القراءات المختلفة، والأجيال المختلفة، والتواريخ الحاضرة والقادمة. طبعا، يتوجب لتحقيق مشروعية الكتابة في حفظ وصون الذاكرة المنجمية مثلا، خوض أشكال النضال على مستوى إيجاد قنوات موصلة لوزارة التربية الوطنية، ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ووزارة الثقافة، ووزارة الشبيبة والرياضة. ويقتضي ذلك ربط الجسور بلجان البرامج والمناهج المدرسية والجامعية، ومديرية الكتاب، ومديرية المتحف الوطني، والمتاحف الجهوية الأخرى. وفي انتظار أن يعرف النضال تفعيلا وإعمالا للكتابة في علاقتها بإحياء وحفظ الذاكرة، لِنَكْتَفِ - في مرحلة أولى- بتدويل الخطاب الفني والأدبي فيما بيننا، وإيصاله بطرقنا، وعبر النسيج الجمعوي، والهيئات، والمنظمات الثقافية ذات الاختصاص، والمجالس المنتخبة، إلى شريحة عريضة من التلاميذ، والطلبة بمناسبة الاحتفالات المدرسية، وتوزيع الجوائز ضمن مسابقات شعرية وثقافية ومسرحية. أي أنه علينا أن نُعَرِّفَ بمنتوجنا الأدبي والفني بين ناشئتنا، ونحثهم على قراءته بما يجعلهم على اتصال فني ورمزي وروحي بفضائهم المنجمي، وبتاريخ مدينتهم، وسِيَرِ أبنائها الذين أصبحوا في عداد آبائهم الروحيين. ومن هنا، عِمْلتُ كما عَمِل ثلة خيرة من أصدقائي أبناء جرادة البررة، على صوغ علاقتهم بمدينتهم المنجمية. وفي هذا ما يدل على الاحتفاء بماضيها، وتاريخها وذاكرتها المشعة. وهو صوغ إبداعي لمحطات من حياتهم، ولحظات أساسية وانعطافية في مسارهم الدراسي والتحصيلي والعلمي، فضلا عن تشريح بالمجاز والرمز والوضوح الشفاف أحيانا، عن طفولاتهم وشغبهم، ومعاناة آبائهم من جراء رئاتهم المنخورة "السيليكوز"، وسعالهم الذي ألفوه وتعايشوا معه حتى صار مشهدا عاديا في يومهم وليلهم، من دون أن نتحدث عن ذكر الأماكن، والأحياز، والفضاءات التي طُمِسَت الآن: السينما - الطونو - la cage قبور النصارى- آثار يهودية - - أبّ عْمَرْ- "الحمام البلدي" وغير ذلك. هو أدب احتفى بالأماكن والساحات والأشخاص محاولا الإبقاء على ما كان وإنعاش ما كان ليستمر كائنا كأنه يعيش بيننا، بطريقة نوستالجية ثنير المكامن والدفائن والأشجان. وإذا كان لي أن أذكر بعض هاته الكتابات، فإني أذكر مجاميعي الشعرية المكرسة لمدينتي جرادة "جراح دلمون"، "يتبغي صفير القصب"، "مركبة السنجاب"، "قرابين". وفي باب المحكيات النوستاليجية، "جرادة دغل كثيف ونزيف (مهداة إلى الشريف). و"في ترعة كطفولة منكرة" و"درس الإنشاء"، و"الأستاذ"، و"مرح الشقاوة وملح البلاهة"...الخ. ولا ننسى ما كتبه الصديق "علي تيزلكاد"، المعروف بآيتْ علي أعْرَابْ : "La colline de papier"، ومحمد العرجوني " Amphion 4892، وجلول القاسمي : "سيرة للِعَتَه والجنون"، وبريك أُوسْعيد : "Les coquelicots de l'oriental"، وكتابات محمد بنعلي، وعبد القادر بنهار: (جرادة .. هذا المكان..)، وحامدي محمد: (جرادة زاد)، وعبد السلام بوحجر: "ملحمة القمر الأزرق"، وحليمة الإسماعيلي.. وآخرون. *** إشارة: نص مداخلتي في اليوم الدراسي الذي نظمته اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان: وجدة وفجيج، بمدينة جرادة يوم 06 يونيو 2015 .