أكد الشاعر المغربي محمد علي الرباوي لجريدة «الاتحاد الاشتراكي» أن طبيعة الحياة القاسية التي عاشها والوحدة التي رافقته في طفولته وشبابه، كانا أحد أسباب نضج وعيه الأدبي والإبداعي. وتجدر الإشارة الى أن محمد علي الرباوي يعد من أبرز الشعراء المغاربة، شاعر يكتب بعيدا عن الأضواء الكاشفة، وقد راكم عناوين شعرية أغنى بها المتن الشعري إلى جانب بحثه الأكاديمي الرصين؛ إنه شاعر بطيبوبته وصمته كتب واستعار من الخيال همزة وصل نحو قمر مكابدات السندباد، ليكون في طريقه نحو البحث عن الولد المر، وبالتحديد في رياحين الألم، تلكم هي إذن مسيرة إبداع لا يمكن لسيرتها إلا أن تشرق قصائد وعصافير الصباح والأعشاب البرية. كما كشف الشاعر محمد علي الرباوي سيرة كتابة القصيدة وقال: « ...أحيانا أكون مهيأ لكتابة نص، قد يطل منه المقطعُ الأول، وأنا بهذه الإطلالة أكون في عالم شبيه بعالم النائم الذي حلم أنه يمشي، وهو فعلا يمشي. لكن حين تلقاه أنت وهو يمشي نائما ثم تحدثه، فإنه يستيقظ»، مضيفا أن كل ما كتبه هو سيرته الذاتية، وتعبير عن ذاته. نلتقيه في هذا الحوار الشفاف، الذي يشبه فراشة تطوف حول النار، لتصل إلى منتهى الحقيقة. وقد صدق الشاعر محمد علي الرباوي لما قال: «لا أكتب إلا إذا احترقت، بالكتابة أشتعل، أشتعل ولكني لا أحترق، لكن الكتابة بهذا تجعل الاحتراق يدنو مني بخطى سريعة.». n ما حكايتك مع القصيدة... وهل لك أن تروي لنا كيف تكتبها والمراحل التي تمر منها؟ o كيف أكتبُ القصيدة ؟ وما المراحل التي تمر منها هذه القصيدة قبل أن تستوي على ساقيها امرأةً تتحرر مني لتملأ السوق الثقافية بسحرها إن كان لها سحر ؟ سؤالان يؤكدان أننا نتصور القصيدةَ العربية تصورا غربيا. الشعرُ الغربي شعر يُؤلف، ولهذا اتخذ له الأشكالَ الثابتة Les formes fixes ملاذا، لهذا يحق للشاعر الغربي أن يحدثنا عن كيفية كتابة قصيدته وعن مراحل إنجاز هذه الكتابة، وعملُه هذا لا يختلف عن عمل الروائي أو المؤلف الموسيقي أو المخرج السينمائي. أما الشعر في حضارتنا فيقوم على "القول"، لا التأليف، ولهذا فالأشكال الشعرية الثابتة عندنا لا تتعدى شكلين هما المسمط، والموشح /؛ ولهذا كانت القصيدة هي الشكلَ الشعري المناسب لفن القول. فعلاقتي بالكتابة الشعرية علاقة غير منفصلة عن انتمائي الحضاري. الشعر عندي سيرة ذاتية، ولأنه كذلك فأنا لا أكتب إلا ما أعيشه؛ الشعرُ تعبير عن تجربة، لهذا حين يملأني موقف مؤلم أو مفرح فإن ذاتي تختزنه في عمقها وتتفاعل معه أياما وربما شهورا أكون خلال هذه المدة متوترا، قلقا ... قد أغمغم ببعض الأبيات ثم تزدحم الأبيات في رأسي فأجلس في أقرب مكان يصادفني لأدون ما أملته هذه الذات. قد يكون المكان حَمَّاما أو مقهى أو شارعا أو غرفة ...الضجيج لا يحرمني من الكتابة. بل لعل الضجيج في الشارع أو في المقهى يحملني إلى عالم تنقطع فيه كل تلك الأصوات حيث لا يصبح لها وجود فزيائي. في بداياتي الشعرية كنت حين أدون النص أفرح به وأعرضه على الأصدقاء ثم أبعث به إلى الجريدة أو المجلة. لكن منذ أواخر سنوات السبعين تغير الوضع، إذ حين أنهي تدوين القصيدة يبدأ العمل الصعب، إذ تبقي الأوراق مخزونة عندي، وكلما خلوت إلى نفسي أُخرج الأوراق فأنشد القصيدة بصوت أسمعه أنا. وكلما أنشدتها حذفت كلمة وأضفت كلمة..... قد يمتد هذا أياما، وحين أمل من إنشادها فهذا معناه أن القصيدة استوت، فأعرضها على الأصدقاء الرائعين ثم أقوم بنشرها. لغة العقل n ما موقع الخيال والصدق في تجربتك؟ o الخيال عنصر أساسي في العملية الإبداعية، وأهمُّ منه حضورُ التجربة. التجربة حين تعبر عنها بصدق فإن ما تقوله هو واقع بالفعل لكن القارئ يراه خيالا. فحين أقول في إحدى قصائدي مثلا "يحترق الماء" فالقارئ يرى أن الماء لا يحترق في لغة العقل ويقبل هذا التركيب على أنه هذيان أو خيال. والحق أني لما قلت باحتراق الماء فقد أحسست فعلا بهذا ونقلته بصدق إحساسي إلى المتلقي. هذا هو فهمي للخيال في علاقته بالتجربة. تقنيات الإبداع: n هل بمستطاعك أن تكتب قصيدة كل يوم؟ o في بداياتي كنت أحيانا أكتب يوميا، لطبيعة الحياة القاسية التي عشتها وللوحدة التي رافقتني في طفولتي وشبابي، أغلب الأوقات أكون وحدي، قد أكون في جماعة ولكني وحدي. ولأن البدايات الشعرية تعتبر إنجازا هاما من خلاله اكتشفت ذاتي، فإني كنت أكتب كما قلت لك يوميا لتحقيق هذه الذات ولمحاولة السيطرة على تقنيات الإبداع. المرحلة كانت تتطلب كتابة الشعر ونظم الشعر. حين كنت مثلا معلما بمشرع حمادي، وهي قرية نائية ليس بها أحد كنت أحيانا أكتب نصين في اليوم. كان هذا منسجما ومرحلة الشباب، لكن بعد هذه المرحلة أصبح الشعر مستعصيا ولا ينقاد إلا إذا أراد. فبدل أن أكتب يوميا أصبحت أكتب مرة كل أسبوع ثم جاءت مرحلة أصبحت أكتب فيها مرة كل شهر. والآن أكتب مرة كل سنة أو مرة كل سنتين. لكن لو أردت النظم والتأليف لاستطعت أن أكتب كل يوم. نصف القصيدة n هل سبق لك أن ندمت على قصيدة لم تكتبها بعد أو كتبتها في وقت مضى؟ o نعم ذلك أني أحيانا أكون مهيأ لكتابة نص، قد يطل منه المقطعُ الأول، وأنا بهذه الإطلالة أكون في عالم شبيه بعالم النائم الذي حلم أنه يمشي، وهو فعلا يمشي. لكن حين تلقاه أنت وهو يمشي نائما ثم تحدثه فإنه يستيقظ، لكن يمكن أن تحدث له إغماءة قد تدمره. حين يطل المقطع الأول يحدث أن يزورك شخص فيوقظك من حلمك وأنت تمشي في دروب القصيدة، وقد تطول زيارته وتذهب القصيدة أو غالبا ما أتصورها قصيدة جيدة. حدث لي مرة أن نزلت ضيفا على الصديق عبد الهادي بن يسف وهو أخ الفنان أحمد بن يسف. وأخذني إلى أعماق تطوان حارةً حارة، زنقةً زنقة، دربا دربا... فبدأت ملامح قصيدة تطل علي، كيف أدونها حتى لا تنفلت مني وأنا مطلوب مني أن أتناول العشاء عنده وأن أنام بمنزله الأندلسي الجميل. قررت أن أستيقظ باكرا وأن أغادر البيت وأهلُه نيام، وألقيت بجسدي عند أقرب مقهى فدونت نصف القصيدة وأنا في نصفها، يطلع علي الصديق اجبيلو. وهو صديقٌ عزيز، درسنا معا بثانوية الحسن الثاني بالرباط، لم أره منذ 1964، وكان هذا اللقاء في سنوات التسعين. لابد إذن من أن أعطيه الوقت كل الوقت. كان يحدثني وعقلي شارد لا يعرف ما يقول. حين غادرني وجدت أن القصيدة غيرت مسارها بسبب هذا اللقاء واتخذت لها نهاية كان للقاء دور في صياغتها. كل القصائد التي كتبتها لم أندم لأني كتبتها، لأن كل ما كتبته هو سيرتي الذاتية، هو تعبير عن ذاتي. لكن حين أقول "الذات" فلا ينبغي أن يتصور القارئ أن الواقع الخارجي غير حاضر في ما أكتب. ذلك بأن الذات عندي هي الذات في علاقتها بالذات الكاتبة ، وفي علاقتها بما يجري في محيطها الوطني والعربي والإنساني. لكن لي قصيدة واحدة كتبتها وندمت. ذلك بأني زرت والدتي - أطال الله في عمرها-، وسألتني هل كتبت عن أطفال الحجارة، فأردت إرضاءها وكتبت؛ أي كتبت تحت الطلب، والشعر لا يكون تحت الطلب. قطرة من دمي n هل فعلا كل قصيدة كتبتها توازي خصلة شعر بيضاء في رأسك؟ o كل قصيدة أكتبها هي قطرة من دمي، لأني لا أكتب إلا إذا احترقت، بالكتابة أشتعل-، أشتعل ولكني لا أحترق، لكن الكتابة بهذا تجعل الاحتراق يدنو مني بخطى سريعة. ألم يقل الكندي للخليفة وهو يسمع أبا تمام ينشد شعره" هذا الشاعر لن يعمر طويلا . وفعلا لم يعمر أبو تمام لأنه كان يرهق نفسه في الكتابة. لم أكن أخاف: n دائما أنت تخاف من أن تخذلك يوما الكتابة وتجف قريحتك، لذا تبدو مثل تلميذ مواظب على الحضور، وخوفك من هذا المجهول هل يوازيه خوفك من تساقط شعرك وإصابتك بالصلع؟ o في مرحلة الشباب لم أكن أخاف أن تتخلى عني الكتابة لأني كنت مؤمنا بأن الكتابة تسري في دمي. حتى وأنا أتجاوز الستين لا أخشى خذلان الكتابة، لكني قبيل هذا السن أصبحت أُبعد عني أغلب النصوص التي تلح في الخروج. أصبحت أخاف أن أكتب نصوصا لا ترقى إلى مستوى النصوص التي كتبت وحققت فيها شيئا من طموحي الفني؛ لهذا أقول لك: أنا الذي أصبحت أخون الكتابة وأخذلها بأن أجعل قريحتي لا تشقى من أجل إنجاز النصوص. كتبت بشراهة n هناك من يوسوس له الشعر كل لحظة بمكر، ويكتب بشراهة ، أو بتقتير كأنه يتنفس الهواء من منخر واحد. قد ينشر أو لا ينشر ما كتبه، بالنسبة إليك أي طريق ستوصلك إلى نار الشعر المصفى؟ o أنا عشت التجربتين، كتبت بشراهة في مرحلة الشباب، لكن هذه الشراهة توارت مع الزمان. واخترت أن ألتزم الصمت احتراما للقارئ الذي أريده إذا قرأ شعري أن يجد نفسه فيه. ولهذا أنا في سن لا يسمح لي بأن أطمع في طريق يوصلني إلى نار الشعر. n هل أنت مقتنع تماما بوجود ضرورة أن يمارس عليك أحد ما وصاية على ما تكتبه، ويحاسبك على أخطائك ويتغاضى على صوابك؟ o لو كنت مقتنعا بوجود ضرورة أن يمارس علي أحد ما وصاية على ما أكتب، لما كنت شاعرا. لكن أقبل أن يحاسبني على أخطائي. وتجربتي الشعرية منذ طفولتي إلى الآن قامت جنبا إلى جنب مع هذه الوصاية الرائعة. فأصدقائي مارسوا علي هذا الفعل الجميل وبفضلهم حققت ما حققت. المجتمع والتغيير n شهد العالم العربي تغييرا في أنظمته، هل تنتظر مثل هذا التغيير والثورات في الثقافة والإبداع، وهل سيطول موعد تحقيق ذلك؟ o في الغرب تتدخل الفلسفة وتُحدث تغيرا في كل مظاهر الحياة: اللباس، العادات الموسيقا، السينما، الفن التشكيلي، الشعر...ولهذا يأتي التغيير هناك وقد أطره الفكر. ما حدث في العالم العربي هو رفض للاستبداد ولكنه رفض لم يتم تأطيره بالفكر؛ وهذا ما جعل الفوضى تسود. وهذا أمر طبيعي. لأن الأمر على هذا الشكل فلا تنتظر أن يحدث تغيير في الثقافة والإبداع تبعا لهذا الذي حدث في السياسة. لو افترضنا أن الحداثة (أو الإسلام أو...) أطرت الشعوب وأنتجت نخبة تتزعم الثورة فإن نجاحها سينعكس على الثقافة والإبداع.. مجتمعنا لم يعرف بعد التغيير المطلوب لأن الثقافة تخلت عن دورها في التأطير. ولأن المثقفين يتحدثون لغة غير لغتهم الحضارية، فارتمى أغلب المثقفين في أحضان الحكام المستبدين يجمعون فتات الذهب الذي يُنثر أمامهم. صوت المثقف n هل من الضروري أن تكون منتميا إلى مؤسسة ثقافية للأدباء.... هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك من يرى أن الشاعر قد يضيع عمره كله ولا ينال الاعتراف، بالنسبة لك هل نلت هذا الاعتراف إلى هذه الساعة وماذا أضاف لك؟ o ليس من الضروري أن أنتمي إلى مؤسسة ثقافية للأدباء، لأن كل المؤسسات في العالم العربي يتحكم السياسي فيها. هذا التحكم يجعل صوت المثقف غير ذي قيمة أو تأثير في المجتمع. المبدع يمكن أن يتعاطف سياسيا ولكن أن ينتمي وأن يعبر باسم الحزب الذي ينتمي إليه، فهذا قتل للإبداع. صحيح أنا قضيت عمري في الكتابة ولم يحدث أن فكرت المؤسسة الثقافية التي أنتمي إليها منذ 1975- أقصد إتحاد كتاب المغرب– أن سمحت لي بتمثيل بلدي في اللقاءات الشعرية التي تُعقد خارج المغرب. كل اللقاءات التي حضرتها كانت بدعوات شخصية. هل أعتبر طبعَ وزارةِ الثقافة أعمالي الشعريةَ الكاملة في مجلدين نوعا من الاعتراف؟ ومع هذا فأنا سعيد كل السعادة لحب الناس ما أكتب.