" سأكون سعيدا لو أعلنت ثورة العقل اليوم واحتفلت مع الأصفياء الذين طال انتظارهم بعد أن حرموا من متعت التفلسف لأن من يريد أن يكون سعيداً فلا بد له أن يتفلسف ، ولكم تمنيت أن أرى النور في بلد ديمقراطي وأعيش حراً وأموت حراً" فهل عرف العالم ثورة العقل أم لابد من الاحتفال بها في هذا اليوم؟ لم نجد واحدا من الفلاسفة انصهرت حياته في مشروعه الفكري، إلى درجة أنه يصعب أن نميز بين الفيلسوف الذي أدرك عصره في مفهوم الضروري في العلم والسياسة، وبين حياته المضطربة والتي بدأ مسارها بالحماس والرغبة في بناء مجتمع المعرفة وتشييد مدينة فاضلة، وانتهت بالنكبة، والنفي، والعيش مع المهمشين، هذه إذن صفات لا يمكن أن تتوفر إلا في أبي الوليد ابن رشد، الفيلسوف، والطبيب، والقاضي، ثلاثية نشرت ظلها على الغرب الذي استغل رمزيتها ي بناء نهضته الفكرية والسياسة، ونامت في النسيان عندنا، ولم نتعرف من جديد على صاحبها إلا بعد فوات الأوان، وعبر الغرب وعبر الغرب نفسه الذي استطاع بصدمته أن يوقظ العقل العربي من سباته الدوغمائي؛ ولكن كيف تعامل هذا العقل مع فيلسوف النهضة؟، هل تم استثماره أيضا، أم إعادته إلى مملكة النسيان؟، بل أكثر من ذلك، لماذا أصبحت الرشدية مصدر خوف لهذا العقل الذي ظل يتحرك في فضاء تسوده ثنائية: نحن والغرب؟ وكيف تمت قراءة فلسفة النهضة وسياستها العقلانية المتنورة بعقل غير ناهض ينام بجوار حميمية تراثه الفقهي والكلامي؟. من المحتمل أن تبدو هذه الأسئلة مدمرة لأوهام المرحلة الراهنة عندنا، لكونها تستغل أدوات انطولوجية وإبيستيمولوجية، من أجل قراءة السياسة المقدسة وإشكالية الدولة المدنية، لأنه بدون تأسيس هذه الدولة على أعمدة الفكر الفلسفي، أي الحكمة، وبرهانية التدبير، وأخلاقية العمل السياسي الغافل، يستحيل استعادة تراثنا العقلاني عامة، وابن رشد خاصة من الغرب. هكذا ستظل دعوتنا إلى إعادة قراءة هذا التراث بالتراث من أجل التراث، ويمر الزمان، ويشيخ الأمل فينا، ونتأمل الراهن بالماضي، ونضع بيننا وبين المستقبل حجاب ابن عربي الذي فضل الهروب على مواجهة شرسة النوابت في المدينة الجاهلة، فكيف يمكن أن نقدم مشروع ابن رشد السياسي في ظل هذه التخوفات، وهذا الحماس المنهار؟، هل من آراء جديدة في هذا المشروع بإمكانها أن تساهم في انطلاق نهضة سياسة وفكرية في المغرب الأندلسي خاصة، والعالم العربي عامة؟. ومتى سيسمع هذا العالم الجريح في كيونته نداء ابن رشد، كما فعل الغرب الأوروبي؟. والحال أننا نسير دون أن نعرف إلى أين نتجه، فمن قضية سياسية إلى آخرى، مجد أنفسنا مكرهين على صياغة تلك الجوانب التنويرية في فلسفتنا السياسة، حتى نتمكن من مواجهة العدمية التي نالت من الفكر وحرمته من الحرية، وفتح المجال إلى السفسطة والخطابة بغية تخدير إدراك الإنسان المقهور ليستجيب إلى دعوة السياسة المقدسة التي تسعى إلى تشييد الدولة الطغيانية انطلاقا من مثل الماضي، والآمال المعلقة في السماء، هكذا سنجرد المفاهيم السياسية والفلسفية الرشدية من حمولة الماضي، ونحدث قطيعة بينها وبين الزمن الذي عاش فيه ابن رشد، مادامت قد فشلت في تغيير هذا الزمن، حتى لا نحملها مسؤولية هذا الفشل، لأنه من المحتمل أن تنجح في زمننا هذا على الرغم من أنها فشلت هناك. معادلة صعبة، ولكنها ممكنة، لأنها تنتمي إلى الفكر السياسي الذي يواكب اشتياق الإنسان للحرية والسعادة في حميمية الدولة المدنية، فما هي هذه الآمال التي يقدمها المشروع الرشدي التنويري للإنسان العربي؟، وكيف ينبغي استثمارها الآن وهنا؟. لو جاز لي أن أعيد الحياة للمفاهيم السياسة الرشدية حتى نتمكن من إدراك نقائص هذا العصر، لوضعناها في أفق كونية الفكر السياسي، والشاهد على ذلك أن رواد هذا الفكر في أوروبا يتم استثمارهم من قبل المجتمع السياسي، حيث نجد أن أطروحة ميكيافيلي تستغل في الأحزاب اليسارية، وغيرها من الأطروحات، ذلك أن الفكر السياسي يتجدد داخل بنيته، فاستثماره في المجتمع هو الذي يحكم بنجاحه أو بفشله ولذلك فإن ماكس فيبير يميز بين المقاولة السياسية التي تعيش من خلال السياسة، والمقاولة التي تعيش من أجل السياسة(1)، ذلك لأن السياسة هي مجرد صراع للنخب داخل المقاولة السياسية، الأمر الذي دفع ميكيافيلي إلى القول بأن هدف السياسيين يظل واحدا، ألا وهو الحصول على الثروة والشرف على حساب الفكر المتنور، لأنهم يسمحون لأنفسهم بممارسة الشر العام من أجل تحقيق الخير العام. والحق أن ميكيافيلي الذي هيمن على الفكر السياسي الغربي كان ينقصه العمق الفلسفي الرشدي، كما أن ابن رشد لم يكن يمتلك جرأة ومكر ميكيافيلي الذي قام بإغراء قرائه والنخب السياسية انطلاقا من دعوته إلى تغيير سياسة بلاده، إذ يقول لهم؛ إنه لا ينبغي الاعتماد على الدولة الواقعية، أو الأمير الذي يحكم، بل على المجرد، أي الخير العام الذي يسعى إليه الجميع، وهو أمير جديد في دولة جديدة: "ولا أظن أحدا يمكنه أن يخالفني في الحكمة التي تقول: من يبني على الشعب يبني على الطين"(2). ثم يتساءل قائلا: أيهما أفضل للحاكم أن يكون محبوبا أو مهابا ومصدر خوف ورعب لشعبه؟. الواقع أن ميكيافيلي، يسبب لك صدمة، بل هو نفسه صدمة عميقة، بلغة برتراندراسل: "ففلسفة السياسة يمكن وصفها بأنها فلسفة علمية وتجريبية نابعة من تجربته الخاصة. فلسفة هدفها 'الغاية تبرر الوسيلة'، بصرف النظر عن ما إذا كانت الغاية خيرا أو شرا من منظور أخلاقي(3)" ذلك أن ما كان يهم ميكيافيلي هو أن يحافظ للأمير بإماراته: "لأنه لن يظل حاكما إلا إذا أخلص لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة، حتى ولو كانت بالمكر والخداع، لأن معظم الناس جهلاء وأغبياء سياسيا، والقليل منهم من يفهمون: "وتجارب عصرنا تدل على أن أولئك الأمراء الذين بلغوا أعمالا عظيمة هم من لم يوفوا بالعهد إلا قليلا بما لهم من مكر، كما أنهم استطاعوا التغلب على من جعلوا الأمانة هاديا لهم"(4). وفي الحقيقة أن ميكيافيلي يجعل من المكر والخداع والكذب مفاهيم إجرائية في مشروعه السياسي، إلى حد أنه يحذر من خطورة الالتزام بالعدل والحق والخير: "ومن هنا يتضح أن الأعمال الصالحة قد تجلب الكراهية كالأعمال الشريرة أيضا. لذلك فإن الأمير الذي يريد أن يحافظ على ولايته عليه أن يقترف بعض الشرور، لأنه إذا فسد طرف من الأطراف الثلاثة:"الشعب، الجيش، النبلاء"، وكنت تعتبره ضروريا من أجل المحافظة على مركزك فيجب عليك أن تتبع هواه وترضيه، وهنا تؤيدك الأعمال الصالحة"(5). إذ على الأمير في هذا الأفق السياسي الماكر أن يكون من حين لآخر هو نفسه وراء مشاكل تؤرق الشعب ولا يحلها احد سواه، حتى ولو قام بزرع الفتن والعداء بين الناس ثم يقوم بالقضاء عليها، وبذلك يصبح زعيما محبوبا عند شعبه: "يجب على الأمير العاقل أن يثير العداء بين الرعية بدهاء حين تسنح الفرصة بذلك. حتى تزداد عظمته بمجرد السيطرة على الموقف والقضاء على الفتنة"(6). هكذا يظهر بصورة المنقذ والرجل الذي عنده حلول لكل المشاكل. لكن ما علاقة سياسة الغاية تبرر الوسيلة التي تجعل الأمير مخيفا ومهابا بمكره وخداعه، بسياسة الفضيلة التي تنتقد وحداني التسلط وتفصح شر طغيانه؟، ألا يكون المكر في السياسة هو الذي جعل كتاب الأمير كتابا لكل العصور ومنح لصاحبه مكانة رفيعة، على عكس كتاب الضروري في السياسة الذي تم إحراقه، والحكم على صاحبه بالنكبة؟، وبعبارة أخرى ألم يكن ابن رشد يمتلك الرشد عندما وجه نقده للخليفة الموحدي الذي كان يعيش معه في نفس البلاط؟، وما الحاجة إلى السياسة إن لم تكن فاضلة تسعد الناس بدلا من خداعهم. والبرهان على عدم جدية السياسة أن ميكيافيلي كان يحرض الأمير على الشعب، لأن السياسة عنده عي عدم الوفاء بالوعد بحجة أن الغاية تبرر الوسيلة كيفما كانت ولو اقتضى الأمر الخداع والكذب، وينبغي عليه أن يكون مخيفا ومهابا الجانب أفضل من أن يصبح محبوبا، ولعل صاحب الأمير كان متأثرا بكتاب سر الأسرار(7). المنحول على أرسطو، لأننا نكاد نحكم عليه بأنه مجرد نقل لهذا الكتاب الذي أسحر كتاب الآداب السلطانية عندنا في العالم العربي في القرون الوسطى. هكذا يسلم ميكيافيلي من شر السياسة ويعيش من خلال نعمتها. إما ابن رشد فإنه كان ينظر إلى سياسة الخليفة الموحدي على أنها سياسة فاسدة تفتقد إلى الفضيلة والحكمة، ويتهم الخليفة بوحداني التسلط: يتبين لك هذا من المدينة الجماعية في زماننا، فإنها كثيرا ما تؤول إلى تسلط، مثال ذلك الرئاسة التي قامت بأرضنا هذه أعني قرطبة بعد الخمسمائة لأنها كانت قريبة من الجماعية كلية ثم آل أمرها بعد الأربعين وخمسمائة إلى تسلط"(8). هكذا يمتلك ابن رشد الشجاعة على قول الحقيقة، بيد أنه عاش أبشع نكبة في حياته، غلى أن مات معزولا عن الناس، ولم ير الأندلس ثانية. فبأي معنى تصبح المقارنة بين ميكيافيلي وابن رشد مفيدة في هذه القراءة لإشكالية السياسة المقدسة وصعوبة تشييد الدولة المدنية هنا، ونشأتها هناك؟، وبعبارة أخرى كيف استطاع الغرب أن يبني دولته المدنية على إنقاض سياسة طغيانية، وفشل الفكر العربي في ذلك، على الرغم من توفره على بنية سياسة فاضلة؟، وكيف يتحول الاستبداد إلى ديمقراطية، والديمقراطية إلى استبداد؟.هل قمنا باستثمار هذا التراث العقلاني في الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة بفاس؟. * * * - نص كلمة د.عزيز حدادي خلال الندوة الفكرية التي نظمتها بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة جمعية أصدقاء الفلسفة وجامعة ابن رشد الربيعية بتعاون مع وزارة الثقافة والجماعة الحضرية لفاس في 21 نونبر 2015 1 Max Weber, le savon et le politique. 2 - ميكيافيلي، الأمير، الترجمة العربية. 3 - برتراندراسل، حكمة الغرب، م م. 4 - ميكيافيلي، المصدر نفسه. 5 - ميكيافيلي، المصدر نفسه. 6 - ميكيافيلي، المصدر نفسه. 7 - أرسطو المنحول، كتاب السياسة في تدبير الرياسة المعروف ب "سر الأسرار"، تحقيق بدوي ص 154. 8 - ابن رشد، جوامع سياسة أفلاطون، نشرة الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 195.