تأخذ الميكيافيلية مسارا جديدا في السياسة الحالية لأن الخوف والرعب والطاعة العمياء بإمكانهم أن يمنحوا الأغلبية والسلطة للزعيم عزيز الحدادي ‹بالرغم من أن عصر النهضة لم ينتج فيلسوفا عظيما، إلا أنه أنتج رجلا فذا في مجال الفلسفة السياسية. هذا الرجل هو تيقولاي ميكيافيلي.. إنه يسبب لك صدمة بل هو نفسه صدمة كبيرة. فلسفته السياسة يمكن وصفها بأنها فلسفة تجريبية نابعة من تجربته الخاصة.. فلسفة هدفها ‹الغاية تبرر الوسيلة› بصرف النظر عن ما إذا كانت الغاية خيرا أو شرا من منظور أخلاقي..› برتراند رسل لو جاز لي أن أقارن بين سياسة رئيس الحكومة المغربية وسياسة ميكيافيلي كما جاءت في كتاب الأمير، لانطلقت من الشعار الخالد الذي دافع عنه صاحب الأمير وهو ‹أن الغاية تبرر الوسيلة›، ولم يكن يهتم بماهية هذه الغاية، هل تجلب السعادة للإنسان، أم أنها تلقي به في الشقاء، هل تشكل نعمة وخيرا، أم أنها مجرد خدعة وشر، والشاهد على ذلك أن ما كان يهم ميكيافيلي هو الحفاظ للأمير بامارته، ولو اقتضى الحال ممارسة سياسة المكر والخدعة: ‹لأن معظم الناس جهلاء وأغبياء سياسيا،كما يقول ميكيافيلي، والقليل منهم من يفهمون، وتجارب عصرنا تدل على أن أولئك الأمراء الذين بلغوا أعمالا عظيمة هم من لم يوفوا بالعهد إلا قليلا. وهم الذين استطاعوا التأثير على العقل بما لهم من مكر›، ولذلك فإن استمرار السلطة السياسية يقتضي الإخلاص لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة. فما الذي يجعل الفكر السياسي الميكيافيلي يتحول إلى تلك الأدبيات السياسة التي تعتمدها السياسة المقدسة عندنا؟ أو بعبارة أخرى، كيف يمكن الجمع بين ميكيافيلي وسياسة الحكومة المغربية ألا يبدو أن هذه المقارنة غير منطقية مادام أنها تستمد حقيقتها من قياس الشاهد على الغائب؟، بل كيف يمكن لرجل عصامي ينتمي إلى الحاضر أن يستمد مفاهيم سياسية من الفكر السياسي الميكيافيلي رغم وسطويته؟ ومن الحكمة أن نعترف بأن صدمة ميكيافيلي لا تعود إلى دفاعه عن أميره والسعي إلى الحفاظ على سياسته، بل تنبثق من احتقاره للشعب واعتباره مادة أولية صالحة للتصنيع السياسي، انطلاقا من الخطابة والسفسطة، بعيدا كل البعد عن البرهان والحقيقة الصادمة، لأن ما يهم الأمير هو أن يكون مهاب الجانب، خير من أن يكون محبوبا، ذلك أن القهر والخوف يولد الطاعة: ‹ولا أظن أحد يمكنه أن يخالفني في الحكمة التي تقول: من يبني حكمه على الشعب وكأنه يبني على الطين›، فإلى أي مدى تصبح هذه السياسة هي شعار المرحلة بكاملها في العالم العربي؟، وما الذي يجعل البنية السياسية في المغرب تستمد مكوناتها من الفكر التيولوجي الوسطوي المتأثر بالفكر الميكيافيلي؟، وهل حان الوقت لصياغة مفهوم جديد لسياسة تجاري الأماني تتخذ منطلقاتها من السياسة المدنية المتنورة؟، ولماذا يتم تأجيل الدولة المدنية باسم الدفاع عن العقيدة؟. لقد كان ميكيافيلي يجعل من المكر والخداع والكذب مفاهيم إجرائية في مشروعه السياسي إلى حد أنه يحذر من خطورة الالتزام بالعدل والحق والخير: ‹ومن هنا يتضح أن الأعمال الصالحة قد تجلب الكراهية كالأعمال الشريرة أيضا. لذلك فإن الأمير الذي يريد أن يحافظ على ولايته عليه أن يقترف بعض الشرور، لأنه إذا فسد طرف من الأطراف الثلاثة: ‹الشعب، الجيش، النبلاء›، وكنت تعتبره ضروريا من أجل المحافظة على مركزك فيجب عليك أن تتبع هواه وترضيه، وهنا تؤيدك الأعمال الصالحة›. إذ على الأمير في هذا الأفق السياسي الماكر أن يكون من حين لآخر هو نفسه وراء مشاكل تؤرق الشعب ولا يحلها أحد سواه، حتى ولو قام بزرع الفتن والعداء بين الناس ثم يقوم بالقضاء عليها، وبذلك يصبح زعيما محبوبا عند شعبه: ‹يجب على الأمير العاقل أن يثير العداء بين الرعية بدهاء حين تسنح الفرصة بذلك. حتى تزداد عظمته بمجرد السيطرة على الموقف والقضاء على الفتنة›. هكذا يظهر بصورة المنقذ والرجل الذي عنده حلول لكل المشاكل. لكن ما علاقة سياسة الغاية تبرر الوسيلة التي تجعل الأمير مخيفا ومهابا بمكره وخداعه، بسياسية الفضيلة التي تنتقد وحداني التسلط وتفضح شر طغيانه؟، ألا يكون المكر في السياسة هو الذي جعل كتاب الأمير كتابا لكل العصور، ومنح لصاحبه مكانة رفيعة، وما الحاجة إلى السياسة إن لم تكن فاضلة تسعد الناس بدلا من خداعهم؟ والبرهان على عدم جدية السياسة أن ميكيافيلي كان يحرض الأمير على الشعب، لأن السياسة عنده هي عدم الوفاء بالوعد بحجة أن الغاية تبرر الوسيلة كيفما كانت ولو اقتضى الأمر الخداع والكذب، وينبغي عليه أن يكون مخيفا ومهاب الجانب أفضل من أن يصبح محبوبا، ولعل صاحب الأمير كان متأثرا بكتاب سر الأسرار المنحول على أرسطو، لأننا نكاد نحكم عليه بأنه مجرد نقل لهذا الكتاب الذي أسحر كتاب الآداب السلطانية عندنا في العالم العربي في القرون الوسطى. فبأي معنى تصبح المقارنة بين ميكيافيلي ورئيس الحكومة مفيدة في هذه القراءة لإشكالية السياسة المقدسة وصعوبة تشييد الدولة المدنية عندنا؟ والحال أن ما يميز الخطاب السياسي الراهن هو اعتماده الجرأة على قول الأشياء حتى ولو كانت تسعى إلى نسف آمال الشعب في التغيير إذ أن صدمة الخطاب السياسي قد تحولت إلى صدمة اقتصادية محبطة لآمال الشعب. إلى درجة أن عدم مصداقية السياسة أصبحت تقترن بعدم القدرة الشرائية وكأن هذه الحكومة تتجه نحو تصفية الحساب مع البراءة السياسية فمن زيادة إلى زيادة، ومن منع وحرمان إلى حرمان ومنع. ذلك أن فرض توجه معين في العقيدة وجعل الدولة خادمة لهذا التوجه سواء من خلال وسائل الإعلام العمومي، أو من خلال تمرير مراسيم وقوانين تؤدي إلى خيبة الأمل. وفي الحقيقة إن الاختلاف بين الخداع السياسي والقهر الاجتماعي لا يوجد بينهما متسعا من الزمان لأنهما يحرمان الإنسان من السعادة ذلك أن غاية السياسية هي إسعاد المواطنين وليس دفعهم إلى الاكتئاب. هكذا تأخذ الميكيافيلية مسارا جديدا في السياسة الحالية لأن الخوف والرعب والطاعة العمياء بإمكانهم أن يمنحوا الأغلبية والسلطة للزعيم ولكنهم يقومون بنسف الديمقراطية التي تتأسس على حق الأقلية في العيش الكريم والتعبير بحرية عن معتقداتها واختلافها الفكري دون أن تصبح معرضة للاضطهاد، كما هو الحال مع النخبة العلمانية التي تحولت إلى حطام تتلاعب به أمواج هذا البحر المضطرب الذي تولد عن لعنة الربيع العربي. لكن كيف يمكن تأسيس نهضة سيباسية متنورة بعقل غير ناهض؟ هل بإمكاننا أن نحلم بسياسة مدنية تسعى إلى تشييد دولة مدنية تمنح الحق في الحق للجميع؟ ومتى تصبح السياسة عندنا نعمة للفانين تسعدهم في الدنيا قبل الآخرة؟. من المحتمل أن تبدوا هذه الأسئلة مدمرة لأوهام المرحلة الراهنة لكونها تستغل أدوات أنطولوجية وإيبيستيمولوجية، من أجل قراءة السياسة المقدسة وإشكالية الدولة المدنية، لأنه بدون تأسيس هذه الدولة على أعمدة الفكر السياسي البرهاني الذي يعتمد على أخلاقية العمل السياسي الفاضل يستحيل استعادة الأمل إلى المغاربة الذين دار بهم الزمان في حلقات الانتقال من أجل الانتقال ووجدوا أنفسهم يعيشون تحت ميكيافيلية التدبير التي تستثمر الشعب من أجل إسعاد الأمير على حساب الدولة التي تتحول من استبداد عسكري إلى استبدادي ظلامي. ولا احد يشك في أن صعوبة المرحلة تقتضي العودة إلى قراءة وتفكيك الخطاب السياسي انطلاقا من أدوات اشتغاله، لأن الفلسفة وحدها تملك القدرة على تشخيص مرض الحاضر كالفحص الطبي: ‹إنها محاولة لتشخيص الحاضر، كما أنها تسعى لأن تشير إلى ما هو الحاضر وبماذا يختلف حاضرنا اختلافا مطلقا عن ماضينا هذه هي المهمة كما يقول فوكو التي ينبغي عن الفيلسوف القيام بها اليوم. واليقين أن جرأة العمل السياسي قد يقود صاحبه إلى السقوط في لعبة الحوار المتمدن مع المخالفين له في الرأي ولعل ميكيافيلي كان يدافع عن مبدأ الحوار من أجل تمرير مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، لأن مهمة الأمير لا تكمن في القضاء على المعارضة بقدر ما تسعى إلى الهيمنة على الشعب. ففي ظل هذا الوضع الذي يعرفه المجتمع السياسي الذي شيد إمارته على فكر سياسي وسطوي أبهر الإنسانية بقدرته على حكم الشعب، يتعين علينا أن نعترف أيضا بعدم وضوح هذه المرحلة ولا إلى أين تتجه ذلك أن المجتمع مضطرب، وأن السياسة فقدت مصداقيتها ولم تعد هي حياة الدولة بل تحولت إلى حلم مزعج من خلال ممارستها للقهر الاجتماعي على الطبقة الوسطى واستنادها على إعانة الفقراء بطرق غير مجدية كبرميل بدون قعر لأن الأمر يقتضي إعادة إدماج الفقر في منظومة التنمية انطلاقا من توزيع الأراضي للانتفاع وتجعل من الفقراء زراع بدلا من متسولين يحملون معهم هموم دوارهم وينزلون بها في الأحياء الشعبية التي تحولت إلى شبح مرعب للمدينة. تنشر الاجرام، وتعدد الأمن. نعم لقد كانت صدمة ميكيافيلي لعصره أقل وقعا من صدمة السياسة المقدسة في العالم العربي التي قامت باغتيال الأمل وتحويل الإنسان إلى مجرد ظل للإنسان لأنه يعيش بالعرض في الحياة وبالذات في الآخرة. هكذا يجب عليه أن يقبل الاستبداد من أجل أن يتمتع بنعمة الجنة وربما يكون هذا الجانب الوجداني هو ما يحرم السياسة التنويرية من الظهور في الفضاء المغربي خاصة والعربي عامة. إننا نريد سياسة مدنية وحكما ديمقراطيا ونرفض ميكيافيلية التدبير التي تقوم بنسف امالنا وجعلنا مجرد بضاعة تقدم لصناديق الاقتراض. وتفرض علينا الزيادة في كل شيء، وتحويلنا إلى ضريبة على الضرائب. لأن السياسة ليس معناها الحفاظ على الدولة من خلال الضرائب، ولكن الحفاظ على الشعب.