كشف الحقيقة شرط وجود بالنسبة إلى إعمال قيم الإنصاف والمصالحة لا شك أن كشف الحقيقة شرط وجود بالنسبة إلى إعمال قيم الإنصاف والمصالحة، الحقيقة كاملة وغير منقوصة، بوقائعها وضحاياها وجلاديها، ثم حقيقة النسق الفكري الذي حكم سياسة المخزن في مرحلة يراهن مغرب اليوم على طيها إلى الأبد، عبر إرساء ضمانات عدم تكرارها. وعندما نقول النسق الفكري، فإننا نجد أنفسنا في حضرة مفكر سياسي عالمي هو ميكيافيلي، شكل كتابه «الأمير» مرجعا حقيقيا وسندا متينا لكل السياسات التي اعتمدت في هذه المرحلة. فإذا كان مسلسل المصالحة قد أعفى الجلادين، الأشباح منهم والمشهورين، الأحياء منهم والأموات، من فصول المتابعة القضائية، عندما اكتفى عموم المغاربة بما أسماه جلالة الملك ب«الصفح المبين»، فإن معرفة الحقائق تقتضي أن نفهم ونحلل الآليات الذهنية التي حكمت الحاكم في هذه المرحلة، ولن نجد أفضل من ميكيافليي ليدلنا على هذا الأمر، منطلقين من سؤال: لماذا لا يجد الحاكم العربي على غرار أسلافه، منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا، غضاضة في الانفتاح على آداب وفكر الاستبداد لدى الآخر المخالف لنا في الملة والحضارة، بينما لا يتردد في التشبث بحبل «المحافظة» وشماعة «الخصوصية» عندما يتعلق الأمر بفكر التنوير والتحرر لدى هذا الآخر؟ قد يبدو الأمر، للوهلة الأولى، موضوعا نظريا، لكنه في واقع الحال عكس ذلك، فانفتاح المغربي اليوم على ميكيافليي هو انفتاح على فكر سياسي لن يجد مشقة وعنتا في أن يجد أواصر القرابة بل والتطابق مع مرحلة تاريخية أجمع مغاربة اليوم على طي انتهاكاتها وخروقاتها.. وطي سياساتها ومخلفات سياساتها على مشهدنا الحزبي عندما كان مخزن القرن الماضي ماهرا في تعليب الأحزاب وتفريخها بحسب سيادة الحاكم/الراعي، لا بحسب ما تقتضيه سيادة الشعب/الرعية، يقول ميكيافلي في مقدمة الكتاب: «عليك أن تكون أحد الرعية كي تفهم الحقائق المتعلقة بالأمراء». ولأن حقيقة ما وقع أصبحت في حكم المعروف نسبيا، من حيث الوقائع والضحايا ومعاناتهم، وبعضها تحول إلى ما يشبه الوشم على ظاهر اليد، شاهدا على ما عاناه شرفاء هذا البلد، فإن مقارنة المغربي اليوم بين فصول كتاب «الأمير» لميكيافليي، وخاصة الفصول 15 و17 و18 و19، والحقائق التي جادت بها قرائح الضحايا إبان جلسات الاستماع أو مقارنة مفهوم السياسة، كما هي عند ميكيافيلي، بتاريخ علاقة مخزن هذه المرحلة بالأحزاب السياسية، ستُشعره بحقيقة أن استنساخ الأرواح أمر ممكن ووارد جدا في السياسة، حتى وإن كان الأمر محالا في الملة، وكأن الزمن قد طوى ما يناهز 500 سنة، التي تفصل تاريخ نشر الكتاب، أي في 1532، وتاريخ سنوات الرصاص في المغرب، والممتدة على مدى 43 سنة بحسب تقرير هيئة الإنصاف المصالحة. أما إذا سأل القارئ لماذا ميكيافليي؟ فإننا نجيبه بأن علاقة الحاكم العربي باستيراد الأفكار والتعاليم السياسية للآخر المخالف لنا في الملة والتعود والحضارة أمر ثابت وليس وليد اليوم، وحسبنا أن نشير إلى علاقة الحاكم العربي القديم بما يعرف اليوم بالآداب السلطانية. أما لماذا الاستيراد، فإننا نرجع بالقارئ الكريم إلى ابن خلدون، وعنده نجد «أن العرب أبعد الأمم ما يكونون عن سياسة الملك» (ابن خلدون/المقدمة/ طبعة بيروت، الفصل الثامن والعشرون ص 153) «لأن رزقهم في ظلال رماحهم وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه»(ص 149) ولأنهم «متنافسون في الرياسة.. فإن الرعايا تبقى ملكتهم كأنها فوضى دون حكم»، لذلك لم يجدوا بدا من الأخذ عن أمم سبقتهم في هذا العلم العظيم، أمم لم تكن وثنية مللهم وعقائدهم عائقا في الانفتاح على فكرهم واقتفائهم آثار تعاليمهم، حذو النعل للنعل والحافر للحافر، وهي تعاليم تستهدف، في أساسها، إرشاد الأمراء إلى ما به يتم الحفاظ على السطوة والملك والهبة والوقار. وهي، في العموم، نصائح أخلاقية وقواعد سلوكية يتوجب على الحاكم اتباعها بدءا مما يجب أن يكون عليه في شخصه إلى طرق التعامل مع رعيته مرورا بكيفية اختيار خدامه واختبارهم وسلوكه مع أعدائه. هكذا يقع الوصل والاتصال، غير أن أهم القيم العقلية أو«العِبَر»، بتعبير ابن خلدون، والمستخلصة من تاريخ الأنظمة الاستبدادية والموسومة بكونها كليانية أو ديكتاتورية إلى غير ذلك من السمات، والتي تنتظم في خيط اعتمادها الحديد والنار في تشييد صرحها، والحفاظ على كاريزمية حكامها، تلك التي تؤكد أن لا فرق بين مستبد وآخر اللهم من حيث المرجع الذي يستند إليه في بناء مشروعية سيادته، أي بين المستبد الرهيب كما ينظر إليه أمير ميكيافيلي أو المستبد الساحر كما ينظر إليه الماوردي، فالأول عليه تقليد قانون الطبيعة، (رهبة الأسد ومكر الثعلب ضد تكالب الذئاب/الرعية) (أنظر الأمير/ الفصل 18/منشورات المكتبة العربية)، والثاني يستثمر المشترك الديني والعرقي في استلام السلطة والحفاظ عليها، وفق مقولات تمتح من اللاهوت، فلا عجب أن كان السجود، عند لقاء الخليفة، له نفس الوقار الذي للسجود الشعائري في نفوس الرعية. (أنظر كتاب الماوردي «الأحكام السلطانية والولايات الدينية»/تحقيق دار ابن قتيبة الكويت/الطبعة الأولى 1989). في الفصل 15، يبدأ ميكيافيلي بنصيحة الأمير «الذي يريد الحفاظ على نفسه أولا، أن يعرف كيف يكون خيرا وليس شريرا ومتى يستخدم هذه الصفة»، لذلك على الأمير ألا يعبأ كثيرا بالفضائل التي قد تهلكه وتفقده إمارته، في حين بعض «الرذائل قد تسبب سلامة الأمير وسعادته»، ومنها ألا يعبأ كثيرا بأن يوصف بالشدة مادامت هذه الشدة من أجل الحفظ على ولاء مواطنيه، فحين يكون قاسيا على عدد قليل جدا من الناس، لن يكون بذلك مضرا، فالمضر هو أن يكون إنسانيا ولينا، وهما صفتان تسببان القلاقل والاضطرابات، تسيل الدماء ويحدث النهب والسلب ويضيع الأمن، وهي أمور تضر بالأغلبية، «لكن تنفيذ الإعدام في حق عدد قليل من الناس لن يضر أحدا غيرهم» (الفصل 17). أما لماذا على الأمير ألا يطمئن إلى حب الرعية له؟ فيجيب ميكيافيلي بأن الرعايا ناكرون للمعروف وجاحدون ومراوغون، هم «أعوانك طالما استفادوا منك.. لكن حين تقترب الأخطار ينقلبون عليك»، لذلك فالأمير الذي «يعتمد على وعود رعاياه يهلك»، تماما كمن يعتمد على كلمات المديح الملقاة في حضرته. ولأن البشر يترددون في الإساءة إلى من يخافون أكثر من ترددهم في الإساءة إلى من يحبون، فإن «استخدام المهابة والخوف من العقاب طريقة لا تفشل أبدا» (نفس الفصل)، ويختم ميكيافيلي حديثة عن الترهيب والتخويف بالقول إن الرعية «يحبون بإرادتهم الحرة، لكنهم يخافون برغبة الأمير»، لا يقف الأمر عند التخويف فقط، بل وتعلم الخداع أيضا، فالأمراء «الذين استطاعوا تقليد الثعلب بمهارة حققوا أفضل النجاح» (الفصل 18)، ولأن البسطاء من الناس على استعداد لقبول أي أمر يقوله الأمير، فإن الأمير لن يجد كبير مشقة في خداعهم، بل إن من رعاياه من «سيحكم على وسائله بأنها شريفة ويمدحها أيضا» ( نفس الفصل/ص 91)، ومن يستطيع من الأمراء أن يقنع جميع رعيته بهذه الصفات فإنه «سيحظى بسمعة عظيمة، ومن الصعب أن يتآمر عليه أي إنسان» ( نفس الفصل ص 92). هذه بعض ملامح كتاب «الأمير» لميكيافليي، ملامح يهمنا نحن المغاربة فيها أن نفهم جيدا المراجع النظرية لمغرب الجمر والرصاص، وركزنا فقط على علاقة الأمير بالرعية، وكيف ينبغي أن يعول كثيرا على ترهيبهم لضمان ولائهم، أما عن تدبيره للعسكر والولايات والثروات والوزراء والدين وغيرها من أمور الدولة، فإن ميكيافيلي سار على نفس النهج، ناصحا ومنبها وداعيا ومعلما، هكذا تتعدد أشكال الاستبداد وأزمنته وأمكنته، لكن يبقى للاستبداد جوهر لا تؤثر فيه مقولات «المتى» و«الأين» و«الكيف» بتعبير المناطقة، فكان ما كان وما سيكون من أمر تاريخنا السياسي غير العظيم، من سيادة الرأي الواحد والأشكال الوراثية للتداول على السلطة، بالإضافة إلى كل أشكال الوصاية على الشعوب، ففيما كان ميكيافيلي يحاول إقناع أميره بجدوى تعاليمه، سارع غيره من بني جلدتنا وملتنا إلى تلقف هذه التعاليم، وتطبيقها بطريقة مدهشة جدا على رعاياهم، ليبقى هناك سؤال مشروع: لماذا لم تلق أفكار الأنوار الأوربي نفس الهوس الذي لقيته أفكار ميكيافيلي؟ سؤال تتوقف عنده كل رهاناتنا المستقبلية، عندما سنلقي وراءنا مقولات الرعية ودولة الأمير وغيرها، لصالح مقولات المواطن ودولة الحق والقانون، وهي المقولات التي ستضمن عمليا عدم تكرار مآسي ماضينا غير المشرف.