خلال هذه الأيام وصل الخطاب السياسي الرائج إلى مستوى من الانحطاط الأخلاقي والفكري والسياسي، دفعني شخصيا إلى إعادة التأمل في علاقة الأخلاق بالسياسة، وطرح الإشكالية التالية: هل من الضروري ممارسة السياسة بدون أخلاق، أو بالتجرد من الكثير من الأخلاق والقيم، أم إن إعادة الاعتبار للسياسة تمر بالضرورة عبر إعادة الاعتبار للأخلاق في الممارسة السياسية؟ في كتابه "الأمير" يبسط ميكيافيلي مجموعة من الأفكار السياسية التي يصنفها البعض بأنها أفكارا واقعية بينما يعتبرها البعض الآخر أفكارا انتهازية، وخاصة مقولته المشهورة "الغاية تبرر الوسيلة" ودعوته لفصل السياسة عن الأخلاق. هذه الأفكار حولت إسم المفكر الإيطالي إلى صفة يوصف بها الانتهازيون والأنانيون ومن يوظفون جميع الوسائل مهما كانت درجة مشروعيتها لتحقيق أهدافهم و غاياتهم، رغم أن الأفكار التي عبر عنها مييكيافيلي كانت مرتبطة بسياق تاريخي معين حين اجتاحت الجيوش الفرنسية فلورانسا وأطاحت بحكم آل مديتشي. وقد أيد ميكيافيلي النظام الجديد وتنقل في وظائف حكومية كثيرة تحت ظل هذا النظام حتى وصل إلى منصب رئيس مجلس المستشارين في حكومة فلورنسا. وفي عام 1512 عاد آل مديتشي بدعم من البابا إلى فلورنسا وأحكموا سيطرتهم عليها وتم حل مجلس المستشارين، واعتقل ميكيافيلي بتهمة التآمر وعذب قبل أن يصدر عفو عنه من قبل البابا المديتشي ليو العاشر، ليعيش في عزلة، كتب خلالها مؤلفه الشهير "الأمير"، قبل أن يعود للأضواء مستشارا في مجلس المستشارين. الكتاب خرج من كاتب غيور على وطنه أراد أن يرى إيطاليا موحدة قوية، لذا قدم خلاصة تجاربه السياسية إلى الأمير (لورنزو دي مديتشي) .. ُيعلمه فيها كيف يحصل على السلطة ويحتفظ بها مهما كان الثمن. خمسة قرون مضت وما يزال كتاب "الأمير" يتمتع براهنية كبيرة و مازال قادرا على تفسير الكثير من سلوكات الفاعلين السياسيين من مختلف المستويات. ولذلك اعتبر ميكيافيلي من طرف البعض مؤسس مدرسة التنظير السياسي الواقعي حينما فصل بين السياسة والأخلاق مخالفاً بذلك أرسطو الذي لخص في كتاب "السياسة" الشروط التي يجب أن تتوفر في من يملك السيادة المطلقة: الإخلاص لنظام الدولة، الكفاءة لأداء المهام والوظائف، الفضيلة والعدالة بالمعنى الذي يتفق مع نظام الدولة. اعتبر مكيافيلي أن هدف السياسة هو المحافظة على قوة الدولة والعمل على توسيع نفوذها، وهذا لا يتم بوجود وازع ديني أو أخلاقي، حيث الغاية تبرر الوسيلة، ولهذا فقد أعجب ميكيافيلي بالحكام الذين توسع سلطانهم غير آبهين بأي رادعٍ كان، ومن تم قال موريس دوفيرجيه عندما قارن بين أرسطو ومكيافيلي: "لقد أوجد أرسطو الركن الأول في علم السياسة وهو اعتماد منهج الاستقراء والملاحظة، وأوجد ميكيافيلي الركن الثاني، وهو المنهج الموضوعي المجرد من الاهتمامات الأخلاقية". ولكن مكيافيلي مع ذلك شدد على أن الدولة القوية تقوم على وازعٍ أخلاقي، وإن استخدم الحاكم الوسائل المنافية للأخلاق للوصول لأهدافه، حيث أكد مكيافيلي أن ولاء المواطن مُرتبط بمقدار خدمته للمجتمع. في اعتقادي الشخصي أن أفكار ميكيافيلي جاءت في سياقات تاريخية وسياسية معينة تبرر الكثير من المواقف التي دافع عنها هذا المفكر ولا يمكن تعميمها كمجموعة قواعد نظرية حاكمة للممارسة السياسية في كل السياقات السياسية والاجتماعية المختلفة من حيث التوجه الحضاري والفكري. ومع ذلك يمكن القول بأن تأملات ميكيافيلي في رصد بعض السلوكيات البشرية وفي دراسة النزعات الإنسانية التي تشتغل بالسياسة تنسحب ربما على جميع البشر من جميع الأجناس والأعراق والحضارات. لكن أفكار ميكيافيلي كانت واضحة فهي تقدم نصائح للأمير من أجل الاحتفاظ بالسلطة سعيا وراء دولة قوية موحدة قادرة على مجابهة أعدائها... فالسلطة التي يسعى لتحقيقها هي سلطة حقيقية من أجل خدمة الدولة واستمرارها.... أما عندنا فقد أضحت النزعة الانتهازية- ولا أقول الميكيافيلية- ونزعة الارتزاق السياسي هي المحدد الرئيس للعديد من المنتسبين للأحزاب السياسية، وخاصة "مناضلي"أحزاب الربع ساعة الأخيرة، ممن لا أخلاق لهم ولا مصداقية، وليست لهم سمعة يحرصون عليها، ولا رصيد نضالي يستحيون منه، وليست لهم قدرة على مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل، فيكتفون بعرض خدماتهم لشن حروب بالوكالة نيابة على من يحركهم من وراء حجاب. من بين هؤلاء خرجت بعض الأصوات التي تحاول إرهابنا وقمعنا وإسكات أصواتنا بإصدار بيان منسوب لعائلة طالب جامعي توفي بجامعة فاس سنة 1993 تطالب فيه بمعرفة الحقيقة وتُعرِّض باسمنا في هذا البيان. لا أريد أن أدخل في تفاصيل قضية عمرها 20 سنة لأن هناك حكم قضائي في الموضوع، ولا علاقة لي بالموضوع إلا كوني أحد ضحايا الاعتقال التعسفي الذي ساد في الجامعة المغربية واستهدف نشطاء من مختلف الفصائل المعارضة آنذاك، قضيت على إثره سنتين كاملتين ظلما وعدوانا.. سنتين من المعاناة والحرمان وعمري آنذاك 22سنة، سنتين من الإحساس بالظلم الذي نزل كالصاعقة على عائلة لم تجرب أبدا الاحتكاك بالسجن والسجانين...لكن ثقافتنا الإسلامية تدفعنا لاعتبار ذلك الاعتقال من الابتلاءات التي تعرض لكل مسلم يحمل رسالة إصلاحية.. هيئة الإنصاف والمصالحة درست القضية وأصدرت مقررا تحكيميا يوضح ملابسات القضية وتفاصيلها ويقر بطبيعة الاعتقال التعسفي ويعيد الاعتبار الرمزي لكرامتنا، هذا الاعتقال لم نعمل أبدا على استغلاله أو توظيفه في عملنا السياسي أو الحقوقي.. بعض ضعاف النفوس وعديمي المروءة يحاولون اليوم المتاجرة بجثة رجل توفي قبل 20 سنة، تزامنا مع تعبيرنا على رأي دستوري في مقال "دفاع عن الدستور" نشر بهذه الجريدة.. ولازلنا مقتنعين بصوابيته إلى أن يثبت العكس.. وهنا أريد أن أبلغ رسالة لكل من يريد قمعنا وإرهابنا وإسكات صوتنا وإخراسنا عن قول الحقيقة: إنكم أخطأتم العنوان لأن مثل هذه الأساليب الدنيئة تكشف عن تفاهتكم ودناءتكم وحقارتكم وتزيد من اقتناعنا الراسخ بصوابية رأينا وإصرارنا على قول ما نعتقده صوابا اليوم وغذا ما دامت عروقنا تنبض بالحياة، ومادمنا منخرطين في مشروع للإصلاح لا نبتغي به سوى انتشال أمتنا من براثين التخلف والفساد والاستبداد... كما أخطأتم في الوسيط، لأن أشخاصا لا مصداقية لهم ولا خلاق لهم.. مثل هؤلاء بالضبط الذين اعتادوا على إرهاب ضعاف النفوس، هم بالضبط من يزيدنا إصرارا على التشبت بقناعاتنا وأفكارنا... نعم، نحن لسنا قوما متطرفين ولا غلاة متزمتين، كما لسنا مرتزقة منبطحين ولا عالة على بابكم متسولين... لسنا أنبياء ولا ملائكة معصومين، ومستعدون لمراجعة اجتهاداتنا وآرائنا، لكن بالحجة العقلية والأدلة المنطقية، أما أسلوب الإرهاب والتشنيع فهيهات هيهات.. أظن أن الرسالة وصلت.. وإن عدتم عدنا. "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون"