ودولة القانون هي شكل من أشكال التنظيم السياسي، تخضع في إطاره جميع سلطات الدولة، وبلا استثناء، للقانون، وذلك من خلال توفير الآليات والوسائل القانونية والمؤسساتية التي تمكن الأفراد من الدفاع عن حقوقهم الأساسية، والضغط على السلطة لأجل احترام هذه الحقوق؛ آليات ووسائل صارمة للمراقبة، تتمثل أساسا في الرقابة القضائية على أعمال الإدارة، إما بواسطة محاكم إدارية مختصة أو بواسطة القضاء العادي. لكن، السلطة الإدارية هنا ليست وحدها الملزمة بالامتثال للقانون، بل إن جميع السلطات، كيفما كانت، يتحتم عليها ذلك، بما فيها السلطة التشريعية، والتي تعد واضعة القانون ومنشئته، إذ يلزم المشرع ممارسة اختصاصاته في الحدود التي رسمها له النص الدستوري ولا يتجاوزها، وهنا أيضا، يكون تدخل القاضي ضروريا، لكن، هذه المرة قاض دستوري، يضمن احترام الدستور. لكن، مبدأ «دولة القانون» لا ينحصر فقط في خضوع جميع السلطات داخل الدولة للقانون، بل ثمة مجموعة من الشروط الأساسية لتحقق هذا المبدأ، وتتمثل أساسا في ضرورة وجود دستور ديمقراطي، يقوم على مبدأ الفصل بين السلط، بهدف حماية الحقوق والحريات وتجنب أي شكل من أشكال التعسف والاستبداد. وتلعب الرقابة القضائية دورا هاما في هذا الإطار. هذا المفهوم «الشكلي» لدولة القانون تم إغنائه بمعنى آخر مادي- أعطى للمبدأ معناه الحقيقي وجعله ينطبق على عدد محدود جدا من دول العالم- يتم بمقتضاه تكريس الحقوق الأساسية، كما هي متعارف عليها دوليا، حيت إنه ومنذ منتصف الثمانينات، سيعرف هذا المبدأ، انتشارا واسعا ليس فقط في القوانين الداخلية للدول، بل ومن خلال القانون الدولي كذلك، والذي يحفل بالعديد من المواثيق والمعاهدات والخطابات السياسية الدولية. لكن، الدول التي تبنت مبدأ «دولة القانون» في أنظمتها القانونية الداخلية، ستواجه تحديات جديدة؛ تتمثل أساسا في ضرورة إصلاح أنظمتها القانونية والمؤسساتية، وإعادة صياغة تشريعاتها الداخلية، و إنشاء محاكم جديدة، و خلق مؤسسات تضمن تحقيق استقلال الجهاز القضائي؛ وكلها إصلاحات تصب في إطار ما يسمى: بناء «دولة القانون». هذا البناء سيصطدم بواقع البنيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الهشة لهذه البلدان، والتي ستتحول فيها الدولة ضد مواطنيها، وقد تصبح نقمة عليهم، بعد أن كان من المفروض أن تكون حامية لحقوقهم وحرياتهم. أما بالدول النامية، الراغبة في إصلاح مؤسساتها وتشريعاتها الداخلية، فإن بناء وإقرار «دولة القانون»، وممارستها لمتطلباتها، من ديمقراطية وحقوق الإنسان، قد باءت بالفشل الذريع، بل إنها أعطت ردودا عكسية في الكثير من هذه البلدان؛ كالسودان والصومال، ورواندا، والكونغو، وهاييتي، وكمبوديا... إلخ؛ وكلها بلدان تعاني من الفقر وضعف البنيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتطاحن الفصائل العرقية أو الدينية بها، مما جعلها تعاني من حروب أهلية، حولت بلدانها إلى بؤر دموية، تنتهك بها حقوق الإنسان والحريات العامة، على مرأى ومسمع من الدولة، التي وقفت عاجزة على السيطرة على الأوضاع الداخلية لبلادها وحماية مواطنيها. إن ما يلاحظ بخصوص الإعلانات والخطابات السياسية الدولية والإقليمية، والأدبيات السياسية للمؤسسات المالية الدولية، وللجمعية العامة للأمم المتحدة ولبعض الأجهزة التابعة لها، هو كونها من جهة، استعملت مفهوم «دولة القانون»، بمعناه الضيق؛ أي ضرورة خضوع الدولة وجميع سلطاتها للقانون- وهنا القانون ليس فقط القانون الداخلي، بل أيضا القانون الدولي- وذلك باعتبار أن نظام «دولة القانون» هو الكفيل بحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية للمواطنين وحقوق الأقليات، المتعارف عليها دوليا. ومن جهة أخرى، وظفت مفاهيم ثمينة وغالية لدى المدافعين عن حقوق الإنسان والديمقراطية، مثل قدسية الإنسان ومحاربة الفقر والشرعية، مما جعل من مفهوم «دولة القانون»، بالقانون الدولي، بمتابة لواء مرفوع، وعلى جميع أعضاء المجتمع الدولي الالتفاف من حوله. وبذلك، أصبح لمبدأ «دولة القانون» بعدا جديدا، حين ربطت بينه وبين الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية ومفاهيم أخرى؛ مثل الحكامة الجيدة، وإقرار السلم والأمن، ومحاربة الفقر. لكن، السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما العلاقة بين «دولة القانون» وكل هذه المفاهيم؟ يرى مانحو المساعدات لدعم الإصلاحات القانونية والمؤسساتية الهادفة لترسيخ دولة القانون ونشرها بالأنظمة الداخلية للدول، بأن «دولة القانون»، تعد وسيلة أساسية لتحقيق الديمقراطية وترسيخ حقوق الإنسان ، وتعتبر عنصرا مهما لتحقيق الحكامة الجيدة وتعزيز الأمن والسلم ، بل إنها غدت في الآونة الأخيرة، وسيلة فعالة لتحقيق الازدهار الاقتصادي ومحاربة الفقر وتحقيق المساواة بين الجنسين. هناك تطورين أساسيين عرفهما مبدأ «دولة القانون»؛ الأول يتمثل في مدى توفر الآليات القانونية والمؤسساتية التي تجعل من الدولة وسيلة فعالة لحماية الحقوق والحريات الأساسية للأفراد، وتمكنهم من الدفاع عن حقوقهم وحرياتهم الأساسية، والضغط على السلطة لأجل احترامها؛ وهذه الوسائل والمؤسسات تختلف من دولة لأخرى، سواء في تسميتها أو في مضمونها. أما التطور الثاني، فيتمثل في انتقاله إلى القانون الدولي، وتكريسه بمواثيق وأدبيات المؤسسات الدولية، والتي استعملت مفهوم «دولة القانون» بمعناه الواسع؛ أي ضرورة خضوع الدولة وجميع سلطاتها للقانونين الداخلي والدولي، لأجل حماية حقوق الأفراد والحريات الأساسية، وضرورة توفر المؤسسات الإدارية والقضائية لتحقيق ذلك، كما أنها استطاعت أن تعطيه بعدا جديدا، حين ربطت بين هذا المبدأ ومبادئ أخرى لا تقل أهمية؛ كالديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية والحكامة الجيدة وإقرار السلم والأمن ومحاربة الفقر. وفي المغرب، شكل مبدأ «دولة القانون» والحد من تعسفها أحد أهم الإصلاحات التي جاء بها الدستور الجديد، حيت نجد، ومنذ التصدير، التالي «إن المملكة المغربية، وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل إقامة مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة . . .». « . . . إن المملكة المغربية، الدولة الموحدة، ذات السيادة الكاملة، المنتمية إلى المغرب الكبير، تؤكد وتلتزم بما يلي: حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء؛ حظر ومكافحة كل أشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي، مهما كان؛ جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملائمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة». وفي الباب الثاني عشر المتعلق بهيئات حماية حقوق الإنسان والنهوض بها، نص الدستور كذلك على مجموعة من المؤسسات، باعتبارها مؤسسات دستورية تعنى بحماية والنهوض بحقوق الإنسان والحريات، وهي: أولا- المجلس الوطني لحقوق الإنسان؛ وهو «مؤسسة وطنية تعددية ومستقلة، تتولى النظر في القضايا المتعلقة بالدفاع عن حقوق الإنسان والحريات وحمايتها، وبضمان ممارستها الكاملة، والنهوض بها وبصيانة كرامة وحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، أفرادا وجماعات، وذلك في نطاق الحرص التام على احترام المرجعيات الوطنية والكونية في هذا المجال» (الفصل 161). وقد حدد الظهير الشريف رقم 1.11.19 الصادر في 18 من ربيع الأول 1431 الموافق لفاتح مارس 2011، نظامه الداخلي، وقواعد تنظيمه وكيفيات تسييره وممارسته لاختصاصاته، وعقد اجتماعاته ومداولاته، وتشكيل وتنظيم مجموعات عمله ولجانه وهياكله الإدارية والمالية، وإجراءات تلقي الشكايات وشروط قبولها ومسطرة الاستماع إلى الأشخاص والأطراف المعنية، وشروط وكيفيات تسليم الجائزة الوطنية لحقوق الإنسان، وكيفيات تأليف اللجان الجهوية وعدد أعضائها وتنظيمها وكيفيات سيرها، وكذا كيفيات التصويت على القرارات التي يتخذها المجلس. كما كلف المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، في وقت سابق، بمتابعة تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، والواردة في تقريرها الختامي، بمقتضى الخطاب الملكي الموجه للأمة في 06 يناير 2006، بمناسبة انتهاء ولاية هيئة الإنصاف والمصالحة وتقديم الدراسة الخمسينية حول التنمية البشرية، والذي ورد فيه: «وإذ نشيد بالجهود المخلصة لهيئة الإنصاف والمصالحة، رئاسة وأعضاء، فإننا نكلف المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بتفعيل توصياتها، كما ندعو كافة السلطات العمومية إلى مواصلة التعاون المثمر مع المجلس، لتجسيد حرصنا الراسخ على تعزيز الحقيقة والإنصاف والمصالحة». وأكد الخطاب الملكي لعيد العرش في 30 يوليوز 2006 على هذا التكليف، حيث جاء فيه: «وضمن هذا التوجه، وافقنا على نشر التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة، غايتنا من ذلك توطيد الثقة في الذات، وقد أنطنا بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان متابعة تفعيل توصيات هذا التقرير، وأمرنا السلطات العمومية بتيسير إنجاز هذه المهمة، كل في مجال اختصاصه، بما يمكننا من ترسيخ دولة القانون وتحقيق الإنصاف». وتجسيدا لهذا التكليف، عمل المجلس على متابعة تفعيل التوصيات الصادرة عن هيئة الإنصاف والمصالحة، باعتماد تصور ومنهجية عمل تقوم على تحديد مجالات المتابعة والأطراف المعنية بها وأدوات العمل. وقد مكن ذلك المجلس من إحداث لجن متعددة التكوين، سواء من أعضاء المجلس أومن الجهات والقطاعات والمصالح الحكومية المعنية ومن فعاليات المجتمع المدني. ثانيا - مؤسسة الوسيط؛ الذي يهتم بالنظر في تظلمات الأفراد ضد الإدارة، من خلال خطوات جادة وعملية، في مجال تقييد تصرفات الإدارة وإخضاعها للقانون، وفي نفس الوقت حماية الحقوق والحريات الأساسية من تعسف السلطة. و»الوسيط؛ مؤسسة وطنية مستقلة ومتخصصة، مهمتها الدفاع عن الحقوق في نطاق العلاقات بين الإدارة والمرتفقين، والإسهام في ترسيخ سيادة القانون، وإشاعة مبادئ العدل والإنصاف، وقيم التخليق والشفافية في تدبير الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية والهيئات التي تمارس صلاحيات السلطة العمومية» (الفصل 162). فعلى إثر الحصيلة المتواضعة لمؤسسة ديوان المظالم، في تحسين العلاقة بين الإدارة والمواطن، ونظرا للدور الذي أضحى يضطلع به المغرب، على مستوى مؤسسات الوساطة الدولية، في نشر ثقافة الحكامة الإدارية، وإلى جانب التطورات المتلاحقة التي شهدها العالم العربي مؤخرا، والمغرب بصفة خاصة، وفي سياق محاولة الاستجابة للأصوات الداخلية والخارجية، المطالبة بإصلاح وتأهيل المنظومة المؤسساتية، وجعل الإدارة في خدمة المواطن، اقتنعت الدولة المغربية بضرورة تطوير ديوان المظالم، عبر تقوية دوره في حفظ وصيانة الحقوق والحريات، وتدعيم تطبيق مبادئ العدالة والإنصاف. وتمارس مؤسسة الوسيط اختصاصاتها، في نطاق تحسين العلاقة بين الإدارة والمواطنين، سواء الذاتيين أو الاعتباريين، مغاربة كانوا أو أجانب، فرادى أو جماعات، وكذا بين الإدارات العمومية والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية والهيئات التي تمارس صلاحيات السلطات العمومية، وباقي المؤسسات الخاضعة للمراقبة المالية للدولة، والتي يشار إليها في الظهير الشريف باسم «الإدارة «. ثالثا - مجلس الجالية المغربية بالخارج؛ و»يتولى على الخصوص، إبداء آرائه حول توجهات السياسات العمومية التي تمكن المغاربة المقيمين بالخارج من تأمين الحفاظ على علاقات متينة مع هويتهم المغربية، وضمان حقوقهم وصيانة مصالحهم، وكذا المساهمة في التنمية البشرية والمستدامة في وطنهم المغرب وتقدمه» (الفصل 163). ويعمل مجلس الجالية المغربية بالخارج على بلورة إستراتيجية وطنية، تأخذ بعين الاعتبار حاجيات أفراد الجالية المغربية، والنظر إلى مختلف القضايا التي يواجهونها في بلدان المهجر وفي المغرب، عبر تعبئة كافة القطاعات الحكومية والمؤسسات الوطنية، من أجل ضمان حقوقهم وحمايتها، أينما تواجدوا، وذلك من خلال التنسيق مع مختلف الدول المستقبلة للهجرة المغربية ومختلف الفاعلين الدوليين في ميدان الهجرة، عن طريق نهج سياسة تشاركية وتعاونية وحوار جاد وبناء، من أجل تقريب وجهات النظر والدفاع عن مواقف المغرب وانشغالاته، فيما يتعلق بحقوق المغاربة المقيمين في الخارج.